مجلة الرسالة/العدد 298/نظام العالم ونظام الدول
→ من برج بابل | مجلة الرسالة - العدد 298 نظام العالم ونظام الدول [[مؤلف:|]] |
نعي الشتاء ← |
بتاريخ: 20 - 03 - 1939 |
للأستاذ طنطاوي جوهري
الحفل والجامع الأزهر
نشأت في قريتنا كفر عوض الله حجازي من أعمال مديرية الشرقية - شاركت أسرتنا في أعمالها الزراعية - كان لهذه الأسرة الكبيرة اتصال حميد بعلماء الجامع الأزهر يغدون ويروحون كل عام على سراة الأسرة وأكابر القرية، وأكابر بلدة (الغار) التي فيها أسرة أخوال والدتي، فأثر ذلك كله في المرحوم والدي، فأرسلني إلى كتاب في بلدة الغار وفيها جدتي لأمي، فحفظته بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثم أرسلني مع أقاربي إلى الجامع الأزهر لأكون كهؤلاء العلماء، ويكون لي عمود بالجامع الأزهر مثلهم. درست علومه. هنالك أصبحت السنة مقسمة بين دراستين: دراسة أزهرية، ودراسة حقلية. ذلك أني سمعت في علم التوحيد أن العالم منظم - يا سبحان الله، لا علم عندي، لا كتاب يهديني، لا مرشد يرشدني؛ للقوة السلطان الأعظم، ظلم مخيم، جهل فاضح، فأين نظام العالم؟ أخذت أصوم النهار، وأقوم بالليل، وأسأل صانع العالم أن يهديني. أخذت أدرس الشمس والسحاب والحجر والشجر والزهر والزرع نهاراً، وأدرس النجوم والقمر وأتأمل ذلك الجمال البديع في ظلمات الليل المدلهمات. وأخذت أقول: لعل وراء هذا الجمال حكما وعلموماً، ففي النهار جمال، وفي الليل جمال. فما أسبابه ونظامه؟ حائر، حائر!
دار العلوم بعد الأزهر والحفل.
لم يكن ليخطر لي أن في العالم حكمة وفلسفة تكشف اللثام عن هذا الوجود، كلا ولكن بعد اللتيا والتي أخذت أدرس الفلسفة القديمة بحذافيرها ولكني بعد ذلك لم أزل في موقفي الأول. أريد أن أفهم حقلنا الذي نزرع فيه القطن والقمح والذرة والبرسيم. هل هذه الأرض وما فوقها هي التي تحوي المواد الصالحة للبسنا وأغذيتنا وأغذية الحيوان؟ وأخيراً ما هذه الطيور الجميلة المغردة المنعشة للفلاح في حقله؟ وأخيراً ما هذا الجمال؟ الجمال هو الذي أخذ بلبي وأرقني ليلاً بنظراتي في النجوم، وأبهج قلبي نهاراً بنظراتي في الأشجار والزروع والأزهار.
اتصلت بدار العلوم فدرست فيها علم الفلك الحديث بعد ما درست القديم في الفلسفة. هنالك دهشت أعظم الدهش وقلت في نفسي: هذه فرصة سانحة، فهاهم أولاء علماء الأمم قديماً وحديثاً نظروا فيما كنت حائراً فيه في حقلنا (أ) نظروا في مقادير المادة المسماة عندهم (بالكم) المتصل والمنفصل من الهندسة وعلم الفلك ومن الحساب والموسيقى فقاسوا هذا العالم وحسبوا الكواكب أبعاداً وأحجاماً وحركات فأرونا السنين والشهور والفصول وأوقات الخسوف والكسوف - الله أكبر. نظام بديع. حركات منظمة هذه أعز مطالبي وأجل ما أتمناه. إني لسعيد جد سعيد. كيف لا أكون سعيداً؟ ألم يظهر العلم أن أبعد السيارات نفسها عن الشمس جاريات على سنن المتوالية الهندسية كما كشفه العلامة (يود): 3 - 6 - 12 - 24 - 48 - الخ.
(ب) ثم أن العلماء لم يقفوا عند هذا الحد من البحث فإنهم نظروا في أشكال المادة وتنوعها فكانت العلوم الطبيعية وقد أحاطت بها العلوم الرياضية حتى إنهم رأوا في نحو الأحجار الساقطة نظماً حسابياً يرجع إلى الجذر والتربيع والمتواليات العددية، ويدهش الحكيم حينما يرى الجذر والتربيع مسيطرين على حساب البنادل المختلفة الأطوال وحركات الضوء والصوت والحرارة والكهرباء.
نظام العناصر ونظام أوراق النبات.
