الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 302/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 302/رسالة العلم

بتاريخ: 17 - 04 - 1939


ترى ما وراء هذا الكون؟

علاقة بين الكون المحدود وأصغر ما فيه

للدكتور محمد محمود غالي

بحث الرجل منذ القدم عن معرفة الكون فكانُ يقسم النجوم التي يراها في السماء إلى مجموعات تشبه على وجه التقريب بعض الحيوان أو الأشياء. وقد وُجدت في السويد أشكال من هذه المجموعات الشبيهة بشكل الحيوان، منقوشة على الحجر منذ العصر البرنزي. واليوم يُقسم الفلكيون في مؤتمراتهم السماء إلى 89 مجموعة تجد أسماءها في الدليل الفلكي. وقد كان (باير) في سنة 1603 أول من أطلق الحروف الإغريقية الأولى على أسماء النجوم، لكي يُفرَّق بين نجوم المجموعات الكوكبية المختلفة. ولم يلبث أن تقدم علم الفلك تقدماً جعل هذه الحروف الإغريقية لا تكفي هذه المسميات لكثرتها؛ فلجأ العلماء إلى الأرقام، وأصبحت النجوم تحمل الرقم الوارد من الدليل الفلكي. وتقدم المنظار الفلكي كما تقدمت الطريقة الفوتوغرافية، فأصبح الدليل يحوي مليوناً من النجوم، وتقترب معارفنا الآن من عشرات الملايين.

جُل بنظرك في الشكل الأول ترَ جزءاً من المجرة في برج الثور يدلك على بقعة صغيرة من عالمنا الذي يحوي مئات ألوف الملايين من النجوم والأجرام. ثم تأمل الشكل الثاني وهو السديم الشبكي في الدجاجة تر واحداً من ملايين ملايين العوالم الأخرى المكونة للكون - ثم تصور جسما صغيراً في الكون مثل إحدى أشواك التين؛ وتصور أصغر ما يعرفه العلماء من الجسيمات المكونة لهذه الشوكة، وهو الإلكترون الذي تحوي الشوكة الصغيرة ملايين منه. إن عدد إلكترونات الكون يتعدى كل خيال، ومع ذلك فقد تمكن العلماء من الوصول إلى علاقات معقولة بين الكون في مجموعه وبين الإلكترون المتناهي في الصغر. وسأحاول في هذه الأسطر أن أحيط القارئ علماً بالطرق التي يتبعها العلماء في هذا السبيل ذكرنا أن العلم التجريبي قد أثبت ابتعاد جميع العوالم عنا، وابتعاد كل واحد منها عن الآخر بسرعة تزيد على 500 كيلو متر في الثانية لكل 26 , 3 مليون سنة ضوئية، وذكرنا أن النظريات الأولى للعالم دي ستير كانت تتنبأ بتمدد الكون، وأن النظريات عامة وإن عرفت تمدد الكون لم تعين في المبدأ الدرجة التي يتمدد بها. وأضيف اليوم أن العلم النظري الحديث لا يحتم الفكرة القائلة بابتعاد جميع العوالم بعضها عن بعض فحسب، بل يُعين السرعة التي تبتعد بها هذه العوالم كما يُعينها العلم التجريبي.

على أن النسبية وحدها لا تزودنا بهذه المعلومات الجديدة، ولكن للعلم منابع أخرى وجدت طريقها بعد النسبية لأينشتاين؛ وأهم هذه المنابع اليوم الميكانيكا الموجبة التي أسسها العالم الشاب دي بروي الحائز على جائزة نوبل، أستاذ السربون وعضو المجمع العلمي الفرنسي؛ وباتباع الطريق العلمي الجديد نجد - مع إهمال القوة الجاذبية بين العوالم إذ هناك ما يبرر إهمالها علمياً - إزاء قوة التنافر للكون، أن سرعة ابتعاد العوالم بعضها عن بعض تقع بين 500 و1000 كيلو متر في الثانية لكل 26 , 3 مليون سنة ضوئية

