مجلة الرسالة/العدد 304/من برجنا العاجي
→ المرأة في حياة الأديب | مجلة الرسالة - العدد 304 من برجنا العاجي [[مؤلف:|]] |
أعلام الأدب ← |
بتاريخ: 01 - 05 - 1939 |
قرأت لك في مقال أنك تساعد ناشئة الأدب. واشترطت لذلك شروطاً. وإني راض بها واليك ما يزيدك معرفة بي: أني قراض تذاكر. أجري ضئيل يبلغ 120مليماً في اليوم. وإطلاعي محدود. وذلك ناتج عن فقري. لا أقرأ غير الرسالة والرواية والثقافة. ولم أقرأ من الكتب غير بعض مؤلفات المنفلوطي وكتب أخرى. وكانت كتاباتي جيدة في الموضوعات الخيالية فقط. ولكني منذ بدأت أتأثر بكم تغلبت طريقتكم علي. وأنا قوي الذاكرة وأميل إلى التفكير. وأستطيع أن انفق في شراء الكتب الأدبية ما يقرب من نصف الجنيه شهرياً كما أني أستطيع أن أختلس للأدب خمس ساعات يومياً. لعل في هذه الإيضاحات ما يهون عليكم أمر مساعدتي على السير في طريق الأدب الذي تصفونه بأنه وعر شائك. ولقد زاد إغرائي به ما نشرتموه في (الرسالة) من تحذير للشبان من الاشتغال به في هذا العصر. . .!
نشرت هذه الرسالة التي جاءتني ضمن عشرات الرسائل في هذا الموضوع لسبب واحد: هو عجبي وإعجابي بقارىء تلك حاله. يبذل عن طيب خاطر سدس مرتبه الشهري وقسطا وافراً من وقته في سبيل الأدب. إنه ذكرني بقراء أوربا. أولئك الذين يخصصون جزءاً ثابتاً في ميزانياتهم للكتب ووقتاً منتظماً معلوماً للقراءة. مثل هؤلاء القراء هم الذين قامت على أكتافهم نهضات أوربا الأدبية. وهم الذين ظهر من بينهم أدباء أوربا العظام. فأن الأديب لا يتخرج في مدرسة. إنما ينبت في حقل الكتب والمطالعات الشخصية. وفي الأدب الفرنسي الحديث مثل صارخ لأديب من أصل بلقاني هو: (باناييت استراتي) لم يكن يعرف الفرنسية ولكنه غرق سنوات في المطالعة وضنّ بماله القليل على الطعام وأنفقه في شراء كتب جعل يلتهم صفحاتها التهاماً. وإذا هو في يوم من الأيام قد استطاع الكتابة بالفرنسية وإذا هو كاتب معروف يربح من كتبه الألوف. أعطوني إذن ألفين من طراز هذا القارئ وأنا أضمن لمصر نهضة أدبية رائعة وأدباء جددا يسيرون في طريق المجد.
توفيق الحكيم
التفاؤل والتشاؤم في الشعر
للأستاذ عبد الرحمن شك إذا درس الإنسان في التاريخ اندثار الحضارات والأمم وتمكنت تلك الدراسة من نفسه لا يروعه زوال عمل عمره كما كان يروعه لو لم تتمكن ذكرى مشاهد ذلك الاندثار من نفسه، ومن أجل ذلك كنت قد طبت نفساً عما بذلت من جهد وعمل في الأدب وفي غير الأدب. لكن بعض الأفاضل لا يكتفون مني بذلك بل يريدون أن يغالوا في انتقاص ما قدَّمت من عمل، وبعضهم لا يكتفي بانتقاص عملي ويأبى إلا أن يتخطاه إليَّ. وليسوا كلهم من هذا القبيل، فبعضهم أو أكثرهم يستهويه غيره فيتكلم أو يبدأ في منطقه وتفكيره من العام إلى الخاص فيضع رأياً نظرياً أولاً ثم يلتمس الشواهد ويفسر الأمور على أن تكون أدلة لرأيه، وكان الأليق به أن يتقصى معرفة الأمور أولاً ويستخلص من شواهدها الشاملة الكاملة رأياً. لكن حضرات الأفاضل النقاد كثيراً ما يخادعون أنفسهم ويظهرون الغيرة على الرأي لا حباً للحق وللصواب.
