مجلة الرسالة/العدد 303/دراسات في الأدب
→ من أدب الغرب | مجلة الرسالة - العدد 303 دراسات في الأدب [[مؤلف:|]] |
الدعوات المستجابة. . . ← |
بتاريخ: 24 - 04 - 1939 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
(تابع)
(ج) ومن المؤثرات في الأدب والحرية:
وإنما يترعرع الأدب في ظلال الحرية، فإذا منع البغيُ أمة أو طائفة أن تُبين عن آرائها وعواطفها وتعرب عن آلامها وأمالها، لا يزدهر فيها الأدب
وإذا اشتد الحجر على أمة فانبرى جماعة من أُباتها يجاهدون في حريتها ويجالدون جبابرتها لم يكن لهم بدّ أن يتخذوا الأدب القوي لبث الدعوة وإيقاظ النفوس وتنفيرها من المذلة وحفزها إلى الإقدام ومجادلة الخصم بالحجة البالغة والبرهان الدامغ، فينشأ لهم أدب حيّ قويّ. ولا يزالون في جهادهم حتى يدال لهم فتسع الحريةُ الأمةَ كلّها، وتنشط النفوس للإبانة عن سرائرها والإعراب عن ضمائرها. وأدب المجاهدين في كل عصر من أروع أنواع الأدب لأنه أدب النفس الإنسانية وهي تدفع عن كيانها، وتجادل عن حياتها
فالحرية العامة والجهاد لها من أجدى الأمور على الأدب
وإذا نظرنا إلى الأدب في فرنسا قبل الثورة وأثناءها وبعدها، وإلى الأدب في تركيا قبل مائة سنة والأدب فيها حين الجهاد للحرية كشعر نامق كمال وأمثاله، ثم الأدب في الثلاثين سنة الأخيرة؛ وإذا نظرنا أيضاً إلى الأدب في مصر قبل عشرين سنة وإلى الأدب فيها اليوم عرفنا فرق ما بين الحرية والعبودية، وما يجدي الجهاد للحرية على آداب الأمم
وكم أنتج جدال الأحزاب السياسية من خطب ومقالات لها في الأدب أثر لا ينكر
والحرية الفكرية أوسع من الحرية السياسية فربما تنال الأمة حريتها السياسية ولكن يسيطر عليها أو على فرقة منها مذهب أو عادة قديمة فيمنعها بعض حريتها في التفكير، وانظر إلى المعتزلة والحنابلة في تاريخ المسلمين تدرك كيف أجدت على الأدب حرية الأولين، وجنت عليه عصبية الآخرين، وكذلك التزام موضوع أو أسلوب في الأدب اتباعاً للقدماء يسلب الأمة بعض حريتها الأدبية ويمنعها أن تفتن في موضوعات النظم والنثر وأساليبها
على أن الفوضى في الأدب، وركوب كل إنسان رأسه على غير بينة، وحيد الناشئين عن سنن الأئمة دون بصيرة - تجني على الأدب، ما يجنيه التضييق والحجر، أو شراً من ذلك
(د) الحروب:
النزاع بين فريقين يهيج كل ما عندهما من قوى نفسية ومادية؛ وكلما كان الخطر أعظم كان الاهتمام والإعداد أكبر. وفي الحروب تتعرض النفوس والأموال والأوطان للتهلكة فتثور أقسى ما في الإنسان من غريزة وأسمى ما فيه من عاطفة. فتدعو كل أمة أحزابها وتحرضهم على قتال العدو؛ وإذا أتيح لها الظفر عظمت أفعالها، وأكبرت مآثر أبطالها، وفي هذا الإعداد للقتال والتحريض عليه والتغني بالظفر والإشادة بالبطولة مجال واسع للأدب
ومن أروع ما أنتجت الآداب القصص الحماسية: فالمهابهارثة والإلياذة والشاهنامة والقصائد الحماسية في الشعر العربي الجاهلي والإسلامي ولاسيما شعر أبي الطيب المتنبي، وقصة عنترة وقصص أبي زيد الهلالي وغيرها كل هذا من آثار الحرب ومآثر الأبطال فيها
