مجلة الرسالة/العدد 303/استطلاع صحفي
→ المدرسة الابتدائية | مجلة الرسالة - العدد 303 استطلاع صحفي [[مؤلف:|]] |
التاريخ في سير أبطاله ← |
بتاريخ: 24 - 04 - 1939 |
مدرسة الهندسة التطبيقية
بمناسبة عيدها المئوي
لمندوب الرسالة
(ينتظر أن يتفضل حضرة صاحب الجلالة الملك بتشريف العيد المئوي لمدرسة الهندسة التطبيقية وافتتاح مبانيها رسمياً في 28 أبريل الجاري. وقد أسسها المغفور له محمد علي باشا الكبير في مارس سنة 1839 وسماها مدرسة العمليات لتعد الطلبة للأعمال الصناعية التي تحتاج إليها البلاد. ولكن الزمن غدر بها إذ أقفل عباس باشا الأول جميع معاهد العلم وهي منها إلى أن أعاد فتحها سعيد باشا باسم مدرسة العمليات أيضاً. ثم تغير اسمها فأصبح مدرسة الفنون والصنايع، وتغير مرة ثالثة فأصبح مدرسة الهندسة التطبيقية)
خرساء تتكلم
في مواجهة المدخل الرئيسي لمدرسة الهندسة التطبيقية نافورة جميلة الصنع من حجر الجرانيت الأسود، وفوق الباب تاج أسود يضم بين ثناياه قطع مستطيلة من النحاس الأصفر يرى الناظر في وسطها أنواطاً يرجع تاريخها إلى سنة 1873 إذ أهديت إلى المدرسة من بعض المعارض الدولية. وعلى جانبي الباب مدفعان ضخمان يبدو عليهما القدم، ويظهر في بنائهما بساطة التركيب، ولونهما أسود أيضاً. فإذا سألت عن تاريخ هذين الأثرين أجابك محدثك: (رأيتهما عندما التحقت بالمدرسة سنة 1904). فإذا حاولت المزيد فلن تصل إلى نتيجة صحيحة. فالمدرسة قديمة العهد استنشقت النسمة الأولى للحياة في شهر مارس سنة 1839 فعمرها الآن مائة عام وإن كان عمر مبانيها بضعة أعوام
تدخلها فإذا هي بنت اليوم. فحجرات الدراسة فيها على أحدث طراز ومعاملها ومصانعها مجهزة بأحدث الآلات. ولكنك بين هذه المظاهر المتعددة تلمس القدم في كثير من حجراتها إذ ترى آثار الماضي في لوحة قضى الزمن على ذكرياتها، أو تجد صورة إسماعيل باشا وهي تحمل اسم صانعها وضريبة الزمن على ألوانها. وأقدم من هذا أن تجد لوحة باسم إبراهيم باشا، وكتب تحت الاسم 1204 - 1265.
فإذا سألت عن تاريخها قابلك محدثك بألفاظ تفهم منها:
(لا أعرف، فإذا رجعت إلى كتب التاريخ، وقابلت بين السنة العربية والإفرنجية وجدت 1204=1789، وسنة 1265 تقابل 1848 والأول هو تاريخ ميلاد إبراهيم باشا، والثاني هو تاريخ وفاته في نوفمبر من تلك السنة. فهل تشك بعد هذا في أنها لوحة تذكارية لتخليد ذكرى ذلك البطل الفاتح؟ وهلا تأسف بعد هذا أن تجد لوحة تذكارية تحتاج إلى ما يذكرنا بها؟ ولكنها ضريبة الزمن وضريبة حياة المكاتب التي يعيشها موظفونا بل ومعلمونا، أنستنا لا لوحاتنا التذكارية فحسب، بل أيضاً تاريخ هذه اللوحات فأصبح سرها في بطون المقابر بدل أن يحيا في أذهان الناس وقلوبهم. فهذه المواد الخرساء عاشت على رغم إهمالها فتكلمت عن ماضينا ونددت بحاضرنا إذ كشفت جهلنا الفاضح.
