الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 299/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 299/رسالة العلم

بتاريخ: 27 - 03 - 1939


وزن الكون

وعدد ما به من إلكترونات

للدكتور محمد محمود غالي

لم يكن الموضوعان الأخيران اللذان تعرضنا لهما على صفحات الرسالة: (الكون ينتشر) و (الكون يكبر) من الموضوعات السهلة التي يمكن للقارئ أن يتصورها كغيرها، ولعله اقتنع إلى حد أنه موجود في كون محدود، وأنه محمول على حيز متقوس، وأن عالمه أحد ملايين العوالم التي تبتعد كلها الواحد عن الآخر، والتي تقع كلها في قشرة كرة كبيرة لكنها جوفاء، شاء لها القدر أن تتسع وتمتد على نحو كرة من المطاط، وهي بهذا تكون كوناً واحداً محدوداً منتهياً يختلف عن الكون اللانهائي الذي تصوره أقليدس والذي اعتقده العلماء منذ الإغريق حتى عهدنا القريب

ولم يكن في وسعي أن أواصل اليوم موضوعاً دقيقاً كهذا، وأخطو بالقارئ خطوة أخرى، أدله فيها على الطريقة التي توصل بها العلماء إلى معرفة عدد الجسيمات أو الإلكترونات المكونة للكون، كنتيجة للدراسة المتقدمة، دون أن يتخلل أحاديثنا فترة من الراحة ودون أن نهيئ للذهن فرصة للتأمل، هذا الشعور من التأمل والراحة نود أن يشعر به القارئ في هذه الأسطر من هذا المقال

لم تصبح دراسة هذه الظواهر الحديثة من تمدد الكون وابتعاد جميع العوالم بعضها عن بعض وما يترتب على ذلك من معرفة وتحديد عدد جسيمات هذا الكون، من المسائل التي تدخل في حدود الهندسية والميكانيكا المعروفة، ولا في حدود تصوراتنا المعتادة، مع أن التجارب الطبيعية التي ثبت لنا منها فرار جميع العوالم بعضها عن بعض، وبالتبع فرارنا عنها، بسيطة جداً لا تدعو لكثير من التأمل، وأبسط ما فيها أنها وقعت كلها داخل المجموعة الشمسية التي نحن فيها، بل وقعت جميعها فوق سطح الأرض، بل في حجرة في أحد المراصد الأرضية المتعددة

عجيب ألا يعرف العالم الطبيعي من هذه الحجرة المتواضعة أن الكون محدود فحسب ب يحاول أن يعرف من رسائل الطيف العديدة التي تصل إليه، والمنبعثة من العوالم البعيدة، عدد الإلكترونات المكونة للخليقة، وهي التي لا يتغير عددها في نظر العالم الطبيعي ما دامت مكوِّنة لكون محدود.

إن النتائج التي ترتبت على معرفة تمدد الكون وقياس الدرجة التي يكبر بها في خلال الزمن، والتي تتلخص في معرفة عدد الإلكترونات المكونة لهذا الكون، مهما كان جسيم الإلكترون متناهياً في الصغر، ومهما كان الكون متناهياً في الكبر، قد تبدو للقارئ غريبة، لذلك رأيت لزاماً أن أحاول رفع هذا النوع من الدهشة لديه قبل شرح الأسباب التي أدت إلى مثل هذه النتائج

لو سألنا عالماً طبيعياً أن يحصي لنا عدد الذرات ونوعها وبالتبع عدد الإلكترونات والبروتونات التي تتكون منها مدينة القاهرة، فإن من المستحيل أن يعطينا هذا العالم أي فكرة عن هذا العدد مهما استعان بمئات الأخصائيين والعلماء. إن محاولة إحصاء المنازل وما بها من أثاث ومعرفة نسبة أوزان جميع العناصر التي تدخل قي تكوينها، بل إن إحصاء الأحياء، الإنسان منها والحيوان والنبات، ومحاولة الوصول من ذلك إلى عدد ما تحويه المدينة المائجة من إلكترونات ضرب من العبث