(هـ) الدين:
والدين له على الفنون سيطرة عظيمة، فهو يستولي على العقل والعاطفة فيسيرهما كما يشاء، ويصبغ كثيراً من نتائج الأدب بصبغته. ولعل أروع أبنية العالم وأبقاها على العصور المعابد؛ فحيثما سار الإنسان على وجه الأرض وجد علوم الأمم وفنونها وعواطفها ممثلة في المساجد والكنائس والمعابد الأخرى
والأدب الديني من أقدم آثار الأمم الأدبية. فكتاب الموتى عند قدماء المصريين، وأناشيد فيدا عند الهند، وسفر أيوب في التوراة، وأناشيد جاتا في كتاب زرادشت الذي يسمى الأبستا؛ كل أولئك من آثار الدين في الأدب. وإذا نظرنا إلى الدين الإسلامي وتصورنا ما أحدثه القرآن في الأدب العربي والآداب الإسلامية عامة، وما يحدثه اليوم، عرفنا مبلغ تأثير الدين في الأدب، وتصور ما أنتج الإسلام من خطب ومواعظ وقصص في العصور المتطاولة لتعرف جانباً من تأثيره. ثم هذا الشعر الصوفي الرائع في الآداب الإسلامية - ولاسيما الفارسية - نفحة من نفحات الدين
(و) المحاكاة: ومما يؤثر في الأدب المحاكاة والتقليد - تقليد أمة آداب أمة كما قلد الرومان والأوربيون أدب اليونان، وقلد الفرس والترك وغيرهم الأدب العربي، وقلد الترك والهند الأدب الفارسي، وكما قلد الترك في العصر الحديث الأدب الفرنسي وقلد المصريون الآداب الأوربية
وكذلك تقليد النابغين في الأمة الواحدة؛ فإذا نبغ شاعر أو كاتب حاكاه معاصروه، ثم لم يعدم مقلداً في كل عصر. ويكاد تاريخ الأدب يكون تاريخ النابغين في العصور المختلفة ومن عداهم مقلدون أو كالمقلدين. فالجاحظ، وابن المقفع، وبديع الزمان، وأبو تمام، والمتنبي، لهم تأثير بين في الأدب العربي حتى عصرنا هذا
فإن فتح النابغة للناس فنوناً من الأدب الجيّد والأساليب الحرة كان رائد خير في الأدب، وكان قد سنّ سنة حسنة لا تزال تزيد في إحسانه على كر الأيام كما فعل أبن المقفع والجاحظ وأبو العلاء؛ وأن سلك سبلاً وعرة وخلق أساليب مصنعة متكلفة قد غطّى نبوغُه على عيوبها سار الناس وراءه. وربما ورثوا عيوبه دون مزاياه، وأورثوا الأدب صنوفاً من القيود تضيق الأدب وتميت الابتكار في نفوس المنشئين كما فعل مسلم وأبو تمام في البديع، وأبو العلاء في التزام ما لا يلزم، والحريري في المقامات، وغير هؤلاء في ضروب المحسنات التي شغلت الشعراء والكتاب عن المعاني بصناعة الألفاظ.
وكثيراً ما يخلق التقليد رجلاً في غير عصره. كما تجد اليوم من يقلد أحد النابغين القدماء فيشبه هذا القديم أكثر ما يشبه معاصريه. وكثيراً ما أحيا التقليد الأدب بعد موته. فتقليد القدماء من أدبائنا كان فاتحة نهضتنا الأدبية الحديثة كما كان تقليد اليونان والرومان باعث الأدب الأوربي في عصر النهضة. فقد تخطى البارودي - مثلاً - الأجيال وحاكى الجاهليين والإسلاميين فأتي بنمط من الشعر الجزل هو خير مما كان معروفاً في وقته، وقبل وقته. فكان طليعة الشعراء العصريين.
