مجلة الرسالة/العدد 302/الطفل وحقيقة الإنسان
→ هل تقوم القيامة! | مجلة الرسالة - العدد 302 الطفل وحقيقة الإنسان [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 17 - 04 - 1939 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
زارتني، ذات يوم، سيدة، ومعها طفلة تناهز الرابعة، فسقيت السيدة القهوة المرة التي تحبها، وحرت في الطفلة: ماذا أسقيها أو أطعمها، أو بماذا ألاعبها، وليس في مكتبي ما يصلح لها؟ ثم خطر لي أن أبعث بالخادم ليشتري لها (شوكولاته). فقالت السيدة: (إنك تدللها وتفسدها). قلت (دعيها تتدلل وتفسد - على قولك - فلن ترى ارغد من أيامها هذه). قالت: (وستحبك بالشوكولاته!)، وضحكت. قلت: (هل تعلمين أن كل حب لإنسان آخر هو من حب النفس؟). ولم أطل في هذا المعنى فإني أعرفها تكره الفلسفة وإن كانت ذكية لبيبة. وجاءت الشوكولاته فأخذتها الطفلة من الخادم وابتسمت له مسرورة. فقالت لها السيدة - وأشارت إلي -: (إنه أولى بابتسامك، فقومي إليه واشكريه بقبلة). فانحدرت عن مقعدها خفيفة ضاحكة ولثمت خدي. وعادت إلى الشوكولاته، وهمت أن تنزع عن بعضها الورق وتأكل؛ فنهتها السيدة عن ذلك وقالت لي إنها ستدخل طعام على طعام، وليس هذا بمحمود أو مأمون. ولفت لها الشوكولاته في ورقة وناولتها إياها وربتت لها كتفها وقالت: (أبقيها معك إلى ما بعد). فأطاعت الطفلة ووضعت اللفافة في حجرها، وجعلت تقلبها وتعبث بها، وذهبنا نحن نتكلم، وإذا بالسيدة تغمزني بعينها مشيرة إلى طفلتها، فنظرت فألفيتها قد فكت الورقة وأقبلت عل قطع الشوكولاته تحركها بإصبعها، فهززت رأسي مستفسراً. فقالت السيدة: (إنها تعدها). قلت: (لعله يفرحها أن تعرف عددها). قالت: (لا) وهزت رأسها: (ما أظن بها إلا أنها تعدها للمرة الثانية). قلت: (ماذا تعنين؟). قالت: (أعني أن أكبر الظن أنها عدتها حين أخذتها. ثم أخذتها أنا منها ولففتها في هذه الورقة، فهي تعدها مرة ثانية لترى أنقصت أم بقيت كما كانت). قلت: (اتقى الله!). قالت: (لك رأيك، ولكنها بنتي فليس تَخفي عليّ من أمورها خافية)
وصارت الطفلة تعرفني بعد ذلك (يا بابا شوكولاته) وهي خليقة أن تعرف اسمي، وأن تستطيع النطق به، فما هو بأثقل أو أصعب من لفظ الشوكولاته، ولكن الشوكولاته حلواوها الأثيرة، وأنا أتحفها بها كلما لقيتها، فهي تهمل اسمي وتطلق عليّ ما تحب، ولو أهملت أن أقدم لها الشوكولاته، أو قصرت في هذا الواجب، لزهدت في لقائي وانصرفت عن ذكري، وتركت حث أمها على زيارتي.
وليست هذه الطفلة بالشاذة، فإن كل طفل على غرارها، حتى ولديّ أراهما أحفى بأمهما منهما بي، لأنها لا تنسى أن تزودها بما يحبان، وإن كنت أنا المتعب المكدود والذي لا يزال يسعى ويشقي ليسعدا.
