مجلة الرسالة/العدد 300/الكتب
→ رسالة النقد | مجلة الرسالة - العدد 300 الكتب [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 03 - 04 - 1939 |
حياة الرافعي
تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان
للأستاذ محمود الخفيف
عرفت الرافعي رحمه الله، واتصلت بيني وبينه أسباب المودة في دار الرسالة أعواما ثلاثة؛ وأعرف سعيداً - متعني الله بطول صحبته - معرفة وثوق وخبرة. لذلك أراني شديد الغبطة أن أقدم إلى قراء العربية كتابا عن الرافعي جرت به براعة سعيد. . .
يعتبر هذا النوع من الكتب (كتب التراجم) من أهم أبواب الأدب عند الأمم الغربية؛ ولقد عظمت عنايتهم بتلك المؤلفات التي يجمع الواحد فيها بين دفتيه حياة رجل كان له في الحياة الإنسانية خطره وكانت له فيها رسالته؛ ولذلك كانت تلك الكتب واسعة الانتشار إذ يجد القراء فيها إلى جانب الدراسة والتحليل المتعة واللذة، وأي متعة أدبية هي أجمل من أن تصاحب عظيما لحظة من الزمن على صفحات كتاب؟
ولقد صار هذا النوع من المؤلفات فناً بذاته وصارت له أصول وأوضاع كما هو الحال في القصص والشعر وغيرها من فروع الأدب؛ فلابد فيه من الإحاطة بالموضوع عامة وفهم فن المترجم له ورسالته خاصة، ولابد من سلامة المنطق وعمق النظرة وتقصيها؛ ولا بد من الإنصاف والنزاهة واللباقة، ثم لابد بعد ذلك مما يجب توفره في كل أثر أدبي من استقامة الأسلوب وجماله وبلاغته
فإذا أضفت إلى ما سلف معرفة الكاتب بالمترجم له وصلته به شخصياً، فهنا الكمال الذي لا مطمع بعده؛ وبقدر ما يكون من هذه الصلة تكون قيمة الترجمة وخطرها، ولذلك كان طبيعياً أن يعد هذا القسم الخاص من كتب التراجم أكثرها أصالة في هذا الفن وأعظمها استهواء للقراء، بله قيمتها من حيث صحة الإسناد وصدق الرواية
والرجل العظيم، كاتباً كان أو سياسياً أو جندياً أو ما سوى هؤلاء، لا يعرف من آثاره أو أعماله وحدها، فلابد من تمام المعرفة به من درس حياته، فمن ظروف تلك الحياة ولدت آثاره ومنها استوى له مزاجه ونشأ وجدتنه ولقد كان الرافعي فيما أرى من عظماء رجال القلم لا في مجال العربية فحسب بل في مجال الفكر البشري كله. وكان رحمه الله من ذوي الأصالة، تجيش نفسه بالمعاني كما يتفجر الينبوع بالرائق العذب، لأن من طبيعته أن يتفجر بهذا دون حاجة إلى مدد من غيره: فلقد حيل بينه وبين الأدب الأوربي لأنه لم يتحرك بلغة من لغاته لسانه، وحيل بينه وبين مناقشات الناس في مجالسهم لأنها لا تنفذ في مسمعيه، فلم يبق إلا أن يقرأ العربية ثم ينطوي على نفسه ينظر ويتدبر. . .
أعجب سعيد بأدب الرافعي ثم ابتغى إليه الوسيلة حتى لقيه فنشأت بينهما صلة، ثم توثقت الصلة فكانت مودة، وتزايدت المودة فصارت إخاء، ثم كان بعد ذلك ما يكون بين الصديقين الحميمين من زيادة الألفة ورفع الكلفة. وتسنى بذلك لسعيد أن يدرس الرافعي الرجل في شخصه وأن يستبطن دخيلة نفسه كما درس الرافعي الكاتب في آثار قلمه، ومن هذه الناحية كملت ترجمته فهي كما ذكرت الناحية التي تكمل بها التراجم
وأدب الرافعي ثروة عظيمة يضم إلى تراثنا، ودراسة هذا الأدب لاشك أمر مطلوب في ذاته لناشئة الأدب عامة؛ ثم هو أمر لا غنى عنه للباحث المثقف شأن كل أدب رسخ أصله وامتدت فروعه
والرافعي كغيره من فطاحل الكتاب لابد من معرفة حياته لنفهم آثاره، بل لعله أجدر بذلك من كثيرين غيره لما أشرت إليه من صفاته؛ هذا إلى إنه لابد في دراسته من هاد، فلقد يعظم ويسمو أحياناً حتى ليغدو كالجبل الأشم لابد لمن يريد ارتقاءه من دليل. اقرأ على سبيل المثال مقالاته في النبوة، واقرأ مقالاته: رؤيا في السماء، وابنته الصغيرة وبين خروفين وإضرابها تجد البرهان على ما أقول؛ ولقد يرق ويسهل حتى تصبح مقالاته كأفواف الزهر ولكن لابد ممن يشير إلى سر جمالها، ثم لقد يعمق ويدق حتى يصير كالجدول المتواري لا سبيل إلى معرفة منبعه إلا أن يهديك إليه هاد، خذ مثالاً لذلك مقالاته في الجمال البائس والمشكلة، ثم لا تنس أوراق الورد ورسائل الأحزان وأشباهها فإنك لن تفهمها حق الفهم إلا أن تعرف المنبع الذي تفجرت منه. . .