ولو أننا بعد ذلك حاولنا أن يعطينا عالمنا الطبيعي فكرة عن عدد الإلكترونات الموجودة في مياه النيل مدة فيضانه، وهي كمية أكبر بكثير من الموجودة في القاهرة لأجابنا أنه قد يستطيع بعد البحث والتحري أن يدلنا على فكرة ولو تقريبية عن هذا العدد. صحيح أن هناك صعوبة كبرى في تقدير تصرف المياه المتدفقة في النهر في مثل هذه المدة من السنة، كما أن ثمة صعوبة في تقدير أطوال النهر وأحجامه في المناطق المختلفة وفروعه المتعددة، بل إذا أردنا أن ندخل في حسابنا ما تحمله المياه من طمى تعترضنا صعوبات أخرى، ذلك أن الطمى يختلف مقداره في الزمان والمكان ويتركب من أكثر من عشرين عنصراً، لكل عنصر ذرات تختلف في عدد إلكتروناتها عن الأخرى، ولكن مهما يكن من الأمر، فإن عالمنا الطبيعي قد يستطيع بعد مجهود مضن أن يعطي فكرة عن هذا العدد من الجسيمات، وأن يحدده بين رقمين يتعلقان على دراسة هيدرولوجيه طبيعية معقولة.

ولو أردنا أن نعرف عدد الذرات المكونة للكرة الأرضية الحاملة لنهر النيل وغيره لهان الأمر قليلاً، ذلك أوزن الأرض معروف بينما وزن مدينة القاهرة أو لندرة غير معروف، بل إن الكثافة المتوسطة للكرة الأرضية معروفة أيضاً وهي تساوي 5 , 25. ليس المجال هنا لإثبات ذلك. وهكذا يحاول العالم أن يعطينا فكرة تقريبية رغم ما يتخلل الموضوع الأخير من مصاعب، منها عدم معرفتنا مقدار النسب الموزعة بها العناصر المختلفة في باطن الأرض. ومهما يكن من الأمر فإنه يبدو أن الخطأ النسبي في معرفة العدد التقريبي لذرات الأرض بالنسبة للعدد الحقيقي لها أقل بكثير من الخطأ النسبي عندما نحاول عد هذه الجسيمات لمدينة القاهرة.

ولو أننا سألنا العلماء اليوم عن عدد الذرات ونوعها وبالتبع عدد الإلكترونات والبروتونات المكونة للكون، وعن بعض البيانات الأخرى الخاصة به مثل نصف قطرة قبل تمدده ودرجة تقوسه وكتلته وكثافته وغير ذلك لأعطونا الإجابة التي نراها في هذا المقال - إجابة يظهر أنها عند هؤلاء العلماء أقرب للحقيقة من كل تقدير سابق.

وليس السبب في ذلك أننا نرى الكون وحدوده، ولا أننا نعرف أجزاءه جزءاً جزءاً، ولا أننا نحيط بمقدار كل عنصر من العناصر المكونة له، ولكن لأن ثمة معارف في مسائل أخرى مثل تمدده تجعل بين هذه المعارف وبين إلكترونات الكون رابطة تسمح بالوقوف على هذا العدد، بحيث إذا كانت معارفنا في هذه المسائل صحيحة كان عدد الإلكترونات المكونة للكون صحيحاً. ولعل القارئ قد أدرك أن هذه المعارف لا بد وأنها تتصل مباشرة بعلاقة بين الكون في مجموعه وبين الإلكترون المتناهي في الصغر والذي قلنا إنه يدور في المادة حول النواة كما يدور القمر حول الأرض

قد يتراءى للقارئ أن هذا الترتيب غريب لا يتفق مع المنطق في شيء. كيف أستطيع أن أعرف عدد إلكترونات الكون أكثر مما أعرف عدد إلكترونات الكرة الأرضية؟، بل كيف أعرف عدد جسيمات هذه أكثر مما أعرف جسيمات مدينة القاهرة؟ هذه المدينة التي أعرف حدودها أكثر مما أعرف الأرض، وهذه الكرة الأرضية محدودة أمامنا أكثر من الكون. إن طيارا مثل كامبل الإنجليزي قطع دون توقف المسافة بين لندرة ومدينة سدني من أعمال استراليا في ثلاثة أيام وثلاث ساعات، أي أن الطيار يدور في عهدنا حول الأرض في أسبوع واحد. كيف تصعب معرفة عدد جسيمات الأرض عن الكون؟ وهذا الأخير مكون من ملايين الملايين العوالم - كل عالم مكون من ملايين الملايين الأجرام والشموس.

ولكن لا أريد أن يعجب القارئ لذلك فإنه على قدر المستندات العلمية التي أمامنا تكون درجة معرفتنا للأشياء صحيحة.