وقد أدهشني أن للعناصر المشهورة اليوم (المبدوءة بالأيدروجين المختومة بعنصر (أورانيوم)) جدولا يضم متفرقها ويجعل بينها نسباً أفقية وأخرى رأسية بحيث ترى أن كل عنصر لو وضع في غير موضعه لاختل جميع النظام - يا عجبا! أيصل النظام إلى هذا الحد؟ أكسجين في الماء وفي الهواء، وحديد ونحاس في الجبال، وصوديوم وكلور كامنان في الملح المغمور بالماء في البحار، كيف يكون لها هذا الجدول المنظم وتكون بينها هذه النسب البديعة؟ فأما هذا الإنسان الذي له السلطان الأعظم وهو الغاية القصوى من هذه العوالم فلا يكون له نظام؟ كلا العقل ينكر هذا - هاهنا تحل مشكلة العالم - هاهنا مركز الدائرة - هاهنا عرفنا سبب النزاع المقام بين الأسرات والممالك - هاأنذا عرفت سبب لجمال في الحقول وفي السموات نهارً وليلاً، فأما أسباب الشقاق والنزاع بين الناس فالبحث جاري فيه الآن كما ستراه.
وكما رأينا نظام العناصر المختلفة في جدولها تاماً رأينا لأوراق النبات على الأشجار المختلفة جداول منظمة ذوات نسب في الصفوف الرأسية والصفوف الأفقية، ولا مناص لي من الاكتفاء بالإشارة إليها في هذا المقال حرصاً على وقت القارئ الكريم، وتفصيل هذا وما قبله في كتاب أحلام في السياسة موضحاً مصوراً تصويراً شمسياً. وهل في شرعة الإنصاف أن تعتبر أفراد إنسان في هذا العالم كمية مهملة لا نظام يجمعهم، ولا قانون يكبحهم؟ وقد رأينا النسب والقوانين لم تذر ذرات الأيدروجين مع ذرات الصوديوم، ولا ورقات التفاح مع ورقات الأعشاب، ولا حركات سقوط الأحجار، إلى آخر ما قدمنا، كلا كلا. إن قوى نوع الإنسان وعقوله لها نسب خفية، وكل امرئ في الأرض له نسبة إلى غيره في أمته وفي غيرها، ولما خفي ذلك على الناس حاروا في أمرهم فلم يجدوا مناصاً من الحرب لأنهم لم يهتدوا إلى نظامهم، فكل يزعم أن له عند آخر حقاً يريد أخذه بالقوة.
منفعة جوارح الطير والحيوانات المفترسة لهذا العالم الأرضي
وسعد الناس على ذلك أنهم رأوا جوارح الطير تأكل بغاثها والأسود والنمور تأكل الأرانب والحملان، فأخذ القوي يسطو على الضعيف. أو ما علموا أن ههنا نظاماً درسه علماء الأمم قديماً وحديثاً، فعلموا أن الحشرات تمتص العفونة والرطوبة اللتين لو بقيتا لأحدثتا في الجو فساداً فهلك الحيوان والإنسان، وهذه الحشرات بعد تأدية وظيفتها تصبح طعاماً سائغاً للطيور ونحوه ولو بقيت لكانت ضرراً وبيلاً. وهذه الطيور الكثيرة في الجو والحيوانات التي تأكل النبات تهاجما في الحياة كواسر الطير وسباع الفلوات وتأكل رممها بعد الموت حفاظً للجو من مكروباتها وإلا يفسد الهواء وكان الوباء العام، وروعيت الحكمة في قلة توالد نحو الأسود وكثرة توالد نحو الأرانب والجرذان، ثم روعيت الحكمة في الرحمة الملحوظة في المواد لمخدرة التي تفرغها العنكبوت مثلاً في الذبابة عند اقتناصها فتكون مخدرة لا تحس بآلام.
لم يفكر العامة والجهلاء في ذلك وتبعهم رجال السياسة في سائر أقطار الأمم الأرضية. إن هذه النظرة السطحية في العلم قد آن أن يسقطه البرهان ويدحضه نوع الإنسان لأنهم درسوا.
جمهورية الحيوان لقد استبان للناس في عصرنا أن للنحل وللنمل ولكلاب البحر وللغربان نظماً عجيباً. وإن أبدع ما أدهشني مما اطلعت عليه نظام النمل الأبيض ذلك لذي ألف فيه العلامة (أوزوريك) الألماني في عصرنا الحاضر كتاباً خاصاً عنوانه النمل الأبيض وانتشر بجميع اللغات فترى فيه صورة الملكة وبجانبها الملك وهو أصغر منها جثة وقد رأيتها تحكم مملكة متسعة الأرجاء وهي عمياء وتحت إشرافها عمال وجنود يحفظون الأمن، ويشيد عمالها ممالك في الصحارى لم يقطعها الفرنسيون بمد السكة الحديدية إلا بالديناميت وهؤلاء العمال لهم نظام فوق كل نظام وعدل، ومنهم حراس في غاية الانتظام يقظون بل وصلوا على ما يقال إلى استنباط الماء من أوكسجين المادة وأيدروجينها، هذا هو النظام الذي يعيش على مقتضاه النمل الأبيض الذي تدير سلطانه ملكة واحدة تحت إمرتها عدد يبلغ أضعافاً مضاعفة لعدد الإنسان على وجه الأرض. يظن علماء العصر أن أمثال هذه الحشرات عاشت قبل الإنسان بما يزيد على ثلاثمائة مليون سنة وأن الإنسان لم يعيش عليها أكثر من ثلثمائة ألف سنة فتم نظام الأول ونقص نظام الثاني.
