مجلة الرسالة/العدد 305/التفاؤل والتشاؤم أيضا
→ أعلام الأدب | مجلة الرسالة - العدد 305 التفاؤل والتشاؤم أيضا [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 08 - 05 - 1939 |
ً
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إذا كان لقائلٍ قولان: قول ينم عن تفاؤل، وآخر ينم عن تشاؤم، فليس من إخلاص الناقد للأدب أو للإنسانية أو للقائل أن يشير إلى اليأس في بعض قوله وألا يذيع الأمل في بعضه حتى ولو كان الأمل في الأقل من قوليه؛ فإذا كان الأمل في أكثر القولين أو إذا تعادلا كان إخلاص الناقد أقل. ومعاذ الله أن أقول إن الدكتور أدهم غير مخلص للأدب، وإنما يجيء البعد عن الإخلاص من الإسراع في النقد من غير تدبرٍ لهذه الحقائق أو من غير قلة التقصي والبحث التي هي صفة عامة في الناس تظهر في أحكامهم على أكثر الأمور. والناس في ذلك سواسية لا فرق بين عادل وظالم، ورفيق وغير رفيق، وعاقل وغير عاقل. وإني أحمل حكم الأديب الفاضل على هذه الصفة العامة في الإنسان وأقول إنه إذا كان لقائل قولان، وكان أحسن قوليه في التفاؤل فمن الواجب إذاعة هذا القول ولا سيما أنه ليس تفاؤله بالقليل المنزور. ولا نحسب أن منصفا يقول أن ما ذكرنا من الشواهد ليس من أحسن ما قلت؛ وسواء أكان في نفسه حسناً إذا قورن بقول غيري أم غير حسن، فهو إذا قورن بما وصفه الناقد بالتشاؤم في قولي أجود وأحسن وأليق بأن يذاع إذا كانت هناك ضرورة للإذاعة والنشر والنقد، ولم ير الناقد أن من الخير اندثاره كله بما فيه من جيد ورديء، ومن تفاؤل وتشاؤم. وفي قولي من الرديء ما أسفت لنشره.
ولم أذكر جميع الشواهد والقصائد التي تثبت ما فصلته في مقالي السابق، ففي قصيدة (مصارع النجباء) أيضاً أمل وتفاؤل وطموح ومنها:
إنّ الحياة جمالها وبهاءها ... هبةٌ من النجباء والشهداء
لولا طماح الحالمين وهمهم ... بقي الورى كالتربة الغبراء
الحالمون بكل مجد خالدٍ ... سامي المنال كمنزل الجوزاء
الشائدون الهادمون ذوو النهي ... والعقل أعظم هادم بناء
الخالقون المهلكون الشاعرو ... ن المرسلون بآية غراء
فحياتهم وفعالهم ودماؤهم ... مثل الهدى وكواكب الإسراء وأرجوزة (قوة الفكر) وقد نشرت
في المقطع وفي الجزء الخامس تدعو إلى تقديس مظاهر الفكر في الحياة والتفاؤل حتى بالخطوب التي يسببها الفكر ومنها:
إن الخطوب سنةُ التجدد ... فلا ترعْ من سهمها المسدد
وأول الفكر الكبير خطبُ ... ثم يظلُّ خيره يُربُّ
وقصيدة (عبث الشكوى) في عنوانها ما يدل عليها. وقصيدة (أبناء الشمال) تدعو إلى السعي والعمل والأمل ومنها:
هُم لداعي السعي والآ ... مالُ عمال عجالُ
تعرف البيداء مسعا ... هم وتنبيك الجبال
وقصيدة (صوت الله) تدعو إلى الاطمئنان إلى إرادة الله في الحياة وإلى الالتجاء إليه ومنها:
وإنما نفس الفتى معبد ... يضيئها الله بنور عميم
وقصيدة (جهاد المصلحين) تصف ما يعترض الناس عامة من ترك آمال الإصلاح ومساعيه وتدعو إلى التشبث بها ومنها:
ترى دنس الأشياء رؤية آلفٍ ... يرى أن أحلام النفوس لغوب
يظن جهاد المرء في العيش ضلة ... وأن مساعي المصلحين تخيب
يرى أن خير الكون ما هو كائنٌ ... ووحي النفوس السامياتُ مريب
ويحسب أن الشر ضربة لا زبٍ ... وأن أساليب الحياة ضروب
ويصبح في مجرى الحوادث ريشةً ... تجوب به الأيام حيث تجوب
ويطفئ نور النفس حتى كأنما ... دواعي النفوس الساميات عيوب
فلا تعجبنْ إن الشرور كثيرةٌ ... ولكن يأس العاملين عجيب
وقصيدة (سنة العيش) تصف أمل المصلحين في أن تلطف طباع الحرص والشر في النفس وتصف كيف أن فشل المصلحين ينبغي ألا يعوق عن الأمل ومنها:
طبعٌ قديمٌ سينضو المرء خلعته ... مثل الأديم نضته صمه الصممِ
لا بد من فشلٍ من بعده فشلٌ ... حتى يفيق سواد الناس من صممِ
لا يسعد الناس سن الحرص سنتهم ... حتى يُطهرَ داءُ الحرص بالندمِ
وقصيدة (البطل المنتظر) تصف صلاح أمور الناس وتصف تفاؤلهم وأملهم وعملهم بعد الركود واليأس ومنها: تُمردُ هورٌ والحياةُ كآجنٍ ... أمر وقدما كان وهو طهورُ
إلى أن يحل الغيث حبوه مائه ... فيترع منه جدول وغدير
كذلك حال الناس فالناس آجن ... مرير وماء النابغين نمير