هب جدلاً أن صديقاً لك شيد مسكناً خاصاً في إحدى ضواحي القاهرة، وأنك عثرت في أوراق صديقك على مستندين: أحدهما يدلك على أن الأرض والمباني قد كلفته ثلاثة آلاف جنيه، والثاني يدل على أن الأثاث قد كلفه ألف جنبه أخرى، عندئذ تستطيع أن تؤكد أن هذه الدار كلفت صاحبها 4000 جنيه

وهب أن صديقاً آخر سألك عن تكاليف حجرة المكتب بمفردها أو عن القيمة التي دفعها ثمناً لأشجار الحديقة أو لسجادة موجودة في غرفة الاستقبال، فإنه يتعذر عليك عندئذ أن تعرف أيا من هذه. قد تحاول أن ترجع إلى أسعار السوق لتعرف كم كلفته هذه السجادة الفاخرة، ولكن يعوزك مثلاً معرفة التاريخ الذي اشتراها فيه، وقد يعوزك إن عرفته تعيين الظروف التي اقتناها فيها، فقد يكون ابتاعها في مزاد تصادف وقوعه في ذلك التاريخ، وقد يكون المزاد خاصا بصديق له فلا تعرف أن كان تساهل معه في تقدير الثمن: ثمة عوامل عديدة تجعل تقدير ثمن أثاث كل حجرة ضرباً من المحال. ولكن ليس لصديقك أن يدهش إذا علم أنه إن فاتك معرفة ثمن جزئيات الدار، فلا يفوتك معرفة الثمن الكلي لهذه الدار؛ إذ أن من حقك دائماً إن تقول لمحدثك: لا تسائلني عن أجزاء الدار ولا عما تكلف صاحبها لشراء هذه السجادة أو المكتبة، كل هذا لا أستطيع أن أعطيك فكرة عنه، ولكن سلني عن الدار بأكملها أجبك أنني أعرف

هذا ما أود أن يعلق بذهن القارئ، فلسنا في حاجة لأن نتجول في الكون لنعرفه فقد يكون لدى العلماء مستندات جديدة تدل على عدد ما به من إلكترونات أو على طول نصف قطره قبل ابتداء تمده أو درجة تقوس الحيز فيه في الوقت الذي يتعذر علينا أن نعرف فيه عدد الإلكترونات المكونة الأرض أو لمياه النيل أو لمدينة القاهرة

على أنني إن تحاشيت فيما تقدم من مقالاتي أن أشغل ذهن القارئ بالأرقام، أرى لزاماً علي هذه المرة أن أدله على وصف الدار التي يسكنها وعلى حدود المملكة التي هو فرد فيها هذا الكون الذي ذكرنا أنه كروي وأنه يكبر بات أرضاً خصبة للتفكير العلمي. وللقارئ فيما يلي النتائج الكمية الخاصة بالكون وفق آراء أدنجتون العالم الإنجليزي المعروف

(1) سرعة ابتعاد العوالم

528 كيلومتر في الثانية لكل

3. 26 مليون سنة ضوئية

(2) نصف قطر الكون قبل

ابتداء التمدد

1068 مليون سنة ضوئية

(3) كتلة الكون

2. 14 10 55 جرام أي

1. 08 10 22 قدر كتلة الشمس

(4) عدد الإلكترونات المكونة للكون تساوي عدد البروتونات

1. 29 10 79

(5) كثافة الكون الأولى

1. 05 10 - 27 جرام س م3 أي بمعدل ذرة واحدة من الهيدروجين لكل 1. 58 س م3

(6) الثبت الكوني

9. 8 10 - 55 س م - 2

ومما يجدر بالذكر أن هذه النتائج التي هي آخر حدود معارفنا حتى سنة1934 مرتبطة الواحدة منها بالأخرى، بحيث إذا عرفنا إحداها عرفنا البقية منها، وتتعلق كلها بالسرعة التي تبتعد بها العوالم أي بالرقم 528 الموجود بالصف الأول من الجدول

على أن درجة معرفتنا لسرعة السدم والعوالم البعيدة وعلاقة ذلك بتمدد الكون تزيد سنة عن أخرى، ففي سنة 1931 لم يكن يعرف العلماء سوى 90 سديماً وكانت أكبر سرعة يعرفونها هي سرعة سديم الأسد وهي 19600 كيلومتر في الثانية، ويبعد عنا هذا السديم بمسافة يقطعها الضوء في 104 مليون سنة