ويسرني أن أذكر أن الأستاذ سعيداً قد دلنا بكتابه على نواحي القوة والجمال في هذا الأدب الفذ، ثم لقد كشف لنا من أسراره وخبيآته، وفرغ من عمله على خير ما يرجى من الجودة، وهو بما يرشدنا ويدلنا يؤدي إلى الضاد خدمة من أجل الخدمات
هذا ويسرني كذلك أن أذكر دون أن أتحيز إلى سعيد، إنه قدم بكتابه هذا أقوى براهينه على أصالته، فلقد حيل بينه كما حيل بين أستاذه وبين الأدب الغربي في لغاته، ومع ذلك فإني لأشهد أن ما اتبعه في كتابه تلك الترجمة لا يختلف في جوهره عن أصول ذلك الفن. وفي ذلك دليل قوي كما أقول على إنه كالجواد الكريم، لم يأت كرم أصله من المحاكاة والتعلم، وإنما كان كرم ذلك الأصل طبيعة فيه لأنه هكذا خلق
سار سعيد سيراً منطقيا فتتبع حياة الرافعي في مراحلها دون تعثر أو ارتباك، ثم حلل ودرس المزاج الأدبي والنزعات الاجتماعية والسياسية التي امتاز بها عصر الرافعي، فكانت طريقته بهذا هي الطريقة العلمية، طريقة النظر والتبصر، وبها امتاز كتابه عن تلك الكتب التي تعمد إلى مجرد الحكاية والسرد، وإنك لتقرأ الكتاب فتحس كأنك صاحبت الرافعي وترتسم لك شخصيته قوية واضحة فتسأل هل كان مرد ذلك إلى حسن سياق الكاتب أم إلى شدة معرفته بمن يكتب عنه، ثم لا يسعك إلا أن ترده إلى ذلك جميعاً
وثمة حسنة في الكتاب زادتني محبة له، ذلك أن الدافع الأساسي إلى كتابته كما نعلم كان دافع الوفاء نحو صديق راحل فلم يحمل هذا الدافع القوي سعيداً على التحيز وعهده بصاحبه قريب، ورأيناه بصدقه. وإنصافه يرينا ناحية من نواحي قوته ككاتب. ثم لقد كان يجد نفسه أمام أمور دقيقة فكانت تواتيه فيها لباقة ترضي الذوق ولا تغضب الحق. . .
أما أسلوب سعيد فلست بحاجة إلى أن أتحدث إلى القراء عنه، وقد عرف القراء سعيداً بجمال أسلوبه وبلاغة بيانه قبل أن يعرفوه بكتابة هذا، وحسبي هنا أن أشير إلى إعجابي به
وعهدي بسعيد إنه يحب في إخلاص أن يعرف رأي المنصفين فيما كتب فيحفل بأن يسمع ما لا يرضيهم أكثر مما يحفل بالثناء والمجاملة وهي خلة تضاف إلى محامده، ولذلك أصارح سعيداً بأني كنت أحب منه أن يدرس أسلوب الرافعي وطريقته دراسة نقدية. ولقد يرد على ذلك بقوله إن لهذه الدراسة مجالاً غير هذا المجال، وهو رأي له وجاهته بل هو رأي أكثر كتاب فن التراجم وفي مقدمتهم أميل لدوج وأندريه موروا وغيرهما، بيد أني شخصّياً أرى أن الموضوع يكون بهذه الدراسة أتم وأجمل ولقد طبع الأستاذ سعيد كتابه طبعاً أنيقاً متقناً في مطبعة الرسالة وختمه بفهرست للموضوعات وثبت دقيق للأعلام والصحف والمجلات والكتب التي ورد ذكرها فيه
أهنئ الأستاذ سعيدا بكتابه الفذ الجميل وأكرر له إعجابي. ويسرني في خاتمة هذه العجالة أن أشير إلى معنى آخر هو أن كتابه هذا بموضوعه وبما سلك فيه من طريقة يعتبر من مظاهر التجديد في أدبنا العصري، ولذلك كم أراني مغتبطاً بالحديث عنه في هذا الموضع من سجل الرسالة!
الخفيف