مجلة الرسالة/العدد 305/من أدب الغرب
→ المدرسة الابتدائية | مجلة الرسالة - العدد 305 من أدب الغرب [[مؤلف:|]] |
الدعاية الإسلامية ← |
بتاريخ: 08 - 05 - 1939 |
للأستاذ فليكس فارس
كنت أقلب رزماً من أوراقي القديمة فعثرت على صفحتين
خطهما قلمي منذ عشرين سنة حين كانت الحرب العامة ترمي
على الدنيا آخر رجومها وتطرح بالأوشحة السوداء على
هامات الأرامل والأيتام
وهاأنذا أنقل للرسالة ما ورد في هاتين الصفحتين، ولعل السريرة الخفية قادت يدي إليهما لنشرهما في هذه الأيام. . .
(هذه قصة كلها شعور وجمال قرأتها في إحدى الصحف التي ترد إلى غرفة الاستخبارات من المقاطعات الفرنسية المحتلة فوقفت عندها أتنصت منها إلى قلب الإنسانية خافقاً على جبهات النار تحت وابل القنابل وهواطل الشرر
هذه صفحة كتبها إنسان برئ حساس تقوده العاصفة إلى المجزرة ليمسى قاتلا أو قتيلاً
هذه قصة جندي على سيفه جريمة الحرب وعلى قلمه صرخة الإنسانية أترجمها واطرحها بين دفينات أوراقي)
حلب في غرة يناير 1918
ف. ف
وكان يوم عصيب في تاهور!
بذلنا كل ما في وسعنا من جهد في المعركة ونحن الآن نتوقع صدور الأوامر للعودة إلى النار
لم نتمتع بالراحة إلا يوماً واحداً فكفانا هذا التوقف عن العراك لنشعر بانحطاط قوانا وارتخاء أعصابنا
وصلنا إلى المعسكر فأشعلنا النار وقعدنا حولها لننشد بعض الأغاني العالقة بالذكر منذ الطفولة فخيل إلينا أننا نعود إلى أوطاننا على نغمات هذه الأناشي وكان أحدنا يعزف على الأرمونيكا فيسود أنينها ما حولنا من أجواء عافية نحشد عليها تذكاراتنا وآمالنا
وشعرت بيد ناعمة الملمس تمر على جبيني وسمعت صوتاً مرتجفاً حسبته في غمرات تذكاري صوت أمي الشيخة العليلة تناديني من بعيد قائلة:
- مسكين، الولد الصغير
والتفت فرأيت ولداً لا يتجاوز الخامسة من عمره يلبس جلباباً واسعاً وقبعة صغيرة وكان يحدق بالنار وعيناه السوداوان تلتمعان وهو يكرر قوله:
- مسكين، الولد الصغير!
فهتف الرفاق: آه! هذا فرنسي صغير.
وتقدم جندي شيخ إلى الطفل فرفعه وأجلسه على ركبتيه، وبدأ يلاطفه ويلاعبه فزالت سحابة الخوف عن سحنة الطفل فإذا هو يضحك ويلعب.
وجاء وقت تناول الطعام فقدم الجنود له شيئاً من البطاطس، وجرعوه قليلاً من القهوة وكنت الفائز باكتساب ثقته إذ قدمت له قطعة من الحلوى وكلمته بلغته فقال لي: إن أباه ذهب إلى الحرب، وإن أمه ماتت منذ شهور. وكنت أترجم للرفاق حديثه، وهو يورده بلغته، ويدس في كلامه بعض ألفاظ ألمانية علقت بذاكرته منذ احتل الألمان مقاطعته؛ وقال إن اسمه أميل بوفيه فأسميناه كوكو الصغير.
ولما حان وقت انصرافنا إلى مضاجعنا تمسك الطفل بي طالباً أن ينام معنا فحملته وذهبت به إلى بيته.
وعندما اجتمع الجنود في اليوم التالي رأيت الطفل يدخل في حلقتنا مفتشاً عني وهو يقول: كوكو الصغير.
وما كان وجود القائد بيننا ليمنع كوكو من القيام بحركاته، وألعابه وعندما ذهبنا إلى ضاحية القرية لإجراء التمرينات العسكرية لحق بنا حتى آخر حدودها.
