مجلة الرسالة/العدد 303/مغزى رسالة الرئيس روزفلت
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 303 مغزى رسالة الرئيس روزفلت [[مؤلف:|]] |
رقم!. . . ← |
بتاريخ: 24 - 04 - 1939 |
اقتلوا الجوع تقتلوا الحرب
عالجت الرسالة في بضع عشرة مقالة آلام الجوع وآثام الفقر وما ينجم عنهما من مآسي الحياة؛ وكان في ظننا يومئذ أن الناس متى هذبتهم المعرفة وصقلتهم المدنية يصبحون أعلم بحكمة الله، وأفهم لسياسة الدين، وأجدر أن يحكِّموا العقل والعدل فيما شجر بينهم على قسمة الدنيا وغلة الأرض؛ ولكنا تركنا الموضوع قانطين من رحمة القلوب، لأننا وجدنا غاية الأمر فيه لا تبعد عن البكاء والاستبكاء، مادام الحكم لأيدي الأقوياء، والتشريع لألسنة الأغنياء، والغَلب والسبق للناب العضوض والجناح المحلق. وقلنا ونحن نمسح عن القلم سواد الحظوظ: لا يزال في قدر الله أن يكابد بنو آدم عقابيل البهيمية الأولى، فيوطأ الواني، ويُسترق العاني، ويؤكل الضعيف، ويكون هنا الطمع والكزازة والأثرة، وهناك الحسد والحزازة والثورة، ثم لا يفصل بين الواجد والفاقد غير الحرب. فالحرب لا تنفك مشتعلة بين الفرد والفرد، وبين الأسرة والأسرة، وبين الأمة والأمة، بالقول أو بالفعل، وفي السر أو بالجهر، حتى يتدارك الله عباده فيهيئ نفوسهم لفض هذه الخصومة، بغير هذه الحكومة
والخصومة بين الناس أولاً وأخيراً هي المادة؛ والنكبة الأزلية على النظام والخُلق هي الفقر؛ وكل ثورة في تاريخ الأمم، أو جريمة في حياة الأفراد، إنما تمت بسبب قريب أو بعيد إلى الجوع. حتى الشهوة: شهوة الغرام أو الانتقام لا تقع في تاريخ الجناية إلا في المحل الثاني بعد الجوع، لأنها لا تكون إلا عرضاً من أعراض الشِّبع. من أجل ذلك جاء دين الله يخفف عن الفقير بالإحسان والعدل، ويدفع عن الضعيف بالمودة والرحمة؛ ولكن عُرام النفوس كان أقوى من أن يرده الثواب المغيِّب والعقاب المؤجل، فنبت على أمر الله، وعللت نفسها بالنجاة من باب التوبة المفتوح، ومن طريق المغفرة الواسع. ثم حاولت فلسفة الناس أن تجد سلام المجتمع في أنظمة متناقضة يدفع بعضها في صدر بعض؛ فوقع العالم من جراء النزاع بين الفردية والاشتراكية، والصراع بين الدكتاتورية والديمقراطية، في حرب عنيفة رعناء لا تأصرها آصرة، ولا تدركها شفقة، حتى أكلت من أمة الأسبان وحدها مليوناً وربعاً من شبابها الآمل العامل؛ ثم أخذت تخمد في هذا الميدان الضيق المحدود لتستعر في ميدان لا حد لعرضه، ولا نهاية لطوله: هو العالم! أينما يكن الغني يكن السلام، ما في ذلك ريب ولا جدل. ففي أمريكا وإنجلترا، وفي فرنسا وسويسرا، تجد الناس في ظلال الأمن مقبلين على الإنتاج المعمِّر والاستهلاك المرفِّه، لا نكاد نرى بينهم عيناً تحسد ولا قلباً يحقد ولا يداً تجترح
وفي ألمانيا وإيطاليا أصيب الناس بسُعار من الجوع زاده طمع الطاغيتين التهاباً واستكلاباً فانقلب إلى نوع من عبث نيرون أو انتقام شمشون أو مقامرة اليائس الذي يضرب الضربة الحمقاء ليربح الكل أو يخسر الكل!
فلو أن الله أتاح لأبناء برلين ورومه من سعة الدنيا ونفاق التجارة ووفرة المال ما أتاح لأبناء لندن وباريس؛ ولو أن الله لم يبتلي أبناء رومه وبرلين بمن طحنهم بالعمل، وعصرهم بالضرائب، وقهرهم بالحرمان، واتخذ من أجسادهم وأرواحهم وأقواتهم مدافع تقذف بالنار، وطوائر ترمي بالسم، لما رأيتهم يكفرون بالإنسانية ويتنكرون للمدنية، ويفعلون فعل القوي المحتاج: تضطره الحاجة إلى السرقة، وتدفعه القوة إلى القتل، فهم يخرجون اليهود من ديارهم ليأخذوا المال، ويحتلون الأمم بجيوشهم ليملكوا الأرض، ويلقون الدول القوية في بُحْرانٍ من القلق والفزع والذهول، ليضعوا أيديهم الجارفة على أرزاق الدول الضعيفة
رأى خليفة ولسون وهو في دنياه الجديدة السعيدة أن الجوع الذي ولدته الحرب الكبرى في قصر فرساي قد أشتد أسره، وصلب عضله، وفحش طوله، وضخم بدنه، حتى انشق إلى تِنْينين فظيعين لكل منهما مليون رأس، ومليون يد، وفي كل رأس ناب يقطر السم الزعاف، وفي كل يد مخلب ترسل الموت الوحِيَّ. فبعث إليهما برسالة من بقايا النبوة الأولى، فيها الدعوة إلى الحق بالقول اللين كدعوة موسى التي لم تُصِبْ أذناً في مصر، وبالمنطق المؤيد بالقوة كدعوة محمد التي لم تخطيء أذناً في العالم
يطلب الرئيس روزفلت من الجوع المتجسد المتنمر أن يحبس لعابه المتحلب، ويكفكف سعاره المضطرم، ويقبض لسانه اللاهث، ويتخذ هيئة الإنسان ليلتقي بخصومه في مؤتمر عام يجمع والغرب والشرق على المبادئ التي شرعها الله فكفروا بها، والخطط التي نهجها المصلحون فحادوا عنها؛ ثم يضعون لهذه الدنيا المتدابرة المتناحرة سياسة جديدة تجعل أرض الله مضطرباً لكل كادح، وخير الأرض مشاعاً لكل مستغل. ويومئذ يكون الفصل بين عالم عاش فيه الحيوان بغرائزه الوحشية، يقوى فتنتشر مخالبه بين شعره المنفوش، ويضعف فتنطوي تحت حريره المفوف؛ وبين عالم يعيش فيه الإنسان بطباعه المدنية، يعدل بين جنسه وغير جنسه، ويحب لغيره ما يحب لنفسه، ويطمس في ذهنه حدود البيت والأسرة، ومعالم الوطن والأمة، ليصبح الناس كلهم أسرته، والدنيا بأسرها وطنه.
ويومئذ تستطيع الإنسانية أن تتبجح بميزة العقل والعلم وتقول لقافلتها الضاربة في مجاهل الأبد وهي لا تملك مشاعرها من القلق والفرق: لقد زال الطمع فزالت العداوة، ومات الجوع فماتت الحرب.
احمد حسن الزيات