والذي يريد أن يضع رأياً ثابتاً عاماً، إن كان في هذا الوجود أمر ثابت لا يتغير، ينبغي له أن يُفْنِي جزءاً كبيراً من عمره للتقصي والبحث والإلمام بكل ناحية من نواحي الموضوع حتى لا يكون حكمه مخطئاً. والأساتذة الأفاضل الشبان يحسبون أنهم قد قتلوا الموضوع بحثاً وأن إدراكهم له أكثر من إدراك الشيوخ؛ فهم إذا تكلموا عن التفاؤل والتشاؤم في قول - ناثر أو شاعر لم يميزوابين أثر الحالات العارضة الزائلة، وبين نظره إلى مستقبل الإنسانية؛ ولم يفرقوا بين التشاؤم الذي هو تثبيط وبين التشاؤم الذي هو استحثاث للهمم؛ ويحسبون أن كل وصف للشقاء تشاؤم كأنهم لا يعرفون أن الغفلة عنه والتفاؤل بها هو تشاؤم أحَرُّ من التشاؤم، ويخلطون بين ما تظهره الدراسات النفسية السيكولوجية من حقائق مُرة وبين التشاؤم. كأنهم يريدون أن يبقى الناس على جهلهم بنفوسهم، وهذا هو التشاؤم حقاً؛ وإنما يكون التفاؤل أن تعرف النفس نفسها، وأن يكون لهذه الدراسة والمعرفة أثر في صلاحها ورقيها؛ وهم أيضاً لا يميزون بين ما قد يدعو إليه شعر العاطفة والدراسات النفسية من وصف حالات النفوس على اختلاف تلك الحالات من حسنة وكريهة، لا دعوة للتثبيط بل دعوة إلى أن يكون الشعر شعراً حيًّا لا أدباً ميتاً متكلفاً للتفاؤل ومكفناً به. ولا يميز هؤلاء الأفاضل بين يأس العجز والقنوط والتراخي، ولا بين يأس الاستبسال الذي هو قوة تفوق أمل أحلام المخدرات وأماني ذوات الخمار. والذي يدعو إلى التشاؤم حقاً هو أن تنُشر في الرسالة قصيدة (العصر الذهبي) التي نظمت لتمجيد جهود الإنسانية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومحاولتها تحقيق ذلك العصر الذهبي الذي نحلم به؛ وقصيدة (نحو الفجر) التي جُعل الفجر في آخرها رمزاً لفجر مستقبل للإنسانية؛ وقصيدة: (شهداء الإنسانية) التي تدعو إلى نصرة من ضحوا بحياتهم وسعادتهم في خدمتها، وإنما يكون الانتصار لهم بالانتصار للمُثل العليا التي ضحوا بحياتهم وسعادتهم لتحقيقها؛ وقصيدة (الشباب) التي تعبر عن أمل الإنسانية في جهود الشباب وآماله وأحلامه؛ وقصيدة (الباحث) الذي خلده البحث والأمل، والذي ينشر للإنسانية الحق والرقي؛ وقصيدة (إلى المجهول) التي تدعو إلى تقصِّي أسرار الحياة والخليقة؛ أقول مما يدعو إلى التشاؤم حقاً أن يأتي إلى قراء الرسالة كاتب يقول: إني أدعو إلى التشاؤم بعد ما نشرت فيها. وليست هذه كل قصائد الأمل؛ فقد نُشر فيها أيضا قصيدة: (الأمل) الطويلة في وصف آثار الأمل في الحياة. وقصيدة: (النجاح) و (فن الحياة) تقديساً لمسرات الفنون والحياة وجعلها فناً في جميع مظاهرها، وقصيدة (سر الحياة) وفي آخرها إظهار عبث الشكوى منها، وأن الشكوى ليست مؤسسة على حقيقة ثابتة، بل على حالة نفسية. ونُشر لي في الرسالة في وصف محاسن مشاهد الكون والحياة: (ليلة حوراء) وبين الجمال والجلال) و (الفصول) و (سحر الطبيعة) و (على بحر مويس) و (الصحراء). . . الخ. ومما يدعو إلى التشاؤم حقاً أن يكتب الأديب الفاضل في المقتطف لقراء المقتطف: أني أدعو إلى التشاؤم وقد نُشر لي فيها: (بين الحق والحسن) وهي وصف للصراع النفسي بين نشدان الجمال وطلب الحقيقة؛ وفي آخرها ذكر أن طلب الحقيقة في الحياة والحياة نفسها لا يدومان إلا مع نشدان الجمال فيها. ونشر لي فيها أيضاً قصيدة (قيد