مجلة الرسالة/العدد 3/قصة عراقية
→ الرجل صاحب الكلب | تريد أن تحب. . .؟ قصة عراقية أنور شاءول |
رحلة إلى دير طورسينا ← |
بتاريخ: 15 - 02 - 1933 |
تريد أن تحب. . .؟
للأستاذ أنور شاءول
الأستاذ أنور شاءول كاتب عراقي وشاعر غزلي رقيق يمارس المحاماة ويزاول الصحافة ويصدر مجلة (الحاصد) وهي أرقى المجلات الأسبوعية في بغداد. وهو ثاني إثنين أقاما القصة العراقية على قواعد من الفن الصحيح وله فيها كتاب الحصاد الأول. (الرسالة)
فرغت من قراءة المقال وفي هذه المرة لم ترم المجلة بعنف ويأس شأنها كل يوم إنما وضعتها بلطف قرب وسادتها ثم مدت يدها تضغط على زر المصباح فساد الظلام.
وفي حلكة الغرفة كانت عيناها مفتوحتين يلتمع فيهما بريق غريب. لم تستلم للنوم لأنها كانت تشعر بحاجة ملحة إلى الإنتباه والتفكير. عجباً أيمكن أن يكون شقاؤها الملازم قد أشرف على النهاية فتشرق شمس الغد ضاحكة وتقبل السعادة المفقودة لترتمي بين أحضانها؟
إنه مقال (في الحياة والحب والجمال) لا مثيل له فيما قرأته قبل يوم من تلك الفصول المطولة. أنه قطعة من وجد، فلذة من قلب بل هو حياة مثلى مصغرة لما حنت إليها بعد نكبتها قبل سنتين. ولكن هذا المقال لم يثر من اهتمامها قدر ما أثار منه كاتب المقال، ذلك اللوذعي القدير المتفنن ذو القلم الساحر الذي استطاع ما لم يستطعه قبله من أهاجة الجمرات الكامنة من أعماق صدرها.
فمن هو هذا الكاتب؟
المقال مذيل بإمضاء ولكن الإمضاء لا يشير إلى شخصية حقيقية إنما هو من تلك الإمضاءات المستعارة المبتكرة. (سمير النجوم). ومن هو هذا سمير النجوم؟ وضغطت على زر المصباح فتفجرت الأنوار تغمر الظلمة وكانت المجلة في يدها فجلست متكئة على وسادتها وراحت تطالع المقال ثانية. وهي في كل فقرة من فقراته تستمهل النظر فتطلق لأفكارها الجامحة العنان. لم تعرف (م) كم مرة أعادت تلاوة ذلك المقال في تلك الليلة. ولم يكن ليهمها أن تعرف ذلك. وعندما دقت الساعة إثنين بعد منتصف الليل تذكرت أنها آوت إلى فراشها في منتصف الساعة الثامنة.
و (م) من هي؟
هي تلك الزنبقة التي ما كاد ثغرها يفتر في الحديقة الغناء فتمتص الندى وتتشرب العصير وتستحم بأنوار الشمس حتى قطعت عنها الطبيعة مجاري المياه فراحت تشكو العطش وتحذر الهلاك!.
هي الزوجة الحسناء بالأمس المترعة الكأس سعادة قدسية، الأرملة البائسة اليومالممتلئة الجوانح شعوراً غريباً علوياً!.
يا للجمال الرائع تلامسه يد الأسى بأصابعها النارية! يا للقلب الفارغ بعد امتلاء تتسرب إليه الوحشة والحنين بين الذكريات الوامضة الجميلة!
ويا ليالي الشتاء ما أطولها وما أقسى بردها على هذه الحمامة الوحيدة الوادعة!
توفي زوج (م) ولم يمر على زاوجهما أكثر من عام فخلف شريكة حياته ولا سلوى لها سوى طفلة في مهدها وذكريات طيبة مشوبة بمرارة الفراق الأبدي. من الذي سيبادلها الحديث الحلو؟ الابتسام؟ القبلات والعناق؟ ومن سيشاطرها الحياة شهورها وسنيها؟!
أحبت وحيدتها شأن كل أم وأفرطت في الحب ولكن هذا الإفراط ما كان ليخفف من مصابها بشريك حياتها. ومرت الأيام والأشهر وتصرم عام وبعضه و (م) تستهدف سهام الحياة.
فتتألم ذلك الألم الأخرس الذي يجيش في نفس جريح خانته قواه فما استطاع كلاماً حتى ولا أنينا!.
سل الوسادة عما بللها من دمعها الغزير في ظلمات الليل! سل النجوم عما تصعد إليها من حسرات على أجنحة الرياح! وسل المرآة الصافية عما صوب إليها من نظرات حزينة! ومن خلال لآلئ الدموع كانت عيناها تنظران بخيلاء كسير إلى الجمال المضاع.