ومما يلفت النظر أنه للوصول إلى هذه النتيجة الحسابية التي تتفق مع النتائج العملية لم يلجأ الباحثون إلى أي عمل تجريبي أو إلى الأرصاد الفلكية

ويجدر بالذكر أن كل ما يتعلق بحساب الكون أو بحساب الإلكترون يرتبط إلى حد كبير بتعيين سرعة ابتعاد العوالم بعضها عن بعض. على أن هذا النجاح الأخير الذي يظهر في الاتفاق بين العلم النظري والعلم التجريبي لم يقف عند هذا الحد، بل استبنَّا من العلوم النظرية علاقة بين البروتون والإلكترون على وجه خاص بين كتلتيهما. ولكي يفهم القارئ شيئاً عن البروتون نذكر أنه بين مكونات المادة. فذرة غاز الهيدروجين مثلاً مكونة من مركز رئيسي هو بروتون واحد يدور حوله إلكترون واحد كما يدور القمر حول الأرض. ومن ثم أضحى العلماء بفضل تقدم الميكانيكا الموجبة بصدد نظريات تعين أمرين في آن واحد:

الأمر الأول: سرعة تمدد الكون ومنها القوة التنافرية، كذلك الثابت الكوني.

الأمر الثاني: النسبة بين كتلة البروتون والإلكترون

إلى هنا لازال يبعد عن ذهن القارئ العلاقة بين الكون والإلكترون، كما يبعد عن ذهنه أيضا علاقة يرى فيها وزن الكون. ولكي أعطي القارئ فكرة سريعة عن هذا أدله على وجود علاقتين توصل لهما العالم الكبير أينشتاين في سنة 1916. يرى في إحدى هاتين العلاقتين كتلة الكون.

(الأولى) علاقة تربط نصف قطر الحيز عند مبدأ تكوين الكون بالثابت الكوني (الثانية) علاقة تربط ثابت الجاذبية وكتلة الكون وسرعة الضوء مع نصف قطر الحيز السابق الذكر.

كنت أود أن أطلع القارئ على شيء من هذه العلاقات، ولكن

تدخل معظمها في الواقع حسابات لم يتعودها ومعادلات من

الصعب تبسيط مدلولها. فمثلاً بينما حجم كرة نصف قطرها

نق يعادل 34ط نق3 (ط النسبة التقريبية) فإن حجم حيز

كروي له نفس نصف القطر هو 2ط2 نق3 أي 4. 71 حجم

كرة عادية. والحيز الكروي ليس كرة معتادة بل غلافا لكرة

زائدة ذات أربعة أبعاد، وفي كل هذه الأبحاث يفرقون بين

قطر الحيز الفارغ الذي هو متوسط أنصاف أقطار مختلفة وفق

التوزيع المادي للكون من نصف قطر الكون قبل التمدد، وفي

هذه الأبحاث نرى أن تقوس المناطق الفارغة في الكون أقل

من المناطق الآهلة بالمادة. كل هذه الاعتبارات التي تربط

نصف قطر التقوس الكروي لقطاع ما ذي ثلاثة أبعاد مجال

ذي أربعة أبعاد للحيز والزمن الخيالي، صعب على القارئ

الدخول في تفاصيلها، ولكن يهمني أن يعلم أن العلماء توصلوا

إلى علاقات تجد فيها نصف قطر الكون المتقدم وسرعة ابتعاد العوالم وسرعة الضوء أو علاقات بين نصف قطر الكون

وعدد الإلكترونات وشحنة الإلكترون وسرعة الضوء. . .

