مجلة الرسالة/العدد 305/قالوا: سكت؟
→ نقل الأديب | مجلة الرسالة - العدد 305 قالوا: سكت؟ [[مؤلف:|]] |
نجوى موسيقية (سيرانادة) ← |
بتاريخ: 08 - 05 - 1939 |
للأستاذ أمجد الطرابلسي
قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا ... في مسمع الأكوان رَجْعُ غنائي
غنَّيتُ في أُذُن النهار سعادتي ... وهمستُ في قلب الظّلام شقائي
وَوَعتْ أناشيد الطيورُ وردّدتْ ... همسي الخفَّي كواكبُ الظّلماء
فسلوا الجداولَ عن غِناء مياهها ... هل غير ألحاني غناء الماءِ
وسلوا الخمائلَ عن ندى أزهارها ... هل غير دمعي لؤلؤ الأنداء
والورد والشّفَق المُخَضّب واللّظى ... هل هُنَّ إلا من وَميضِ دِماء
والبحر هذا الهادي الصَّخّاب هل ... أمواجُه إلا صَدى أهوائي
والريح هل هبَّاتها بعد الونى ... إلا انبعاثي بعد موت رجائي
اللّيلُ والأرماسُ بعضُ كآبتي ... والفجرُ والأعراسُ بعض هنائي
والعِيدُ صورةُ فَرْحتي ومبَاهِجي ... والبِيدُ صورة وَحْشتي وفَنائي
والرعد يحكي ثورتي في قَصفه ... وزفيفُ أجنحة الطّيور رضائي
ولقد مَلأتُ الفُتون جَوانحي ... وطويت فوق فنونه أحنائي
وكرعتُ أكوابَ الجمال ولم أزل ... أشكو له نَهَمي وحرَّ ظِمائي
أحببتُ ما شاء الهُيام وشاء لي ... قلبٌ غمرت بحبِّهِ أعدائي
قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا ... ما في يد الينبوع حبسُ الماء
خُلِقَ الرّبيع مُصَوِّراً في كفّهِ ... قَلَمُ الأديب وريشة الوشاء
ما دغدغ الأغصانَ أو لَمَسَ الرُّبى ... إلا ضحكنَ تَضاحكَ العذراء
وَرَفَلْنَ في أفوافِ وَشْىِ بَنانِهِ ... متبرّجاتٍ أو ذواتِ حياء
فسلوه: هل يستطيعُ إبداعَ الأسى ... فعلَ الشّتاء الواجم البَكّاء؟
والزهر، هل يستطيع في أَلَق الصِّبا ... ضَنُّا بنفحٍ عاطرٍ وذكاء؟
والشمس هل تستطيع في رَاْدِ الضُّحى ... أَلاّ تجودَ بباهر الأضواء؟
لكنْ هَزَارُ الرّوض ليس يهيجه ... للشّدْو صُمت دُجُنَّةٍ نكراءِ
ما حيلةُ الشّادي الرفيقِ غناؤه ... بمسامع تَلْتَذ بالضّوضاء؟! يشدو فيعصر في اللحون فؤادَه ... كيما يؤوبَ ببسمة استهزاء!. . .
قالوا: سكتّ عن الغناء؟ فقلت: بل ... عن أّن أُريقَ على الجحودِ وفائي!
أمّا الغنِاءُ فقد جرت نَغَماتُهُ ... مَجرى دمي الدَفّاق في أعضائي
حَسبي من الألحان قلبٌ لم يذقْ ... بين الأضالع هَدْأَةَ الإِغفاء
غَرِدٌ كما هَبّ النّسيم وتارةً ... كالزّعْزَعِ المجنونةِ الهَوْجاء
رَحْبٌ تَموجُ به اللُّحون كأنها ... من كلّ أرضٍ جُمَّعتْ وسماء
أبداً ترفُّ به ملائكةُ الهوى ... هذا بمزمار وذاك بناءُ
ومواكبُ الجِنّانِ تعصف وسْطه ... وتضجُّ تحتَ الرّايةِ الحمراء
ما ضرّني إن كنتُ عِنْدِي شاعراً ... ألاّ يَعدّوني من الشّعراء
لا كان قلبي إن طلبتُ بذوبِهِِ ... من كفّ هذا الدهر بعضَ جَزاء!
لا كان شعري إن رفعتُ لواءه ... بين الأنامِ على رُفات إبائي!
يستعبدونيَ ويحهم! وأنا الذي ... حَطَمَ القيودَ تَمَّردي ومضائي
حلَّقتُ أرمقُ من بعيدٍ ساخراً ... ذلَّ العبيدِ الراسفينَ ورائي
هم يصنعون قيودَهم بأكّفهم ... وأنا أمدُّ لجانحيَّ جوائي
عشقوا القيودَ كأنما هي حليةٌ ... ذهبيةٌ في معْصَم الحسناءِ
واستعذبوا سوطَ القويّ يؤزُّهم ... في كلّ صبحِ ناعمٍ ومساءِ
فتمرَّغوا شَغَفاً على أقدامهِ ... كي لا يَضنَّ بهذه النَّعماء
لولا غرامُ القيد لم تكن الدُّنا ... هذه الُّسجونَ تضيقُ بالسجناء
لولا التَّلَذُّذُ بالأذى ما ألهبتْ ... تلك السياطُ نواصِيَ الضَّعفاء
يا من يريدُ تحرّراً من قِدِّه ... هلاً بدأتَ بنفسك الشّوهاء
هي بالقيودِ مؤودةٌ لكّنها ... ما إن تحسُّ لحرَّها بعَناء
إني نظرتُ إلى العَبيدِ فلم أجد ... رقّا كرقّ النّفس والآراءِ
فأشمخْ بأنفكَ رفعةً وتمرُّداً ... وذرِ النفاقَ ولا تَدِن بِرياء
وأتركْ لصيحاتِ الطبول فراغَها ... واسخر من العظَماء والكُبَرياء
فإذا قيودُكَ قد هوت من نفسها ... عن ساعِدَيْك هشيمةَ الأشلاءِ قالوا: سكتَّ عن الغناء؟ فقلت: لا ... في مسمع الأكوان رَجْعُ غنائي
قلبي لقد وسعَ الحياةَ جميعَها ... من شقوةٍ وسعادةٍ وهناءِ
والكونُ لحني كله رَتَّلتُهُ ... في نشوةِ الإصباح والإمساء
ألفْتُهُ من آهتي وتَبَسُّمي ... فاستنشدوه يُعِدْ لكم أصدائي
(باريس)
أمجد الطرابلسي