- إنني ما زلت حسناء. . . جاذبيتي ما زالت ثائرة. . . وقلبي فارغ. . . هل سيظل هكذا. . .؟ ولماذا يظل هكذا. . . . . .؟
تجول هذه الأفتكارات وأشباهها في رأس (م) فلا تلبث أن ترتمي على كرسي قريب وتجهش بالبكاء. فإذا ما دنت إليها طفلتها تصيح (ماما) انقلبت من البكاء للضحك ومن الإجهاش للقهقهة، وبقي شيء لم يتغير هو الألم الممض في قلبها الوديع.
(أريد أن أحب). . وحي علوي هبط على نفس (م) هبوط قطرات الطلعلى الزهرة العطشى ولامس كل عاطفة من عواطفها ملامسة لفحة الموقد للجسم البارد ولكن أين من تحب؟ ومن هو؟ وكيف الحصول عليه؟.
شاب في مقتبل العمر، ممشوق القوام، ضحوك الوجه، براق العينين؛ جرسي الصوت؛ محبوب المعشر؛ مثقف؛ ذكي؛ ذلك من كانت تبحث عنه أو تحاول أن تبحث عنه (م) ليملأ فراغ قلبها الفتي.
ولكن أين نجده ومجتمعنا من القساوة بحيث يراقب منها الحركات والسكنات ويحصي عليها حتى أنفاسها. طريقها طويلة شائكة فهل تسير وهي حافية القدمين أم تنكص الأعقاب؟ (أريد أن أحب) كانت وحياً هابطاً ما أن له مرد.
بعد تفكير أيام بلياليها وصلت إلى أن بإمكانها أن تحب أحد كواكب السنما، وكواكب السنما كثيرون تتمتع بجمالهم وأصواتهم في السنما الناطق كل أسبوع، فما عليها إلا أن تحب أحدهم مثال روبرت مونتكومري أو كلارك كابل أو موريس شفاليه أو جاك بوكانان أو شارلس فارل أو رامون نوفارو أو أي كوكب آخر تقبل على إقتناء صوره ومشاهدة أفلامه وقراءة أخباره وتتبع كل أثر من آثاره. وهي فكرة جميلة تخفف من لواعجها ولكنها لا تطفئ أوار قلبها! إنها في حاجة إلى حب حقيقي، فلتبحث عن أمنيتها في غير هذه السبيل.
- لماذا لا تطالع الروايات العصرية التي ما زال أشخاصها أحياء يرزقون! فإذا ما تملك إعجابها بطل ما فلتبحث عنه عساها تصل إلى معرفته والانتصار عليه فتفوز به وعلى رأسها إكليل (كيوبيد) وإلى جانبها عشيقها العزيز المغلوب!
فكرة جميلة جداً حاولت أن تخرجها إلى حيز الوجودفقرأت أكثر من خمسين رواية فلم تظفر بمطمح أنظارها وأفكارها فأشاحت بوجهها حزينة ولهى!
وكومضة البرق الخاطف تحت جنح الظلام خطر لها خاطر أنست إليه ورأت فيه مخرجاً لهاً من هذه الحالة الأليمة، هو أن تبحث عمن (تريد أن تحب) في الجرائد والمجلات المحلية منها بوجه خاص، ففي هذه الصحف يكتب العشرات من الكتاب والقصصيين والشعراء فما عليها إلا أن تطالعها بانتظام حتى تعثر على ضالتها المنشودة.
مقالات! قصائد من الشعر المنظوم أو المنثور! كلمات مأثورة لا يحصى لها عدد! هذا سياسي؛ ذلك أديب؛ الآخر عالم. ألا إنهم كثيرون؛ كثيرون جداً ولكنهم على رغم كثرتهم لم يثر واحد منهم كامناً في نفس (م) فكانت تطالع ما ينشرونه ثم لا تلبث أن ترمي الصحيفة جانباً ثم يتملكها شعور هو أقرب إلى النفور منه إلى سواه. حتى كانت تلك الليلة السعيدة التي وقع نظرها فيها على مقال (سمير النجوم) في الحياة والحب والجمال فتنفست الصعداء وبرقت أسارير وجهها وخفق قلبها خفقة غريبة لم تستطع (م) تأويلها إلا بأنها عثرت على من تريد أن تحب.
والمجلة التي نشرت مقال (سمير النجوم) أسبوعية كانت (م) تشتريها صباح كل أحد من بائع الجرائد المجاور لدارها أما اليوم فقد كتبت إلى إدارة المجلة ترجو أن تعدها مشتركة في ثلاث نسخ أرسلت بدل الاشتراك السنوي عنها سلفاً.
وكان نهار الأحد التالي فصدرت المجلة، ويا لحزن (م)! فهي بعد انتظار أسبوع كامل كان أطول من عام لم تقرأ شيئاً لـ (سمير النجوم) ويا لوحشة القلب!
(أريد أن أحب) وحي أخذ يتجسم مفعوله في نفس (م) يوما فيوما باعثاً الأمل في أعماقها؛ وفي الأسبوع الرابع قرأت ودمع الفرح تترقرق في أجفانها مقالاً ثانياً لسمير النجوم عنوانه (السعادة، الزواج والمال) فكان له أثر عميق في نفس (م) فأعادت قراءته ثانية وثالثة ورابعة حتى أوشكت أن تحفظه عن ظهر قلب.
وفي الأسبوع التالي نشر (سمير النجوم) قصيدة في 21 بيتاً بعنوان (قلبي. .) كل بيت من أبياتها يسيل رقة وجمالاً، فكررتها (م) حتى حفظتها كلها وراحت تتغنى بها صباح مساء.
وظلت (م) تتعقب آثار (سمير النجوم) عشيقها؛ مثلها الأعلى، معبودها، فتلتهمها التهاماً ولا تقرأ سواها. وفي أحد الأيام فكرت حقاً في الأمر وارتأت أن عليها أن تعمل عملاً جازماً في هذا الشأن فتقول لسمير النجوم وجهاً لوجه (أني احبك. . احبك إيه الكاتب القدير. . احبك أيها الفتى الجميل. .) فكيف تصل إلى ذلك؟ وأجهدت فكرها وإذا بوحي الحب يهبط فيلهمها أن تدعو (سمير النجوم) (برسالة تبعثها إليه بواسطة المجلة) لتناول الشاي لديها في مساء الثلاثاء القادم. ما أبدعها فكرة مصيبة سهلة التنفيذ.!
وفي هدوء الليل جلست إلى مكتبها تحبر الدعوة إلى سمير النجوم وكان القلم يرتجف بين أناملها فتكتب وتشطب وتمزق ثم تكتب وتشطب وتمزق ثم تعود فتكتب وتشطب وتمزق. .
هذه كلمة خشنة. . هذه جملة مفككة. . هذا تعبير غير صحيح. . وأخيراً استقرت على أن تكون الدعوة كما يلي:
(أنا إحدى المعجبات بكتاباتك الفياضة بالروح. أتشرف بدعوتك إلى تناول الشاي في داري الواقعة. . . في الساعة الخامسة زوالية من عصر الثلاثاء القادم. أهلاً بك منذ الآن).
قرأتها ثانية وثالثة فأعجبتها، عند ذلك وضعتها في غلاف معطر وكتبت عليه: إلى الكاتب المحترم سمير النجوم - بواسطة مجلة. . . الغراء.
وحين استلقت على فراشها أرادت أن تقرأ الرسالة للمرة الأخيرة قبل أن تلتحف فتناولتها وتلتها بصوت عال كأنها تريد أن تتحسس موسيقى نبراتها فصدمتها منها الجملة الأولى (أنا إحدى المعجبات) لا. . لا لا. . يجب أن تكون هكذا (أنا معجبة ألخ. .) لماذا أتحدثإليه عن إعجاب الغير؟
ونهضت إلى مكتبها تعيد تبييض الرسالة وبعد هنيهة كانت تساورها الأحلام الجميلة. بعد ثلاث ساعات يأزف الموعد. كل شئ منظم بذوق سليم. الأواني، الطنافس، الوسائد، الصور، في وسط الغرفة رسم لها كبير يريك ثديها الأيمن تغطيه ملاءة حريرية شفافة، مجموعات الرسوم الفنية، الراديو غرامافون، السكاير، العطور. ما أعظمه يوماً في التاريخ.!
لم يبقى إلا ساعتان
لم يبق سوى ساعة ونصف!
ساعة واحدة فقط. . ثلاثة أرباع الساعة. . نصف ساعة. . ربع ساعة. . ما لقلبها يدق سريعا سريعا. .؟ ما لها لا تستطيع الثبات على المقعد. .؟ إنها تروح وتغدو كأن في صدرها ناراً تحركها. .
بقي عشر دقائق. . تسع. . سبع. .
وأحست بقلبها كأنه يريد أن يتحرك من مقره وبصدرها يعلو ويهبط. . وبأفكارها وأنظارها زائغة لا تستقر على قرار.
تن. . تن. . تن. . تن. . تن
دقت الساعة خمسة فطرق الباب على الأثر فهرولت تستقبل سعادتها المنتظرة.
فتحته قليلاً وهي تقول بصوت عذب متقطع. تفضل! فدخل سمير النجوم يتوكأ على عصاه. . كان شيخاً تجاوز الستين، محدودب الظهر، غائر العينين. . . . . .
- مساء الخير سيدتي. .
- تفضل!!
وأومأت إليه أن يدخل غرفة الاستقبال وركضت إلى غرفتها فارتمت على فراشها تبكي بكاء الأطفال. . .
أنور شاءول المحامي. بغداد