(ز) والاستطراف
ومما يؤثر في الأدب أيضاً الاستطراف أو حُب التجديد، والنزوع إلى الطريف. ففي الأدب كما في غيره طرائف (مودات). يملّ الأديب موضوعاً مبتذلاً أو طريقاً مسلوكة قد سار عليها الخاصة والعامة، ويأنف أن يكون واحداً في هذا السواد فيسلك طريقاً آخر في الموضوع أو البيان؛ فإن وفق فقد سنّ للأدباء سنة جديدة، ومهّد في الأدب سبيلاً محدثة. وهكذا حتى يظهر أديب آخر يحل هذه الطريقة فيحيد عنها وهلم جراً. وقد يُستطرف بعد أجيال موضوع أو أسلوب بعد أن ابتذل وهجر وهلم جراً.
فهذا الاستطراف والاستهجان له أيضاً أثره في تحوّل الأدب
(ح) النقد
وأحسن المؤثرات في الأدب وأنفعها النقد الصحيح؛ فإن الناس يسيرون على النهج المألوف لا يرون خطأه ولا يبصرون عيبه حتى يرشدهم النُّقّاد فيبيّنوا لهم الخطأ والصواب، والرشد والغيّ، والحسنُ والقبيح في سيرتهم. وإذا تناول النقد مسألة أدبية كشف عن الحق فيها أو ثار حولها الجدال؛ وما يزال المتجادلون حتى تنجلي الحقيقة من تصادم الحج. فالنقد إيقاظ الأفكار النائمة، وتنبيه الآراء الغافلة، ومثار جدال تتبين فيه الحقائق إذا صحبه الإخلاص وقارنه الصدق
(ط) المكافأة:
وتحريض أصحاب المواهب على الإنتاج بالاعتراف بفضلهم والإشادة بأعمالهم أو منحهم الأموال التي تعينهم على الفراغ للأدب وإتقانه، مما أجدى على الأدب في عصوره، وحفز همم الشعراء والكتاب إلى الإجادة والإبداع؛ ولذلك نرى تاريخ الأدب وكبار الأدباء متصلاً بالملوك والأمراء والكبراء الذين أثابوا القائلين على إحسانهم وحثوهم على الازدياد
وإذا نظرنا إلى تاريخ الخلفاء العباسيين وما أفادوا الأدب بمثوبتهم الشعراء والكتاب ونظرنا إلى تنافس ملوك المسلمين في المشرق والمغرب في الاستكثار من الأدباء حولهم وتزاحم ملوك الطوائف في الأندلس على الاستئثار برجال الأدب - عرفنا كيف يُجدي التحريض والمكافأة على الآداب. وحسبنا أن نتذكر ازدحام الشعراء والأدباء حول سيف الدولة الحمداني حين رأوا فيه أميراً ألمعيا وفتى عربيا يجزل الثواب ويسخو بالمال
هذه من أسباب تغيّر الأدب. والباحث في الأدب العربي يستطيع أن يتبينها في أطوار كثيرة منه؛ فإذا بحثنا في صور الأدب العربي في الجاهلية وما فعل بها الإسلام، ثم نظرنا إلى شعر الفتوح الإسلامية، وشعر الوقائع العربية، والمذاهب السياسية، وعصبيات العدنانيين والقحطانيين، ثم عصبيات العرب والعجم، ومدائح الخلفاء والأمراء، وتهاجي الشعراء، وما نشأ في الدولة العباسية من ضروب في النثر والشعر وأثر اختلاط الأمم، والترجمة عن اللغات المختلفة، وقرنا شعراء المشرق بشعراء مصر والمغرب والأندلس، واستعرضنا بعض الحادثات السياسية والاجتماعية في هذه المواطن، ودرسنا تاريخ النابغين المجددين. . . الخ. وجدنا في كل هذا تطبيقاً لما ذكر من مؤثرات الأدب
عبد الوهاب عزام