حياة عملية
والحقيقة أن هيئة التدريس بالمدرسة أجهدت نفسها لكشف تواريخ هذه الآثار، إلا أن كل من قابلناهم من طلبة المدرسة القدماء لا يذكرون من أمرها إلا أنهم التحقوا بالمدرسة فوجدوها. وهم يؤاخذون لأنهم تجاهلوها منذ ذلك التاريخ فلم يهتموا بأمرها ولم يسألوا عن سبب وجودها. ولو اهتم أحدهم بالسؤال عنها وقتئذ لكانت هذه الآثار أكثر أهمية مما هي الآن. فإن قيمة الأثر تزداد كلما زادت معلوماتنا عنه وتقل كلما قلت. وإذا كنت أحب أثراً فإني أحبه لأنه يرجع بي إلى الماضي فيعطيني صورة ذهنية لما كان يحدث في تلك الأيام سواء أكانت قريبة أم بعيدة.
ولعل أساتذة هذه المدرسة كانوا في شغل عن تتبع هذه الذكريات بما عهد إليهم من عمل. فالحياة في هذا المعهد خليط من النظريات العلمية والخبرة العملية. وهي تشغل في عهدها الجديد مساحة ثلاثين فداناً منظمة على أحدث نظام ومعدة بأحدث الآلات. ويمكننا أن نقسمها إلى ثلاث أقسام: الورش والمعامل وحجرات الدراسة. وقد أعدت جميعها على آخر طراز بحيث يتخرج الطالب من المدرسة وهو معد بكلا السلاحين العلمي والعملي.
ففي الورش يجد الطالب المجال متسعاً أمامه ليتقن الصناعة التي ارتضاها لنفسه. وفي حجرات الدراسة يجد النظريات العلمية التي يمكنه أن يستفيد منها في مهنته. وفي المعامل يجد الآلات الكيميائية والطبيعية معدة للبرهنة على النظريات التي لم تطبق بعد في الإنتاج الصناعي كما يستطيع أن يجرب - إذا شاء - لينشر على الناس ما هو خير من الأساليب المستعملة في الإنتاج الصناعي الآن
مصنع مستقل
وفي تلك الورش يعمل الطلبة بأيديهم. ففي قسم العمارة يمسك الطالب بأدوات البناء ويقيم الحائط تبعاً للرسم المعطى له، فإذا كان تمرينه في عمل نقوش من الجبس أو المصيص قام بتلك العمليات بنفسه. وما يحدث في قسم العمارة يحدث في غيره من الأقسام، إذ يباشر الطلبة بأنفسهم تطبيق العلم على العمل، ولذلك يلبسون أثناء العمل في الورش ملابس خاصة وهي عبارة عن سترة بيضاء لتقي ملابسهم الاتساخ
وهذه الورش في مجموعها مستعدة لصنع أية آلة يطلب عملها ففي (ورشة السباكة) مثلاً يستطيعون تشكيل أية قطعة معدنية كما يريدون، والطريقة المتبعة لذلك أن يصنع للآلة رسمها بأبعاده ومقاطعه على الورق؛ ثم يوكل إلى طلبة اختصوا بصناعة النماذج الخشبية فيصنعون أدوات الآلة من الخشب بطريقة خاصة، فإذا انتهى نجار النماذج ذهبت القطع الخشبية إلى السباك فوضعها في نوع خاص من التراب بحيث يتشكل برسمها ثم ينزع الخشب ويصب في الفراغ المعدن المطلوب صنع الآلة منه
وتنتقل المواد بعد هذا إلى أقسام البرادة والخراطة وغيرها حيث تتولى تلك الأقسام تنظيف الآلات مما علق بها من زوائد معدنية، ثم تعد بما يتفق والرسم المطلوب. وعلى وجه الأجمال فإن جميع أقسام المدرسة تعمل في صناعة هذه الآلة لاختلاف فنونها وتركيبها، فهي تبدأ من المكتب حيث يضع المهندس رسمها الميكانيكي وتمر بأدوار عدة إلى أن تصل إلى وضعها النهائي الذي يعدها للاستعمال