وأحسب أن الإنسان يبدو على حقيقته في طفولته، أي قبل أن يصبح إنساناً مصقولاً منجورا أو مهذباً كما نقول، والطفل أثرة مجسدة، يحب ويكره، ويقبل ويدبر، تبعاً لما يلقي منك. وقد يكون أبوه أحنى عليه، وأعمق حباً له، وأعظم شغلاناً به، ولكنه لا يلاعبه، ولا يعني بأن يحشو له جيوبه باللطائف المشتهاة، ولا يجئه كل بضعة أيام بلعبة، فلا يعبأ به الطفل أو يجعل إليه باله، على حين تراه يتعلق بأهداب صاحب لأبيه لأن لا ينسى حين يجيء في زيارة، أن يحمل لهذا الطفل ما يسره أو لأنه يشغل نفسه معه بضع دقائق بالهذر الفارغ. وكان صديق لي يقول: (إنك سيئ الظن بالإنسان) فكنت أبتسم ولاأجيب، وأنتقل به إلى موضوع آخر استثقالاً لهذا البحث الذي لا يطيب للنفس في كل وقت، حتى لفتتني تلك السيدة الذكية إلى المظهر الحقيقي للإنسان، فدرسته في أبنائي، وانتهيت إلى أن كل ما في الإنسان من خير وفضيلة اكتساب وليس بطباع فيه؛ والطفل - قبل أن نعلمه خلاف ذلك - لا يعرف إلا نفسه، ولا فرق بينه وبين الوحش في الفلاة أو الغابة. وعجيب أن ينسى الإنسان أنه حيوان!؟! فهو يضرب أخاه، ويمزق له ثيابه، ويريق الحبر على أوراقه أو كتبه، ويحطم له لعبه، أو يتلفها، ويغضب أو يستاء إذا رآه يلبس الجديد قبله أو دونه، ويعذب العصافير والقطط، ويذوي الورود والأزهار، ولا يقف في العبث والإتلاف عند حد؛ ولا يدركه عطف على أحد، ولا يشعر برقة لإنسان أو حيوان. ولسنا نحن الكبار خيراً منه، وأنا لأحسن ضبطاً لأنفسنا، وكبحاً لأهوائها ونزعاتها، ولكنا نحتاج إلى الضبط والكبح لأن النزعات موجودة تلج بنا وتدفعنا؛ ولو أمنا العاقبة لأطعنا أهواء نفوسنا وأملينا لها فيها. ولو جمحت بنا لما نفعتنا اللجم والأعنة التي اعتدنا في حالت الاتزان أن نصدها بها عما تهم به. ونحن في كل حال نراقب ما هو أوفق لنا وأصلح، والأمر في الأطفال أوضع وأبين، لأن اللجم الكابحة ليست هناك، أو لأن التدريب عليها ناقص، ونمو العقل مع التجربة يساعد على حسن استخدام اللجام، ورياضة النفس على طاعته ولست أقول إن الإنسان شرير بطبيعته، فليست المسألة مسألة خير أو شر، وإنما هي طباع فيه وفطرة يبنى عليها، والطباع لأخير ولا شر، وإنما وهي طباع. وقد أحتاج الإنسان إلى مقدار من النظام لما أحتاج أن يعيش في جماعته، والجماعة لا تصلح بالانطلاق مع السجية، وإنما تصلح بإقامة حدود وعلى أن روح الجماعة ليس فيها لأخير ولا رحمة ولا رفق ولا شئ مما يجري هذا المجرى، والشر الذي يذعر الفردَ مجرد التفكير في ارتكابه تقدم عليه الجماعة وهي ترقص وتباهي، وهذا ما يحدث في الثورات. وقد رأيت بعيني جماعة حانقت في أبان الثورة المصرية تمزق رجلاً بأيديها فوليت هارباً من هذا المنظر. وما أظن أن أقسى فرد يستطيع أن يفعل ذلك وهو وحدة. وأحسب إن الذي يرد الجماعة إلى الطبيعة الحيوانية وهو أن الطباع الحيوانية المشتركة - وهي واحدة - تتغلب على المزايا المكتسبة التي تزعمها صفات إنسانية - وهي متفاوتة
وما زالت القاعدة الحسابية هي صحيحة، أعني أن الذي يقبل الجمع هو المتشابه لا المختلف؛ ولست تستطيع أن تقول إن عندك أربع تفاحات وأنت تعني أن عندك تفاحتين وبرتقالتين ومن هنا ذهب ماكس نوردو بحق إلى أن برلماناً من أعظم الرجال مثل جوته وشكسبير ونابليون الخ لا يكون خيراً برلمان من الأوساط العاديين: لأن برلماناً هكذا يكون مؤلفاً من مائة صفه مشتركة تتغلب على كل مزية مفردة لكل واحد من هؤلاء العظماء
ولست أذم أو أمدح، وإنما أصف الواقع، والواقع أيضاً أن المدينة معناها التنظيم، أي الكبح والصقل ودفع الحياة في المجاري التي هي أصلح للجماعة وأجلب لخيرها
إبراهيم عبد القادر المازني