الماضي) وهي دعوة للإنسانية أن تأخذ من الماضي عظاته، وألا تتقيد بطباع الأثرة والأحقاد التي خلفتها الدهور الطويلة. ونشر لي فيها قصيدة: (النشوء والارتقاء) وهي دعوة لمساعدة هذه السُّنة في الأمور النفسية والخلقية كما سرت وتسري في الأمور العقلية. ونشر لي فيها أيضاً قصيدة (أمنيتان للنفس) وفي الأمنية الثانية أي طلب القوة كل أمل ولذة في الحياة. ونُشر في المقطم قصيدة (الأبد في ساعة) وهي دعوة إلى استرسال النفس في مطالبها غير المحدودة. لقد كنت أفهم قول الدكتور أدهم لو نقد ما نُشر لي قائلاً إنه دعوة إلى التفاؤل بولغ فيها وغولِيَ بها؛ وقديماً قد ميزت بين أمل وأمل ويأس ويأس، فقلت في الجزء الثاني: إن أمل الغفلة والأثرة وقلة الاهتمام بشؤون الإنسانية هو أمل مخضب بالدم:
هل يَنْفعنِّي ذلك ال ... أملُ المُخَضّبُ بالدم
يدحو شقاء الأبريا ... ء وينثني لم يُكْلَمِ
وميزت بين يأس الكسل والعجز والخمول ويأس السخط والمساورة:
وفي اليأس يأس يبعث المرء بعثة ... إلى الغاية القصوى من السعي والجد
وقلت إن الخير أغلب على الإنسان:
صَرَّحَ الخير والأذى ... فيه والخير أغلبُ
فإلى العُجْمِ نسبة ... والى الله يُنْسَبُ
وقلت إن الأمل والعمل من صفات العظمة:
أعاظم الناس في اللأواء كم صبروا ... إن العظيم عظيم السعي والأمل
وقلت إن الأمل هو حسن الحياة:
كأن حياة المرء حسناء أرمل ... إذا قيل ساءت حالها طاب حالها
لها شافع يدعو إلى الحزن حكمه ... وآخر يخشى أن يزول جمالها
وقلت إن ألم النفس قد يكون حلية لها:
ألم تَرَ أنَّ القُرْطَ ليس بحلية ... على الأذْنِ حتى تؤلم الأذن بالثقب
وإن الآمال النبيلة هي دواء الشر والشقاء ومبعث إلى الرقي:
آمال تنْسى الفتى شقاوته ... وتُعْدِم الشر أي إعدام
تسمو بنفس المحب عن دَنَس ... فيها ولؤم جَمٍّ وأوغام
وفي قصيدة أخرى:
يرقى الوجود بعيش الصالحين له ... من ليس يدركهم عجز ولا كلَلُ
إن الحياة جهاد لا خفاء به ... فليس يُفلح إلا الأغلب البطل
وفي أخرى:
وعِشْ مع هذا الكون كَوْناً مُعَظَّما ... وكُنْ في قواه بين ناهٍ وآمر
وفي أخرى: فإني رأيت النفس كالأفْق بَهْوُها ... تسير بها الآمال سير الكواكب
وفي قصيدة (المجاهد الجريح):
ولا أشتكي أني جرعت مريرها ... فيا ليت عمراً في الحياة يعادُ
فأجرع منه الحلو والمر إنما ... مشارب من يهوى الحياة بِرادُ
جهلنا فما ندري على العيش ما الذي ... يراد بعيش نحن فيه نُقَادُ
سوى أن عيش المرء بالشك فاسد ... وأن يقيناً في الحياة رشادُ
وعلى ذكر (المجاهد الجريح) أقول إن أكثر عنوانات قصائدي يدل على الدعوة إلى الأمل كما يتضح من ذكر ما ذكرت من القصائد وما لم أذكر كالإيمان والقضاء والحياة والعمل والعظيم والبطل وقوة الفكر والكونان وعلالة العيش والمثل الأعلى وخلود التجارب والملأ الأعلى وزورة الملائكة
ففي قصيدة (الحياة والحق):
لولا فروض العيش لم أعبأ له ... جيشاً من الآراء والعزمات
إن التجارب كالأزاهر جمة ... أو ما اغتفرت الشوك للزهرات
يا قلب لا يُغْنيك ذعرك للأسى ... فالخوف أول مهبط المهواة
وفي (العيش والرجاء):
لو أدرك الإنسان آماله ... وصابه منها كقطر المطر
ولم يَعُدْ يعرف ما يبتغي ... ولم يجد في العيش ما يُنتَظَر
لكان أشقى الناس في عيشِهِ ... حتى تقول النفس أين المفر
لا عيش إلا بِطِلاب المنى ... لولا المُنَى في عيشه لانتحر
وفي قصيدة (مرحباً بالأقدار):
أدِرْ علىَّ كؤوس العيش قاطبة ... سعد ونحسٌ وإهوان وإكرام
إلى:
هذي مرارة كأس لذ شاربها ... خمارها فهو عَبَّاسٌ وبَسَّامُ
وفي خلود التجارب:
وما العيش إلا حكمة وتهادن ... فتخلط مجهولاً لديه بمعلوم وتخلط حلواً في الحياة بحنظل ... وتأخذ من عيشٍ حميدٍ ومذموم
وقد صحَّ أن الجد يُلهى عن الأسى ... وإنْ كان جداً لا يجيء بمغنوم
وفي قصيدة المثل الأعلى:
والعيش إنْ لم تَبْغِهِ لعظيمة ... فالعيش حُلْمُ طوارق الأعوام
والنفس إمَّا شئتَ كانت عالماً ... يسع الدنى في طوله المترامي
وفي قصيدة الملأ الأعلى:
مرحباً بالملأ الأعلى الذي ... شرفت داريَ منه والفِناء
أَسعدوني أقتبس من نوركم ... بُلغة النفس ورِياً للظماء
طهرت نفسيَ في أضوائكم ... مثلما تطهر أجسام بماء
وشممتُ الخلد من أنفاسكم ... نفس يشفى من الداء العياء
وأرى في النفس رسماً منكُم ... مثل رسم النجم في متن النِّهاء
وعبيراً كشذى الأزهار إنْ ... خَلَّفَتْ في الأنف ذِكْرَى كالذِّماء
وفي الملك الثائر:
والشر والخير لا يُرْجَى افتراقهما ... فارفض إذا اسْطَعْتَ نعمائي ولذاتي
حتى العقول وحتى الفضل أجمعه ... ولذة النفس في بذل المروءات
وحتى قصيدة الموت جُعِل الموت باعثاً للأمل:
وهيهات أن يسلو عن العيش جازع ... من العيش حتى يصبح العيش ماضيا
وحتى يموت الحب والذِّكْرُ والمُنى ... وتتلو نواعي الشائقات المناعيا
وحتى يموت الموت لولاه ما بكى ... حريصٌ على دنياه يخشى المرازيا
وفي قصيدة (طيرة الفرخ):
فَسَلْ قلب الشهيد عن البلايا ... يُخَبِّرْكَ الشهيد عن الحبور
وفي قصيدة (الشجر والغراب):
إذا أنت ما ذقتَ مِنْ ضُرِّها ... أتعرف ما الخير مِنْ شَرَِها
وفي الصبر صبرٌ يُريكَ الدنى ... كأنك رُفِّعتَ عن أمرها
وفي قصيدة (أصبر): اصبر لعل النحس في لونه ... إذا دجا ظِلٌ لدانى النعيم
لعل دمعا منك لم تَحْتَسِبْ ... يُنْبِتُ زهرا في اليباب العقيم
لعل دمع النحس در له ... يُسْلَكُ في عقد الرخاء النظيم
كم خيبة تعقد عزم الفتى ... للنهر لولا الصخر خطو السقيم
وفي (علاله العيش):
وإن ضياء العيش يزهو رواؤه ... لأنْ حاطه بين الأنام ظلام
وأما وصف محاسن الكون والطبيعة، ففيه قصائد كثيرة مثل (سحر الربيع) و (خميلة الحب) و (الفصول) و (ليلة حوراء) الخ.
ولو أن الأستاذ الفاضل تقصى كل ما كتبت من نثر وشعر لعلم أن ثقافتي غير مقصورة على مذهب واحد، ولا أحتذي احتذاء أعمى، وإنه حتى القصائد التي بها وصف الشقاء أو مقابح النفس أو الموت أكثرها به أيضاً وصف محاسن الحياة. وإذا كنت قد أخطأت الذوق الفني الصحيح في دراسةٍ نفسيةٍ فهذا من خطأ المبتدئ المغالي الذي أراد أن يقلب الأدب من صناعة فحسب إلى دراسات سيكولوجية ربما لا يعجب بها الأستاذ؛ وربما كان من الخطأ عملها والأستاذ أوسع ثقافة من ألا يرى تعدد مذاهب الثقافة في قولي حتى يقصره على مذهب واحد شأن الذي لم يطلع عليه. وإذا لم يكتف الناقد الفاضل بهذه الشواهد والقصائد العديدة ذكرنا له غيرها، وليس أربنا تخليد قولنا، فقد رضينا باندثاره لو رضى أمثال الناقد الفاضل. وقد كنا هجرنا الكتابة والنشر من سنة 1918 إلى سنة 1935 وما عدنا إلا بسبب التحرش من ناحية، والتأنيب من ناحية أخرى.
عبد الرحمن شكري