وقد قامت المدرسة بصنع عدة آلات، ففي إحدى السيارات ركب الطلبة بدلاً من المحرك العادي آلة ديزل، وهم يقولون إن ذلك يوفر كثيراً من أثمان استهلاكها للوقود. فإن آلة الديزل تشتغل بالغاز الوسخ وفرق كبير بين ثمنه وبين ثمن البنزين. وهكذا كلما دخلت إحدى الورش شاهدت فيها شيئاً أصلياً من صنع طلبتها وحدهم ولذلك يفخرون به
فيللا ثمنها 800 جنيه وأراد قسم العمارة أن يتساوى مع غيره من الأقسام من حيث ابتكار الأشياء المفيدة فوضع الطلبة والأساتذة رسماً لفيللا من طابقين يتكلف بناؤها 800 جنيه وتصلح لسكنى عائلة متوسطة، ويشتغل طلبة قسم العمارة في تشييدها في أوقات فراغهم وقد تم منها حتى الآن بناء الطابق الأول وينتظر عند إتمامها أن يتولوا تجهيزها بالأدوات الصحية وغيرها من الأثاث. ففي المدرسة ورشة نجارة كبيرة تصنع كثيراً من الأثاث، وقد شاهدت بعض المكاتب التي صنعها الطلبة لأساتذتهم فأعجبت بما هي عليه من متانة ودقة في الصناعة
وتحتل ورش المدرسة صفاً طويلاً يليه صف المعامل حيث توجد معامل الطبيعة والكيمياء والهيدروليكا وقسم مقاومة المواد وكل هذه المعامل مجهزة بالأدوات التي تيسر للطالب فهم النظريات العلمية المختلفة كما تعطيه صورة واضحة عن أكبر الأعمال الصناعية التي أسست إذ يحتوي على نماذج مصغرة لبعض هذه المشروعات
ويحتاج الطالب دائماً أن يعرف قوة احتمال المواد التي يشتغل بها ولذلك تجد في قسم العمارة آلة يمكن بواسطتها معرفة قوة احتمال مخلوط من الأسمنت. وفي قسم السيارات آلة يقول الاختصاصيون في المدرسة أنها الثالثة من نوعها وبها يمكن معرفة قوة فرامل السيارة ومقدار استهلاكها للبنزين. أضف إلى ذلك معملاً قائماً بذاته اختصاصه اختبار مقاومة المواد من ضغط وشد وانحناء
قاعة للسينما
ومدرسة الهندسة التطبيقية كما قلنا حديثة العهد بالتنظيم على الطرق الحديثة ولذلك تجدها معدة بقاعة للسينما حيث تعرض الأفلام العلمية التي تعطي للشاهد فكرة عن سير العلوم وعن تطورات بعض الصناعات. وتستعمل هذه القاعة للمحاضرات فيجتمع الأساتذة والطلبة لإلقاء بعض المحاضرات. وقد شاهدت في إحدى المرات ناظر المدرسة وهو يعرض على أبنائه الطلبة أن يبدوا آرائهم في كيف يحتفلون بمرور مائة عام على إنشاء مدرستهم فكانت الروح تدل على مدى الحرية الممنوحة لهم
فقد كان عدد الطلبة كثيراً جداً ضاق بهم المدرج على سعته فكان كل منهم يدلي بما لديه من الاقتراحات؛ وأخيراً زاد عدد الاقتراحات وتضاعف عدد المتكلمين، فاقترح عليهم ناظر المدرسة أن يكتبوا ما يريدون. وبذلك ترك للطلبة أن يعدوا بأنفسهم الاحتفال المئوي لمدرستهم. وقد وكل للطلبة أنفسهم تنفيذ ذلك البرنامج وإظهار براعتهم في فن الصناعة والأعمال الإدارية مع إشراف بسيط من ناظر المدرسة الدكتور أمين سيد ومدرسيها
ويتعود الطلبة حياة الابتكار، فإذا دخلت قاعة الرسم شاهدت مشروعات كثيرة. فهذه لناد يقترح الطلبة إنشاءه وقد راعوا فيه أن يتناسب مع الغاية التي سينشأ من أجلها. ولذلك كان فيه قاعات كثيرة بعضها كبير والبعض الآخر صغير. وقد تجد اقتراحاً لتنظيم ميدان تتوافر فيه الأسباب الصحية مع جمال الذوق وإبراز سحر الطبيعة، فإن الطلبة يعدون الإعداد اللازم لأن يكونوا رجال عمل وأهل تفكير وابتكار وذوق حسن.
فوزي جبر الشتوي