مجلة الرسالة/العدد 304/على ذكر خطبة هتلر في يوم الجمعة الماضي
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 304 على ذكر خطبة هتلر في يوم الجمعة الماضي [[مؤلف:|]] |
المرأة في حياة الأديب ← |
بتاريخ: 01 - 05 - 1939 |
هذا رجل!. . .
نعم هذا رجل! ولا يستطيع أن ينكر عليه هذه الصفةَ في الدنيا صديق ولا عدو ولا محايد. هذا رجل كما نعتقد، لا رسول كما يدعي؛ لأن الرجل لأمته والرسول للناس. وحسب الفوهرر أن يكون رجلاً، فإن الله تعالت حكمته لا يخلق الرجل إلا كل قرن. والأمم تنتظر في انحلالها الرجل، كما تنتظر الخليقة في ضلالها الرسول.
منذ أسبوعين انتظر العالم كله ماذا يقول هتلر ليبنى على قوله ما يفعل، ويرتب على حكمه ما يرى. وفي خلال هذه الفترة القصيرة الطويلة أوشك نبض الحياة العادية أن يقف انتظاراً لما عسى أن يكون هذا الكوكب. فلما وقف المستشار على منصة الريخشتاغ أصاخ لأمواج الأثير كل سمع في الوجود العاقل. وأعلن الدكتاتور رأيه الصريح بالمنطق الموهوب والبلاغة القوية، فملأ صوته الدنيا، وشغل قوله الناس. وقديماً قيلت هذه الكلمة في المتنبي؛ ولكن دنيا أبي الطيب كانت مملكة الإسلام، وناسه كانوا أمة العرب. أما هتلر فهو أول رجل في تاريخ الخليقة سمع خطابه أو ترجمته في يوم واحد كل دولة في الأرض، وكل مدينة في دولة، وكل بيت في مدينة، وكل راشد في بيت. ذلك لأن هذا الرجل العجيب استطاع في ست سنين ونصف أن يبني من الحديد والنار والسم والعزيمة والعصبية دولة كانت بعد صلح فرساي تتوارى من الخجل، وتتفانى من الجوع، وتتهالك من الدين، وتضع أيديها على هيكلها فلا تجد إلا شلوا تبددت أعضاؤه في كل وجه؛ فأصبحت بما نفخ فيها من روح الكفاح، ووضع في أيديها من قوة السلاح، تملك على الدول الحياة والموت، وتقضي على الأمم بالسلام أو الحرب. كل ذلك فعله كما قال من غير ثورة ولا حرب، فكان حرياً أن يتبجح في آخر خطابه التاريخي بقوله: (ألست بعد هذا حقيقيا بأن أطلب إلى التاريخ أن يعدني في الذين حققوا أعظم ما يسمح الإنصاف بطلبه من رجل؟)
في كل أمة ما شئت من القوى الحسية والمعنوية؛ ولكنها تتفرق في أفرادها فتضعف، ويغشاها الكسل في نفوسها فتخمد. فإذا ما قيض الله لها رجلا منها يجمع قواها في قوته، ويوحِّد إرادتها في إرادته، استطاع أن ينيلها نصيبها الكامل من الحياة، وينهج لها طريقها القاصد إلى الغاية. ولكنك لا تجد هذا الرجل دائماً في كل أمة؛ فإن خصائص رجولته تكون أشبه بخصائص النبوة. والدنيا أبخل على الناس بمعدن هذه الخصائص لندرته. وهل في الدنيا أندر من عناصر الإيمان والبطولة والصدق والإيثار والنزاهة؟ هل يدور بخلدك أن هتلر الذي تمثلت فيه دولة، ونهض به جيل، وقام عليه تاريخ، تتعلق نفسه في لحظة من اللحظات برغبة حقيرة كمظاهرة في حفل، أو ثروة في بنك، أو أبهة في ديوان، أو قريب في وظيفة، أو مدحه في صحيفة؟ إن القادة الذين يهيئهم القدر لمداولة الأيام وخلق الشعوب يطهر الله من وساوس الهوى ودسائس الطمع، فلا ينظرون في الأرض، ولا يصغون إلى الفتنة، ولا يستجيبون إلا للصوت السماوي البعيد الذي لا يفتأ داعياً إلى السمو أو التقدم
هذه مصر مثلاً، فيها الثروة الموفرة، والقوى المذخورة، والعدد العديد، والموقع الملائم، والتاريخ الحي، والمجد التالد، والهوى المتحد، والحس المشترك؛ فتستطيع بهذه المزايا النادرة أن تكون دولة مطاعة لها في الثقافة لسان وفي الحضارة يد وفي السياسة رأي؛ ولكن مزاياها لا تزال كامنة أو موزعة أو مشاعة؛ فلم يتح لها الله إلى اليوم ذلك الرجل العمَري الذي يجمع من نسماتها اللينة إعصاراً يدوِّي، ومن رغباتها الشخصية طموحاً يحلِّق، ومن قواها المفرقة جيشاً يرعب، ومن قصائدها الفردية ملحمة قومية ينشدها الليل والنهار ويرويها سجل الأبد
عندنا رجال من صاغة الكلام، وحفظة القانون، ومحترفي السياسة، أفلحوا في إثارة الصخب، وتمزيق العلائق، وتفريق القوى، وإغراء المطامع بكراسي الحكم وأبهة الألقاب وأموال الدولة، ولكنهم لم يفلحوا مجتمعين أن يعملوا في عشرين سنة ما عمله هتلر وحده في ست سنوات وستة أشهر.
لا تقل إنه الجهل أو العلم فلسنا أجهل من تركيا، ولا ألمانيا أعلم من فرنسا؛ ولكنها القوى الشعبية الطبيعية تتجمع وتتحد بالإرادة الصادقة والتوجيه النزيه فتفعل قِلتها المجمَّعة في تركية وبولندا، مالا تفعل كثرتها الموزعة في الهند والصين
معاذ الله أن يقع في ظنك يا قارئي العزيز أني أحب فردية الحكم لأني أحب أن يتولى قيادتنا رجل. فإن الرجل الزعيم الذي نرجوه، نرجوه للقيادة لا للسيادة، وللإِشارة لا للإِمارة، وللجهاد والتضحية لا للاستعباد والأثرة. وإن الرجل الذي نرجوه لنا ولكل أمة حبيبة في الشرق لا يمكن أن يطغي لأنه مؤمن، والإيمان من طبيعته كف السلطان وقتل الشهوة؛ ولا يمكن أن يستبد لأنه مسلم، والإسلام من شريعته حرية الإنسان وشُورى الحكم.
أحمد حسن الزيات