وبارقة تجلو الظلام وصاعق ... يشب لهيباً والأنام قشور
فيضطرم القلب الذي كان خامداً ... ويصبح روض النفس وهو نظير
وتعظم نفس المرء حتى كأنها ... عوالم فيها الكائنات تدور
وقصيدة (الإيمان والقضاء) تصف أثر الإيمان في بعث القوة والأمل في النفس ومنها:
كنفٌ مانعٌ وظلٌ ظليلٌ ... وشرابٌ يشفي أوام الظماء
وهناك مقطوعات كثيرة مثل:
كل ما في الوجود مما يريق ال ... دمع أو يستميح شجو الرحيم
كل شرٍ مهما تعاظم لو قد ... س بشأن الوجود غير عظيم
فليست للتفاؤل عقيدة أعظم مما في هذين البيتين. وقصيدة: (الحياة والفنون). كلها تفاؤل بجمال الفنون في الحياة ووصف لجمال كل فن من الفنون الجميلة والفنون النافعة وأولها:
جملكِ الله يا حياة كما ... جمل وجه السماء بالشهب
والدعوة إلى بلوغ النفس غايتها بالطموح منتشرة في أكثر القصائد كما في قصيدة (غل السرائر). ومنها:
وإن رضاء النفس ما ينبغي لها ... وليس رضاء النفس ما هو كائن
وفي قصيدة أخرى:
والندب يحمل بين جنبيه الدنى ... روعَ الغريب وراحةَ المألوف
إن الذي درس الزمان وفعله ... لأجل من حدث الزمان الموفي
ويشيم أسرار الحياة بحكمة ... تُعدى على المجهول والمعروف
وفي قصيدة (العظيم) وصفٌ لاستنباط فضائل النفس من تجارب الحياة حتى تجارب الشر والشقاء. ومنها:
وفضائلٌ ليست لغير مجرب ... إن التجارب حجة الرجحان
وأرجلُ خير النفس بعد بلائها ... فالعيش حرب فضيلة الغفلان وفي قصيدة (الشمطاء الفتية) وصف للرجاء الذي هو عبادة وللاعتقاد الذي تزيده الأرزاء:
نصبٌ خالدٌ وأعظم منه ... اعتقادٌ تزيده الأرزاءُ
ورجاءٌ هو العبادة والإيم ... ان درعٌ يرتد عنه الفناءُ
وقصيدة (العدل والكسب) تصف كيف أن الأمل والصبر أعظم حتى من العدل:
فطوبى لمظلوم رأي العدل معوزاً ... قضي أن فوق العدل صبر المحارب
وفي (حقوق الفرائض) تقديم للفروض على الحقوق، وما تستلزمه الفروض من أمل وعمل:
لن يبلغ المرء العُلى بحقوقه ... إلا إذا بلغ العلي بحقوقها
وقصيدة (البطل) تصف ما يكون من أثر الأمل والعمل في مجرى الحوادث والأقدار ومنها:
ترمي الحوادث بالظلال أمامها ... فترى خُطى الأمر الذي هو آتي
يا راكب الأيام تجري تحته ... مأموقة الخطوات والعداوات
إن المقادر تنتحيك لأنها ... ريضت لديك بحكمة وحصاة
كالخيل تعرف رائضاً ومذللاً ... عند اعتقاد السرج والصهوات
وهذه الشواهد كلها شواهد جديدة لم نشر إليها في المقال السابق. ولو شاء الناقد الفاضل الزيادة زدناه ولكنا نختم هذا المقال بالأبيات الآتية أولاً في وصف أمل النفس في أن تتغلب جهود الشباب على طاغوت الحياة وهذا غاية التفاؤل:
ويُذلُ طاغوت الأمور فتغذي ... شرع الحياة شريعةُ الرحمن
وثانياً في وصف تفاؤل النفس واعتقادها فجراً للإنسانية مستقبلاً:
وأملتُ للدنيا صباحاً مؤجلاً ... سيكشف عنها ظلمة الضيم والشر
فكل صباح رمزه ومثاله ... ووعد به يحدو إلى الزمن النضر
نُسرُ بنعماه وإن لم تكن لنا ... وننشده فيما يكون من الدهر
وثالثاً في وصف الاستبشار بقبول الشقاء لتحقيق سعادة الإنسانية المقبلة:
أيفدح أن تقاسوا العيش نحساً ... ليسعدً بعدكم صحباً وآلا
وكم من نعمة لولا شقاءٌ ... قديماً لم تكنْ إلا وبالا
فكم خبرَ الأوائل من شقاء ... فنلنا من شقائهمُ نوالا ورابعاً في أن السعادة واللذة شعور لا يستقيم إلا إذا شعر المرء بالألم:
لا يطعم السعد الشهي وشهده ... من لا تورد فؤاده الآلام
وإذا أراد الأستاذ الفاضل زيادة من شعر التفاؤل فإنه يجده كما في قصيدة (حياة جديدة) ومنها:
تلك قلوبٌ كأنها قبسٌ=يضئ دجنً القضاء والغيب
قد آمنت بالعلاء واعتقدت ... كما يقنا الإله في الحجب
وكما في قصيدة الباحث:
عشت دهري بالبحث والأمل الحل ... وولولاه لم أرحْ بالنجاء
من سهام المنون إن صروف ال ... دهر فينا كثيرة الإصماء
أنشد الحق بالتقلبِ في العي ... ش وأبغي سريرة الأشياء
وقد قلنا قديماً إن في النفس البشرية قوة تستطيع أن تحول التشاؤم إلى غرض من أغراض التفاؤل، وإلى قوة من قوى الاستبسال في طلب الأمل (إنما اليأس سبيل للمنى). ونعود فنقول إنه من الإخلاص للأدب أو الأديب أو الإنسانية ترك أحسن ما في قول القائل. وهذا قول لا ننعت به الناقد الفاضل
عبد الرحمن شكري