الخ. ولكنى لا أترك هذا الجزء دون أن أذكر أن معادلة من

أهم المعادلات الأساسية في هذه الأبحاث تلك المعادلة الموجبة

الخاصة بذرة الهيدروجين ' ' أي لمجموعة مكونة من

بروتون واحد، وإلكترون واحد مرتبط به كما قدمنا، هذه

المعادلة تعين حجم الذرة وتوزيع شحنتها الكهربائية، ولا

أذكر هنا كيف أدخل العلماء وحدة الطول الجديدة التي هي

نصف قطر الكون في معظم هذه العلاقات، ولكن أرجو أن

يستقر في ذهن القارئ أن كل هذه الموضوعات تكَوَّن في وقتنا

الحاضر وحدة في العلوم، تستمد قوتها من الناحيتين العملية

والنظرية معاً، وأنه بالاستقراء طوراً، والبحث التجريبي تارة،

توصلوا لكثير من العلاقات التي تربط الكون بأصغر ما فيه

والتي سبق ان أعطينا النتائج الخاصة بها في جدول سابق.

كل ما أود أن يعلق بذهن القارئ أن يعرف أن الاستنتاج العلمي لا يقف عند المحسوسات. وسبق أن قدمت أننا لسنا بحاجة لنرى الليل والنهار لنعرف دورة الأرض، كذلك لسنا بحاجة لنحصي أجرام السماء لنعرف وزن الكون، وعدد ما يحويه من الكترونات، وضربت للقارئ مثلاً بعمل فوكوه عندما استدل على دورة الأرض من بندوله الذي علقه من قبة البانتيون.

وأعود فأقول: لو أن المريخ، وهو الذي يحجب الضوء عنه سحب كثيفة، كان مسكوناً بكائنات تفكر مثلنا نسميها المريخيين لما استحال عليهم أن يعرفوا أن سيارهم أيضاً يدور حول نفسه، كما تدور الأرض حول نفسها، ولاستطاعوا أن يؤكدوا ذلك برغم ما يحيط به من سحب كثيفة تحجب عن أهله ضوء الشمس، وهي سحب لم نعهد مثلها حول الأرض، بل لما استحال عليهم أن يحددوا فترة الليل والنهار الخاصة بهم، فما عليهم إذا كانوا ينعمون بدرجة ذكائنا، وكانت لهم طريقتنا في استقراء الأشياء، إلا أن يعقلوا كرة من خيط طويل يدعونها تهتز، فإنهم سيدركون أن الكرة لا تهتز فحسب، بل إن المستوى الذي تهتز فيه يدور حول نفسه، وبحساب بسيط يمكن للمريخيين إذن أن يحددوا فترتي الليل والنهار.

عسى أن يكون قد علق بذهن القارئ بعد هذا الجهد الذي واصلناه مدى أربع مقالات عن (الكون يكبر) ثلاثة أمور: الأول أننا أبناء كون محدود مكون من عوالم كلها على حيز وغلاف كروي. الثاني: أن هذا الغلاف الكروي يتسع ويتمدد على نحو كرة من المطاط، وان ثمة قوة تدعو لهذا التمدد الذي يجعل كل العوالم يبتعد بعضها عن بعض، وأننا الآن في هذه المرحلة من الابتعاد والتمدد التي بدأت منذ بلايين من السنين.

الثالث أن ثمة علاقات ثابتة بين الكون في مجموعه وأصغر ما فيه وهو الإلكترون

وأضيف إلى هذه الأمور الثلاثة انه ليس لنا أن نحاول نعرف شيء خارج عن هذا الكون المحدود.

هذا هو الكون وفق احدث الآراء. وقد يتساءل فريق من القراء عما وراء الكون المحدود. وقد يجيز هذا الفريق لنفسه أن يتصور عوالم خارجة عن نطاقه، ولعل السبب في ذلك هو مطالبتنا له بالاعتراف أن الكون محدود وليس لدينا اليوم جواب على هذا سوى أن نكرر أن الكون الذي نرى ونسمع ونتحرك فيه ونعرف منه قوانيننا الطبيعية الحالية هو كون محدود ليس لنا أن نتساءل عن غيرة مادامت الظواهر الطبيعية التي نعرفها تنتشر في مثل هذا الكون وكل شئ يدل على إنها لا تتعداه. ولكن ماذا بعد الكون؟ سؤال يتردد على الذهن!

