الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 301/خواطر

مجلة الرسالة/العدد 301/خواطر

بتاريخ: 10 - 04 - 1939


للأستاذ فليكس فارس

كنت كلما سمعت النشيد الوطني المصري: (بلادي بلادي) أحول ذهني إلى فكرة بعيدة حين تكرار اللازمة فيه وهي:

(تعيش بلادي ويحيا الوطن)

كان يؤلمني أن أسمع مثل هذا التركيب الغريب في مبناه ومعناه ولا أفهم كيف يتغنى شعب هو في طليعة النهضة العربية بمثل هذا الشطر وفيه العيش شيء والحياة شيء آخر، وفيه البلاد شيء والوطن شيء آخر!

ثم مرت الأيام فإذا هذه اللازمة مسبوكة في قالب آخر تنشدها الجماعات والأفراد ويتغنى بها الأطفال هكذا:

(تعيش بلادي ويحيا الملك)

لا أعلم كيف وقعت هذه القافية على آذان الشعراء والموسيقيين لأول ما سمعوها، بل لا أعلم كيفْ كتبها من أقرها دون أن يتمرد القلم على يده أو تتمرد أعصابه على أذنه!

أين القافية المماثلة لكلمة (مَلِك) في النشيد نفسه أو في أية قصيدة نظمت منذ قرت الأبيات على قواف؟

أما أنا فقد رأيت سبابتيَّ تسدان أذني عندما سمعت هذه اللازمة فترحمت على اصلها

ولا أزل حتى الآن أتألم كلما سمعت هذا القرار الناشز في نشيد الوطن؛ ويخيل إلى أن حورية شعري تبسط ذراعيها هاتفة:

(يعيش مليكي ويحيا الوطن)

فهل يقرّ إخواني هذا التصحيح لتأخذ به وزارة المعارف فتنقذ النشيد وتحمي ذوق الناشئة من الانطباع على رطانة قراره؟

في بريد الولايات المتحدة أن قرينة الأستاذ جيمس آرجويت توفيت منذ أمد قريب تاركة، بوصيتها لجامعة هارفرد، مائة وخمسين ألف دولار يتصرف بها أستاذ يعين لتدريس اللغة العربية واستخراج ما في كتبها خدمة للعلم في الديار الأمريكية

ليعلق المفكرون على هذا الحدث، كل بما توحي إليه عقيدته. ليقل البعض إن ما أبقاه الأجداد من تراث علمي وأدبي قد استنزفه الغرب فلم يبق فيه قطرة لرجال العلم في هذا العصر، وإن أدمغة العرب قد عقمت في هذه الأيام فليس فيها ما يُطمع به. وليقل البعض الآخر إن قرينة الأستاذ جيمس قد استهواها ما يبدو من أبناء وطنها من غرائب الأعمال. أما نحن فلا نملك القلم من أن يكتب تكراراً ما كتبه منذ سنوات ونشر في رسالة المنبر:

(إن هذه البلاد مستودع لأشرف الثقافات، ومكمن لأسمى المواهب، فمن واجب أجناد المنابر والأقلام فيها أن يظهروا هذه القوات لأبنائها نزوعاً بهم عن الانقياد لدخيلات العادات والأخلاق التي تغلبت عليهم بما وجدوه من التوهم في أنفسهم فاستصغروها)

وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدى المساويا

في هذا البيت حكمة أصابت صميم الحقيقة في الشطر الأول، غير أنها قصرت في الشطر الثاني عن تصوير حالة الساخط النفسية؛ فإن من نقم على إنسان لا يقف عند إبداء مساويه بل يندفع إلى مسخ حسناته عيوباً

تلك حالة مستقرة في الطبيعة يصعب على الإنسان أن يحلق فوقها. ولكم نتمنى لو يخضد تهذيب النفس من شوكتها أو على الأقل لو انعتق الأدباء من سلطانها وهم الداعون إلى الإنصاف والمتجهون إلى المثل العليا

صديقنا الكاتب الروائي كرم ملحم كرم معروف في العالم العربي بآثاره الأدبية القيمة وصديقنا إلياس أبو شبكة كاتب من الطراز الأول وشاعر من طليعة شعراء هذا الجيل؛ ولست أدري أي شيطان نفخ بينهما فحول نورهما ناراً تتقد ولست أدري أيهما بدأ بإشهار الحرب لعدم اطلاعي على صحف بيروت كلها؛ غير أنني قرأت مجلة الأمالي فإذا فيها مقالات متتابعة يشن فيها الروائي الغارة على الشاعر ويتهمه بأنه سرق من شعراء الفرنجة جميع ما نظم في ديوانه (أفاعي الفردوس)

وعهدي بصديقي الأستاذ كرم عميق الغور رصيناً فإذا به يخرج من حلمه ويوجه نقده شتماً وتحقيراً، وما هذه الغضبة المضربة على قوله إلا غيرة على الأدب العربي وإشفاقاً على المسكين بودلير واضرابه، ينتزع منهم إلهامهم ويختلس ثمرات قرائحهم

وقد أورد صديقي كرم ما يزيد على عشرين قطعة من هؤلاء الشعراء باللغة الفرنسية وألحق كل قطعة بما اختلسه أبو شبكة وقيده لحسابه وهأنذا أورد أنموذجاً من هذه الأدلة التي يقضي بها الأستاذ كرم قضاء مبرماً على زميله:

أبيات أبي شبكة من قصيدة شمشون:

شبق الليث ليلة فتنزَّى ... ثائراً في عرينه المهجور

تقطر الحمّة المسعَّرةُ الش ... هباء منه كأنه في هجير

يضرب الأرض بالبراثن غضبا ... ن فيصدى القنوط بالديجور

ووميض اللظى يغلّف عين ... يه فعيناه فوهتا تنور

ونزا من عرينه تتشظى ... حمم من لظاه في الزمهرير

والهاث المحموم من رئتيه ... يشغل الغاب في الدجى المغرور

وهذه ترجمة الأبيات التي يتهم شاعرنا باختلاسها وهي من قصيدة آلهة الغاب لألفريد دي فينى:

(ورأى النمر جبابرة الغاب يذهبون إلى بعيد بالنمرة دون أن يتمكنوا من حجبها عن نظراته الملتهبة، فوجم وتململ، فاهتز الغاب لهزيم صيحاته، وتدفق الزبد من شدقيه سائلاً على لسانه المشتعل، واشتد احتدامه فانطلق محطماً قيوده)

ويقول صديقي كرم بعد إيراد شعر السارق الوقح وشعر المسروق المسكين:

أليس النقل حرفاً بحرف؟ ألم نقبض على اللص الأديب بالجرم المشهود؟ أيجوز للأدب العربي أن يرضى عن هذا الشعر المسروق حتى بتكته وحذائه؟

فليسارع إلى نجدة الأستاذ كرم للدفاع عن الأدب العربي من يشاء إذا وُجد أديب يأخذ بحكمه. أما أنا فأجيز لنفسي أن أقول إن قطعة دي فيني فضلاً عن أنها في واد وقطعة أبي شبكة في واد من حيث معناها ومبناها لأبعد حتى في اصلها الفرنسي من أن تداني أبيات شاعرنا العربي في سمو الخيال وروعة البيان

متى نحول إيماننا بكل ما هو غريب عنا إلى ثقة بأنفسنا؟ ومتى يسود التضامن والإخاء بين من لا يجدون غير النصب والشقاء في سبيل هذا الأدب العربي الذي تتوقف على إحيائه حياة الأمة العربية

(الإسكندرية)

فليكس فارس