وكان كوكو يباكرنا كل يوم فيقف مسلماً برفع قبعته ثم يبادر إلىّ ويمسك بيدي ليتبعني، وأنا أمشي مع الفرقة. وبعد العودة من التمرين كان الطفل يدخل معي إلى مرقد الجنود ويلتف بطرف دثاري مستسلماً للكرى. وهكذا أصبح هذا الطفل يلازمني ملازمة خيالي؟ وما منعه تودد الجنود إليه من الاحتفاظ بتفضيله لي، فكان يصافح رفاقي فرداً فرداً إلى ان ينتهي إليّ فيطوقني بذراعيه الصغيرتين ويقبلني تكراراً، أنا الغريب. . . أنا العدو! ويطرح جسمه الناحل على صدري.
وجاء يوم السفر. انتهت أيام الراحة وحان وقت العودة إلى الجهاد، فقلت للطفل وكان جالساً أمامي في الباحة الواسعة عند المساء: غداً سأسافر قلت هذا متكلفاً السكون وفي قلبي ثورة وغصص، فهب الطفل من مقعده مضطرباً هاتفاً:
- ولكنك ستعود
- لعلني أعود
- متى؟ بعد غد؟
- قد لا أعود أبداً
فصرخ الولد مذعوراً: أبداً. . . لا. لا أريد، فسوف تبقى وطوقني بذراعيه كأنه يريد تقييدي
وامتنع كوكو ذلك المساء عن الذهاب إلى بيته فرجوت مربيته الشيخة أن تسمح له بالبقاء عندي فرضيت وقالت:
- إن أمه قد انتحرت شنقاً هنا وراء هذا الباب بعد سفر أبيه إلى الحرب إذ لم يقو دماغها الضعيف على مقاومة هذه الصدمة وأمضى كوكو ليلته مضطرباً فكان يتقلَّب ويهذي مردداً الاسم الذي لقبته به
وعند بزوغ الفجر نهضنا من الرقاد وبدأنا بإعداد لوازم السفر على نور الشموع المرتجف، وكان كوكو جالساً يتبع حركاتي وسكناتي بلفتاته الواجفة
ولما هممنا بالخروج هرع الطفل إلىّ قائلاً:
- ستعود
فأجبته متمالكاً روعي: أرجو أن أعود
وسحب يده الصغيرة من يدي وتولى. وبينما كنت سائراً مع رفاقي في الساحة كان الولد يتقدم نحو مسكنه يتوقف أحياناً دون أن يلتفت إلينا
وقطعنا القرية بخطواتنا العسكرية فكانت تفتح النوافذ وتلوح منها أوجه المتفرجين عليها مسحة الوسن وفي الأعين جمود وبرود وشعرت بغتة بوصول قادم لقربي وهو يلهث تعباً ويقول:
- كو. . .
وما تمكن الطفل المسكين من التلفظ بالقطع الأخير من اسمه ومددت يدي إليه فخنقته العبرات واندفع مرتمياً على منحدر التله وغلبه الأسى فأخذ يفرك عينيه براحتيه
وناديته: أي كوكو الصغير
ولكن صوتي لم يصل إلى مسمعه إذ ضاعت نبراته في صرخة القائد:
- هيا إلى الأمام!
واندفعت الفرقة إلى المجهول
الوداع أيها الصديق الصغير، أيتها البسمة الأخيرة من ثغر الحياة. . .
وبينما كان وقع خطواتنا يرن في أذنيَّ كنت أشعر بيد من حديد تربط على قلبي، تلك يد الإشفاق على الطفل اليتيم وعلى الإنسانية وعلى نفسي!
هنريك أولكه
جندي من لاندشروم
من يعلم ما حل بهنرك أولكة منذ عشرين عاماً؟ لعله قضى قتيلاً يوم كتب هذا المقال. ولعله لم يزل حياً في العقد الخامس من عمره، وقد يكون ابنه جندياً في هذه الفيالق الجوية فيأمر غداً بإسقاط القنابل والغازات على المدن الآمنة
والحق إن الإشفاق قد بلغ حداً بعيداً في آفاق الروح الإنسانية
لقد كان الرجال ينازلون الرجال حتى اليوم فتبقى النساء والأطفال في مهامه الترمل واليتم. فعلى المدنية الراقية أن تحول دون هذه الجناية. عليها أن تخنق المرأة قبل أن تترمل والطفل قبل أن يتيتم. . .!
فليكس فارس