إن نمله نّفْتّرُضها متأملة خرجت لأول مرة من كومة صغيرة من الرمل وجدت نفسها بطريقة المصادفة إزاء ثقب في سجاد مفروش في سرادق فسيح مقام في جهة قضى نحبه فيها رجل له بين أهله مكانة، فمد الأهل الأبسطة والمقاعد، وأضاءوا الأنوار وازدحم المكان بالمعزين

تجولت النملة المتأملة الحديثة العهد بالحياة على هذه الأبسطة المتسعة تائهة لا تهتدي إلى المكمن الذي خرجت منه، ترى أنواراً تعلوها، وأبسطة ممتدة أمامها، وأناس يرحون ويغدون، وتسمع فقيهاً يُرَتَّلُ الآيات بصوت رخيم، وترى نادلا يقدم قهوة للقادمين، وكلما مر الوقت انطبعت هذه الصور في ذهن النملة الحائرة

لنفرض بعد ذلك أنه لسوء حظ النملة التعسة انطفأت الحياة فيها بأن داستها أقدام المعزَّين، فإنه يغلب على الظن أن الدنيا عندها هي فضاء تضيئه أنوار، ويحيط به سرادق، وتغطي أرضه أبسطة، وفقيه يرتل الآيات، ونادل يتحرك جيئة وذهاباً إن وجود القاطرة البخارية وحديقة الحيوان ومعرض نيويورك والاستعداد للحرب، أمر غير معروف لديها، فكل هذه أشياء خارجة عن حدود مداركها

قد تكون ملايين السنين التي يقدر الجيولوجيون والطبيعيون أنها الفترة التي مرت على الإنسان منذ وجوده بالنسبة للخليقة كهذه اللحظات بالنسبة للنملة الحائرة، وقد لا يمثل ميراثنا العلمي الذي لا تتسع له دور كتب العالم قاطبة الوجود في شيء، وقد يشبه معارف النملة عن الكون الذي لم تر المسكينة منه إلا ليلة عزاء محصور كل حوادثها بين قطع محدودة من الأقمشة، ويكون الكون ذو الحيز المتقوس وفق ريمان وأينشتاين، المتمدد وفق دي ستير واديجتون، المحدود وفق سان ولميتر، ذرة واحدة، لا نقول بين ملايين ذرات مماثلة لها، بل بين ملايين أكوان لا يمثل هو فيها شبيهاً، ويكون كوننا مثالا خاطئا لحقيقة الوجود، بل قد يكون كأحد جسيمات الدخان لمصنع لا نعلم عنه سوى إحدى ذرات دخانه المتصاعد، ونكون معشر الناس ككائن نفترضه داخل هذا الجسيم من الدخان، لا يرى إلا ما يكوَّن الجسم الذي هو بداخله. فالقطن الذي يدخل هذا المصنع والوادي الذي زرع فيه هذا القطن، والنهر الذي رواه، والمهندس الذي صمم القناطر على هذا النهر؛ كل هذه أمور غير معروفة بالمرة لهذا الكائن الذي افترضناه داخل الجسيم

كم يغلب على ظني أننا لا نختلف كثيراً عن هذه النملة الحائرة أو عن هذا الكائن السجين!

على أن شيئاً جديداً. اكتشفه العلماء يقع داخل هذا الكون المحدود وينتقل بين أرجاء هذا السجن الفسيح الذي نعيش في داخله. هذا الشيء يشغل بال العلماء اليوم لقوة اختراقه العجيبة وصفاته النادرة، ويسمونه الأشعة الكونية، وهو ما سأجعله موضوع حديثي في العدد القادم

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة