مجلة الرسالة/العدد 304/تقهقر نابليون عن روسيا
→ نقل الأديب | مجلة الرسالة - العدد 304 تقهقر نابليون عن روسيا [[مؤلف:|]] |
من دخان المجتمع! ← |
بتاريخ: 01 - 05 - 1939 |
لفكتور هوجو
(مهداة إلى الدتشي بعد وضع الرمل مكان الثلج)
كانت السماء تُساقِطُ الثلج؛ وكان الفاتح قد قهره فتحه، والنسر لأول مرة تَطامن رأسه
يا للأيام العوابس! لقد تقهقر الإمبراطور وئيد الخطى تاركاً وراءه (موسكو) داخنة تحترق!
كانت السماء تساقط الثلج؛ والشتاء القاسي يتدهدى قطعة فقطعة، والبقاع البيض تتعاقب بقعة فبقعة، والجيش قد وقع في غمَّاء فلا يُعرف له قائد ولا عَلَم؛ وكان بالأمس أعظم الجيوش فأصبح اليوم قطيعاَ من الغنم؛ واضطرب الأمر وتشعث النظام فلا يتبين له جناحان ولا قلب
كانت السماء تساقط الثلج، والجرحى يلوذون ببطون الخيل المبقورة؛ ونافخو الأبواق على مداخل المعسكرات الليلية المحطمة قد جَّمدهم الصقيع، وغشَّاهم البَرَدُ، فظلوا في أماكنهم واقفين على العتبات، أو صامتين على السُّرُج، وأفواههم الحجرية قد التصقت بأبواقهم النحاسية؛ والسماء تندف بالرصاص والقنابل مختلطة بكبب الثلج؛ وجنود الحرس الإمبراطوري يفجأهم الروع فيمشون مفكرين وقد انعقد رُضابُ الجليد على شواربهم الغُبر
كانت السماء تساقط الثلج، والريح الصرصر تهب، والجنود يمشون حفاة على الطوى في مجاهل الأرض، فلم يعودوا تلك القلوب التي كانت تنبض، ولا تلك النفوس التي كانت تحارب، وإنما أضحوا حلماً يهيم في الضباب، وسراً يجول في الظلام، وموكباً من الأشباح يضرب في الأجواء القاتمة؛ وكانت الوحدة الشاملة المروعة تبدو في كل مكان صامتة منتقمة، والسماء الساكنة تجعل من طباقها ومن ركام الثلج كفناً عظيماً لهذا الجيش العظيم. وكان كل جندي يحس في نفسه دبيب الموت في وحدة ووحشة
هل يتيح لهم القدر أن يخرجوا من هذه الأرض المشئومة؟ لقد كانوا أمام عدوين: القيصر وريح الشمال، والشَّمال كانت عليهم أشد. كانوا يلقون المدافع ويشعلون النار في خشبها ليستدفئوا؛ وكان كل من رقد منهم لا يصحو من رقاده؛ وكانوا يفرون شراذم في وجوه الضلال والهم فتتخطفهم المنايا وتبتلعهم الصحراء، فلو نظرت من صدعات الجليد لرأيت كتائبهم تحت أطباقه راقدة يا لسقطة هنيبال وعُقبى أتيلا! لقد كان المهزومون والجرحى والموتى وصناديق الذخيرة وناقلات المرضى يتساحقون على الجسور ليعبروا الأنهر؛ وكان الجند ينامون عشرة آلاف فيستيقظون مائة؛ و (ني) الذي كان يتبعه جيش من قبل، فر الآن بعد أن نازع ثلاثة من القوزاق ساعته
كانت الهتفات لا تنفك طول الليل تشق الآذان: من هذا! هيا! هجمة! حملة! فيتناول هؤلاء الأشباح بنادقهم فيرون أن قد هجمت عليهم كتائب من الخيالة الفظاع، وزوابع من الرَّجَّالة الشقر، لهم صور كصور الهُوَل المفزعة، وأصوات كأصوات البُزاة الصُّلع! وهكذا باد في غياهب الليل جيش بأسره!
وكان الإمبراطور واقفاً هناك ينظر! كان كالسنديانة العملاق تفرعت ذراها المصونة نكبةُ الدهر، وهي الحطاب المشئوم، ثم أخذ يهين عظمتها بفأسه، والسنديانة الحية ترتجف أمام شبح الثأر الفاجع وتنظر إلى فروعها تتساقط من حولها فرعاً بعد فرع. كان الجيش يموت قادته وجنده. لكل امرئ حِينه وَحينه. وكانت بقية السيوف من رجال الإمبراطور يحفون من حول خيمته في إجلال وحب، ويرون ظله على الأستار يذهب ويجيء، فيتهمون القدر بالغيب في ذاته، ولا يخامرهم الشك في يمن طالعه. ولكنه هو أدرك فداحة الخطب؛ واتجه رجل المجد إلى الله وهو من الهول الهائل في دهشة ورعشة وحيرة. وعلم نابليون أن ما أصابه إنما هو تكفير عن شيء. فقال ووجهه الساهم ينم عن القلق، وكتائبه على الثلج منثورة أمامه:
- أهذا هو العقاب يا رب الجيوش؟. فسمع من وراء الغيب منادياً يناديه باسمه ويقول له: (كلا)
(ابن عبد الملك)