كافح الإنسان الأول أشد الكفاح ليصل إلى الحقيقة عن طريق القتال وساعده على ذلك تباعد الديار وحيلولة البحار والجبال بين الأمم - وهاهو ذا اليوم أزال الحواجز بالطيارات الطائرات والتلغراف بقسميه والراديو فاتصلت الأمم فآن لهم أن يفكروا - وهاهنا خاطبنا علماء الأمم وذكرناهم بأن نوع الإنسان لن يشذ عن قاعدة هذه المخلوقات - إننا نرى الحكماء والأذكياء في نوع الإنسان أقل عدداً من غيرهم كما قل البارعون في الجمال، ويقول أفلاطون قديماً: الناس ذهب وفضة ونحاس يريد بذلك الحكماء ورجال الجيش ثم الزراع والعمال وإضرابهم من سائر الناس. إذاً لم يتجاوز الإنسان نظام المعادن ونظام الهواء والماء، فقد قل الذهب ليصلح لتقويم الأشياء وكثر الحديد لكثرة الحاجة إليه، كما كثر الهواء وقل عنه الماء، فإن حاجة الحيوان إلى التنفس أكثر منها إلى شرب الماء.
النظام التام في المستقبل لنوع الإنسان
إن هنا لمنافع مادية وخواص طبيعية موزعة على الأرض، وما حولها من المخلوقات، وهاهنا قوى وأقدار موزعات على أفراد نوع الإنسان. إن هذه المواهب الإنسانية تقابل هذه الخواص والمنافع المادية، ولم يتسن للناس الانتفاع بهذه الخواص المادية إلا باستفراغ الجهد في استخراج تلك القوى الكامنة في أفراد نوع الإنسان. هذه هي التي تحل مسألة السلام.
فلتشكل لجنة من جميع الأمم تقوم بدراسة العامر والغامر في جميع القارات وتجد في أن تدرس أحوال الأمم كلها، وتمضي كل أمة على استخراج ما كمن في عقول أبنائها من القوى والملكات وما في أرضها من الكنوز المعدنية والزراعية وغيرها من الفوائد والثمرات، وكل أمة قصرت فيهما أو كليهما فلترسل هذه الجمعية العامة من أبناء الأمم الأخرى الذين هم أقرب إلى هؤلاء الجاهلين من يكمل نقصهم ويرفع شأنهم في القسمين معاً، ولهم في نظير ذلك فوائد وثمرات، فإن كل قوة كامنة في فرد لم تستخرج في أي مملكة من الممالك الأرضية، وكل منفعة كامنة في أي بقعة من بقاع أي مملكة أرضية لم تظهر في الوجود تكون خسارة وحرماناً لجميع نوع الإنسان فربما كان من هؤلاء لمهملين في بلاد الصين مثلاً من إذا علم أصبح مفكراً كبيراً أو طبيباً عظيماً يتعدى أثره إلى سائر الأقطار وهكذا في البقاع المهجورة في ممالك المعمورة.
دفع وهم
ربما يقول بعض الناس: إن قياس عقول الناس ومواهبهم على نظام السيارات حول الشمس وغيرها مبحث علمي ليس إلى تحقيقه من سبيل. وللإجابة على هذا الاعتراض أوجه نظر القادة والزعماء إلى فرع من فروع علم النفس في التربية وهو علم مقياس الذكاء فليسألوا مديري المدارس في الولايات المتحدة وفي إنجلترا وغيرها: أليس مقياس الذكاء له اليوم السلطان الأعظم على وضع الشبان ولشابات في لأعمال اللائقة لهم بعد نيل الشهادات العالية، كما له ذلك السلطان يم دخولهم المدارس؟ إن الناس صائرون إلى ما قلناه شاءوا أم أبوا فليدرس نظام العقول ونظام الممالك، وليعلم جميع نوع لإنسان طوعاً وكرهاً. إن من مبادئ ذلك أنهم أخذوا يصطفون من الشبان في جميع أهل الأرض أقدرهم على المصارعة والمسابقة فيعونه بطلً في تلك المصارعة والمسابقة، وهكذا يفعلون مع الفتيات فيصطفون منهن ملكة الجمال وذلك بمجرد الاختيار لا بالقنابل والخناجر والرمح، فهكذا سيكونون في نظم السياسة وإدارة لأمم وحفظ المجموع، سنة لله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة لله تبديلً.
طنطاوي جوهر