أما في سنة 1936 فقد وصلت معارفنا إلى قياس سرعة 179 عالماً وسديماً من العوالم البعيدة عنا وكان أكبر هذه السرعات لسديم موجود في اتجاه الدب الأكبر وهو يبتعد عنا بمسافة 241 مليون سنة ضوئية ويبتعد بسرعة 42 ألف كيلومتر في الثانية، وهذه المعلومات الأخيرة عرفناها من كتاب الأستاذ الكبير بريا أستاذ السوربون الذي يشغل الآن كرسي الطبيعة الفلكية، هذا الكرسي الذي أوجدته جامعة باريز منذ سنة 1937 وقد طالعنا في الأسبوع الماضي أن منظار مرصد مونت ولسون بأمريكا الذي يبلغ قطره مترين ونصف المتر والذي ترى صورته الفوتوغرافية هنا يكشف العوالم المفصولة عنا بمسافة 500 مليون سنة ضوئية

ذلك ما بلغناه من المعرفة، وللقارئ أن يتصور مبلغ خطورة هذه المعرفة منذ أن ذكر وليم هرشل في أواخر القرن الثامن عشر أن للسدم اللولبية جزرا كونية شبيها كل منها بعالمنا المجرة. ومنذ أن نشر أينشتاين في سنة 1915 النسبية في وضعها العام وتنبأ (دي ستير) في سنة 1917 بابتعاد العوالم عنا، ووضع شابلي في سنة 1918 القانون الذي يربط القدر المطلق للنجوم المتغيرة بفترة تغيرها، ومنذ أن اكتشف هبل في سنة 1924 نجوماً في السدم القريبة من هذا النوع الأخير، ناهيك بما بلغته الأجهزة الفلكية من الكمال

عجيب هذا الإنسان! كل يوم يزداد معرفة عن يوم، حتى أصبح الكثير من الأمور لا يخفى على ذكائه.

أنستطيع أن نحصي إلكترونات الكون؟ نعم. وأي عجب في ذلك ما دمنا نتبع طريقاً علمياً سليماً يعطينا هذا القدر.

عندما نريد أن نعرف وزن كرة صغيرة من مادة معينة نفكر عادة أن نضع هذه الكرة على كفة ميزان، ولكن إذا استحال وزنها لتناهي صغرها بدا للشخص أن القيام بهذه العملية مستحيلاً، ولكن العالم الطبيعي يعرف مثلاً علاقة بين وزن الكرة، وبين سرعتها في الماء أو الهواء، وحيث أنه يتيسر له قياس هذه السرعة فإنه يصل لمعرفة وزن هذه الكرة، وهو لذلك غير محتاج إلى الاستعانة بالميزان للوقوف على حقيقة ثقلها.

وإنما أردت بالكرة المتقدمة أن أقدم للقارئ مثلاً كيف يصل العلم بطريق غير مباشر لاختراق طريق المعرفة، وليس هناك أي علاقة بين سرعة الكرة المتقدمة وموضوع تمدد الكون أو معرفة وزنه.

ولو أن السحب المحيطة بالكرة الأرضية كثيفة بحيث لا نرى الشمس بل تكتنفنا ظلمة حالكة، لما استحال علينا أن نعرف دورة الأرض حول نفسها. فللوصول إلى ذلك نرقب كرة معلقة بخيط طويل بعد هزها فنلاحظ أنها لا تهتز فقط بل نلاحظ دوران المستوى الذي تهتز فيه.

وهكذا لم يكن العالم الكبير (فوكوه) بحاجة ليرى الليل والنهار ليعرف من تعاقبهما دورة الأرض، بل استدل على ذلك من بندوله المعروف الذي علقه من قبة (البانتيون). مدفن العظماء في باريس، هذه القبة التي ترتفع عن سطح الأرض 78 متراً. ذلك البندول نرى شبيهاً له في متحف فينا الحالي.

وهكذا يزداد قاموس المعرفة وتتقدم العلوم بين البشر، ولعل في وزن الكرة الصغيرة المتقدم ذكرها وفي بندول فوكوه الذي عرف منه دوران الأرض سبباً عند القارئ ليعرف أن قطر الكون ووزنه وعدد إلكتروناته مسائل يجيز معرفتها العلم

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة