مجلة الرسالة/العدد 3/حظ الأديب في مصر
→ مسارح الأذهان | مجلة الرسالة - حظ الأديب في مصر مسارح الأذهان عبد العزيز البشري |
أثر الثقافة العربية في العلم والعالم ← |
بتاريخ: 15 - 02 - 1933 |
للأستاذ عبد العزيز البشري
خاض بعض أفاضل الكتاب في هذا الحديث فتظاهروا على أن الأدب لا يجدي في مصر على أهله، وإن هو أجدى بعض الأحيان ففي شح وتقتير، إذ هو في بلاد الغرب يعود بالغنى والثراء، وقد يعود بأوسع الغنى وأضخم الثراء. وراحوا يتشعبون مذاهب العلل والأسباب لهذه الحال: ومن بين هذه الأسباب قلة عدد المتعلمين في البلاد، وفتور هؤلاء عن اقتناء كتب العلم والأدب، وخاصة إذا استخرجت منه أثمانها، وانتشار الأدب الرخيص تنتضح به بعض المجلات الأسبوعية فيقبل عليه الشباب من المتعلمين ومن لا يزالون في طريق التعلم مطاوعة للشهوة، ولأنه لا يحتاج إلى كد ولا مطاولة. وكذلك أضافوا الأمر إلى أثرة الناشرين وإستغلالهم حاجة الأدباء وضعف وسائل هؤلاء إلى القيام بنشر آثارهم بأنفسهم. ثم إلى عدم عناية القادرين، من أي صنف كانوا، بالأدب الرفيع يذكونه بألوان المعونة والتشجيع.
وكل هذه الأسباب لا تعدو في رأي الحق الواقع في كثير ولا قليل. وعلى ذلك لم أدفع القلم اليوم لمناقشتها والتماس سواها، وإنما لأسرد تاريخاً موجزاً لصلة الأدب بالمادة في بلادنا إبتداء من الجيل الذي شهدنا طرفه إلى غاية هذا الجيل الذي نعيش فيه. كان الأدب من بضع وخمسين سنة مجرد حلية وزينة يتكلفه المتأدبون إما للمفاكهة والتعابث والتظرف، وأما للزلفى طلبا للتمكين من المنصب أو الحظوة عند أولي الأمر، أو أستخراجا للإحسان.
لم بكن الأدب، في الجملة، إذن يطلب غرضاً سامياً سواء من إمتاع النفس باطلاعها على ما في الكون من فتنة وجمال، أو معالجة القضايا العامة وملابسة الأسباب الدائرة بين الناس. فكان الشعر في الجملة أيضاً، يدور في المذاهب التي سلكها العرب الأقدمون من مدح وهجاء، وفخر وغزل ورثاء؛ على أنه، حتى في هذه الأغراض الضئيلة لم يكن أكثره على شيء من الخطر سواء في سمو المعاني أو في قوة الأداء. بل كان نسلاً ضعيفاً متزايل الأجزاء. وكيف يشعر لا يزيد على أنه نقض دارس مما أزل شعراء العهد العثماني: التماس المحسنات البديعية من جناس وتورية واستخدام، بالغة ما بلغت المعاني وواقعاً ما وقع نظم الكلام.
أما النثر، وأعني النثر الفني بالضرورة، فكان أشد نسولة وأبلغ تزايلا؛ كلام لا يكاد يجري لغرض أو يستشرف إلى غاية؛ إنما هو السجع يلتزم فيه كله فترى فيه السخن والبارد، والحلو والحامض.
لم يكن من شأن هذا المقال أن يعرض للأسباب التي بعثت هذا الأدب القوي العالي الذي نذوقه اليوم، فذلك مبسوط في كتب تاريخ الأدب العربي. وإنما عقدنا هذا الكلام لأيراد موجز من تاريخ التكسب بالأدب عندنا في العصر الحديث كما ذكرنا في صدر هذا المقال.
لقد كان التكسب بالشعراء، في الجملة، من طريق واحدة، هي أن طائفة ممن يتكلفون نظم الكلام كانت الحاجة تبعثهم إلى أن يرتصدوا إلى حكام البلاد وأعيانها وموسريها حتى إذا دخلت على أحدهم نعمة من أي لون كانت أو مات له ولد أو نسيب بادروا بأزجاء التهنئات يموهون حروفها بماء الذهب، أو المراثي يجللون رقاعها بالسواد، ولا يزالون يختلفون اليه في طلب العطية. وقد لا يظفرون، في الغاية ألا بتسريح بغير إحسان. ولقد أساء هؤلاء إلى الأدب إساءة بالغة، بحيث نشأت ناشئة الجيل الماضي وهي لا تكاد ترى في الأدب إلا الكدية، ولا في الأديب إلا أنه شحاذ! أما التكسب بالنثر فكان له طريق آخر أقبح من ذاك وأخزى. وذلك بأصدار صحف صغيرة حقيرة قد تظهر مرة في الأسبوع أو في الشهر أو في نصف العام. ومادة كسبها في الواقع من تخويف ضعاف النفوس بتشهيرهم وطلب معايبهم والتدسس إلى مكارههم إلى أن يشتروا أعراضهم، فأن فعلوا وإلا فلأمهم الهبل.
ولقد إنتهى، والحمد لله، هذان الضربان من التكسب بالأدب ولم يبق لهما في بلادنا، على ما أرى، من أثر. ولعل ذلك راجع إلى تغير فهم الناس لمعنى الأدب، وإرتفاعهم به على ذلك الهوان، وإلى إنتشار الثقافة بوجه عام، وإلى خشية سطوة القانون بوجه خاص.
وليس معنى هذا أنه لم يكن هناك لا أدب ولا أدباء، بل كان الشعراء وخيار الكتاب، إلا أنه لم يكن يتكسب أحد من هؤلاء (ما عدا الصحفيين المحترفين) بصنعة القلم.
نعم كانت الصحافة بمعناها الصحيح، ولا زالت مهنة كريمة نبيلة تجدي على أصحابها وعلى المشتغلين بها ما يعودون به على شملهم، بل ما قد يغنيهم ويضيف إليهم الثروات الضخام. أما هواة البيان على حد التعبير الحديث، فلم يكن لهم من هذه الجدوى نصيب.
ثم كانت (الجريدة) وقام على شأنها الأستاذ العلامة الكبير أحمد لطفي السيد بك، فرأى أن يدعو نفراً من كبار العلماء والكتاب إلى تغذية الجريدة من وقت لآخر بالمقالات المتخيرة المنتقاة في مختلف أسباب الحياة، واجتعل لهم ذلك الجعالات. ولعله في ذلك كان متهدياً بسنة الصحافة في الغرب.
على أنه لما إشتدت قوة الصحافة في مصر وعظم انتشارها بحكم إطراد الحضارة وكثرة المتعلمين، وإزدياد تتبع الجمهرة للأسباب العامة وشدة إهتمامهاً بها (اضطرت) كبريات الصحف، بنوع خاص، إلى العناية بتجويد تحريرها، وإغزار مادتها، حتى لقد جردت بعض صفحاتها لطريف البحوث في شتى العلوم والفنون، وفوق أنها أضعفت وظائف محرريها أضعافاً. فقد جعلت كذلك تؤجر الكاتبين فيها من غير محرريها بما لم يكن يحلم به أحد من عشر سنوات خلت. هذه حقيقة للأدباء أن يغتبطوا بها، وإذا كان المدى بين حظوظهم وبين حظوظ رصفائهم في الغرب لا يزال فسيحاً، فلهم من الأمل في القريب مزيد إن شاء الله.
بقى الحديث في التكسب بالأدب من طريق نشر الكتب ودواوين الشعر. والذي شهدناه من أعقاب الجيل الماضي ولا نشهد غيره إلى اليوم. أن الكسب من هذه الطريق يكاد يكون مكسوراً على جماعة الوراقين كما قال بحق بعض كبار الكاتبين على إنني أرجو منه أن يأذن لي في إستثناء أصحاب الكتب المقررة للتدريس، فاؤلئك وحدهم المجدودون، أو الذين كانوا مجدودين إلى وقت قريب. لقد كان الأدب عندنا، ولعله لا يزال عند الأكثرين إلى الآن ينتظم في سمط الكماليات، والكماليات عند أكثر الناس ليست حقيقة بأن يخف المرء اليها، اللهم إلا إذا واتته عفواً، أو بغير مشقة ولا جليل إنفاق. فبات بديهاً ألا تنفق كتب الأدب حتى تعود على أصحابها بنفقات طبعها بله الثروة وكرائم الأموال.
أما كتب العلم، فأن العلم يطلب في بلادنا على أن يفضي إلى إحراز شهادة رسمية تقلد محرزها منصباً حكوميا، ً فإذا لم يكن الأمر على هذا فلا كان علم ولا كان تعليم!
هذه حقيقة واقعة أرى إن إنكارها ضرب من الغش والتدليس مشايعة لهوى الجمهور، والعياذ بالله! لعل واحداً في كل ألف من الذين ختموا دروسهم في بلادنا هم الذين يشقون كتاباً علمياً لا تدعوهم إلى شقه حاجة المهنة. نعم لعل في الألف من المتعلمين واحداً أو دون الواحد هم الذين يطلبون العلم ويراجعون مدوناته ليكملوا أنفسهم، وليتزيدوا من معارفهم، ويفسحوا في ملكاتهم. العلم عسير الهضم، يكد الذهن ويجهد النفس، ففيم مكابدته وشدة المطاولة في تحصيله ما لم تقض بتحصيله ضرورة ملحة قاسية، من إرهاق الولي أو إلحاح الحاجة، أو جموح الشهوة إلى المنصب يعرض الجاه، ويعز في الأهل والصحاب!. فكيف تريدون أن تنفق عندنا كتب العلم للعلم؟!. . . . . .
أما الكتب المقررة للتدريس فهي التي كانت إلى وقت قريب، تدر على أصحابها الكثير بل الذي يستطيعون أن يكاثروا به أعلى مؤلفي الغرب قدراً وأبعدهم صوتاً! ولا أحسب أن هذا الأجداء كله يرجع إلى فضل المؤلفين وحده وعظم تجويدهم لما يخرجون من فنون الكتب، بل لعل شيئاً من ذلك يعود إلى أن هذه الكتب مفروضة فرضاً على العديد الأكبر من تلاميذ المدارس تشتريه وزارة المعارف لهم أو تريدهم على شرائه، وإلا خذلوا في الإمتحان وأفلتتهم الإجازات، أو على الأصح فاتهم التأميل في المناصب الحكومية، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
الواقع أن أكثر الكتب المقررة موف على الغاية من التجويد والإحسان، ولكنها غير مدينة في رواجها إلى هذا التجويد والإحسان. بل هي مدينة في ذلك، مع الأسف الكثير، لأنها مفروضة على التلاميذ فرضاً، ولو قد عدل عنها ما أخرجت المكتبات عشر ما خرج منها على أسخى تقرير. وهذه الحقيقة المرة القاسية ترينا مبلغ حظ العلم والأدب في هذه البلاد.
ومهما يكن من شيء فأن لنا أن تغتبط، ولو قليلاً، إذا نحن قسنا حاضرنا بماضينا القريب، فبين مؤلفينا من يستردون من أثمان مؤلفاتهم ما أخرجوا لطبعها، وفيهم من تفضل عليهم من الربح الكثير أو القليل. وكل الذي نرجو أن تطرد همم الشباب في تحصيل العلم الصحيح، وتتجرد عزائمهم في طلب الأدب العالي، معرضين عن إلتماس هذا الأدب الهين الرخيص. هنالك تنبعث في البلاد الحياة القوية العزيزة، وهناك يجازى العلماء والأدباء بما يكافئ الجهد العظيم.