الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 298/أعلام الأدب

مجلة الرسالة/العدد 298/أعلام الأدب

بتاريخ: 20 - 03 - 1939


إسخيلوس

للأستاذ دريني خشبة

ولد إسخيلوس عام 525 ق. م في قرية كان يعكف أهلها على عبادة دمتير ربة الزراعة، وديونيزوس إله الخمر، وهي قرية صغيرة متاخمة لقرية إيكاريا التي نشأ فيها الشاعر تسبيز الذي يعزون إليه نشأة الدرام

وقد ذكر لنا اسم أبيه في الأبيات التي أوصى أن تنقش على قبره حيث يقول:

هنا في سهل جيلا المثمر الخصيب

يضم هذا اللحد رفات إسخيلوس بن يوفوريون

فتى أثينا، الذي شهد له الميديون

وعرفت بأسه مرثون

ولقد برع إسخيلوس في الشعر منذ حداثته وكان يغشى حلقات الشعراء ويدرس طرائقهم ويحفظ أناشيدهم فإذا خلا إلى نفسه رددها وراح يهتف بها وقد راقته أغاني تسبيز فكان يقلدها وينظم المقامات على نسقها، ثم فرغ لنظم الدرامة الطويلة التي ثار فيها على العرف فكتب له التوفيق حتى إذا انبثق فجر القرن الخامس قبل الميلاد، وبلغ الفتى السادسة والعشرين من عمره استطاع أن يشهد الناس فنه في أكبر مسارح أثينا حيث مثلت أولى رواياته فبهرت الأثينيين وعرضت عليهم لوناً جديداً من أدب الدرام كان ثورة عنيفة على الماضي ودعامة وطيدة لمسرح المستقبل

ولما نشبت الحرب بين فارس واليونان ألقى الشاعر يراعه وامتشق سيفه وأسرع إلى مرثون الخالدة هو وأخوه فأبليا بلاءً حسناً ترك في نفس إسخيلوس أثراً عظيماً من الزهو والاعتداد لم يمحه نصف قرن عاشه بعد ذلك

ثم تلت موقعة مرتون التي استشهد فيها أخوه (490 ق. م) فترة من السلام فرغ فيها إسخيلوس إلى أدبه واستطاع خلالها أن يحرز النصر على جميع منافسيه في حلبة الشعر للمرة الأولى في المسابقة العامة عام 484 ق. م

ثم دعا داعي الوطن بعد ذلك بأربعة أعوام فترك أثينا مع جميع أهلها ليشترك في موقعة سلاميس، وليناضل فوق صفحة البحر في تلك المجزرة المروعة التي ذابت فيها جيوش كسرى وحطمت أساطيله وفر أثناءها إلى بلاده بعد أن شهد الهزيمة بعينيه، فسلمت اليونان وسلمت أوربا إلى الأبد من التبربر

وقد اشترك بعد ذلك في حروب تراقية عام 476 كما تدل عليه جذاذات من ثلاثيته المفقودة المسماة (ليكورجوس)

وفي سنة 475 نظم مأساته (نساء إطنة) وكان إذا ذاك في سفارة سياسية إلى سيراكوزا

وقد رحل إلى سيراكوزا مرة أخرى، ونظم فيها درامته (الفرس) التي حازت الجائزة الأولى عام 472.

وفي سنة 468 ظهر منافسه العظيم سوفو كليس في ميدان المسرح فجأة ففاز على إسخيلوس بالجائزة الأولى، وكان لفوزه أثراً بليغ في نفس إسخيلوس لم يمحه أن فاز (إسخيلوس) بعد ذاك بجوائز عدة كان يسيل لها لعاب الشاعر الشاب

وقد عاش إسخيلوس عشر سنوات لا ينسى هزيمته سنة 486 حتى أن بعض المؤرخين يظن أنه هاجر إلى صقلية بسبب ذلك، ويقول بعضهم إنه كان كلما ذكر تلك الهزيمة الأدبية دمعت عيناه ونقم على الشاعر الشاب.

وفي عام 456 توفي فجأة في مهاجره ودفنت رفاته في جيلا.

هذه هي أهم الوقائع في تاريخ حياة إسخيلوس. ولا نستطيع أن نتناول أدبه بالنقد أو التحليل قبل أن نقف قليلاً عند هذه الوقائع نستخلص منها ما ينفعنا في دراسته وما يكشف لنا عن نوحي نبوغه

وليس من شك في أن نشأة إسخيلوس الأولى وبيئته كان لهما أثر بعيد في أدبه. بيد أن هذه النشأة وتلك البيئة ليسا شيئاً إذا قيسا إلى الأثر الكبير الصارم الحاسم الذي تركه في نفسه خوض غمار تلك الحروب الدامية العنيفة التي شنتها على بلاده فارس، والتي كانت حرباً بين جيش جرار كثيف يقدرون عدده بألف ألف أو يزيد، وبين أمة بأكملها قليلة العدد شديدة البأس ساهمت جميعاً، رجالا ونساء وأطفالاً، في آلام الحرب حتى لقد هجرت أثينا إلى إحدى جزائر البحر، وقام رجالها في السفائن يصارعون المنون ويغالبون الموت. ويهزءون بجبروت إجزرسيس، حتى كسروا شوكته وظهروا على أساطيله وأطعموا السمك ووحوش الماء لحوم أبطاله

لقد تركت مرتون في نفس إسخيلوس أثراً لا يعد له إلا أثر سلاميس، وليس يعدل هذين الأثرين شيء آخر في نفس الشاعر الجندي الذي أخذ يبني مجده الأدبي على أكوام من أشلاء القتلى الذين أكلتهم هذه المجزرة الهائلة بين عدو قوي كثير العدد وبين أمة ضعيفة بعددها كثيرة بوطنيتها استطاعت ببضعة آلاف أن تقهر أكثف جند عرفه التاريخ

خرج إسخيلوس من هاتين المعركتين شخصاً أخر شديد الإيمان بقوة السماء مكبراً لسلطان الآلهة أيما إكبار، مقتنعاً باليد العليا التي تسهر على الكون وتدبر أموره، وترد الحق إلى المظلوم وتكبح جماح الظالم مهما كان ذا حول وطول وقوة. . . وقد ظهرت هذه الروح في أكثر دراماته التي نظمها بعد هذه الحرب، وهي أروع ما نظم.

أما سنة 501 فهي مفتتح القرن العظيم الباهر، القرن الخامس قبل الميلاد الذي يزهى على الزمان بما أفاء على الإنسانية من علم وأدب ومن نور وعرفان. . . وقد كان مطلعه مطلع سعد لعبقرية إسخيلوس، فقد مثلت أولى دراماته في أولى سني هذا القرن، وسنه حينذاك لم تتجاوز السادسة والعشرين.

ولعل عام 484 ق. م هو أهم الأعوام في تاريخ الأدب اليوناني جميعاً. . . وذلك أن مؤرخي هذا الأدب يجعلونه بداءة الفترة الذهبية المجيدة ليس في تاريخ الأدب اليوناني فحسب، بل في تاريخ الأدب الصرف قاطبة، وهم يبدءونها بهذا العام الذي أحرز فيه إسخيلوس أولى جوائزه الأدبية في المسابقة العامة بدرامة مفقودة قلب بها الأوضاع القديمة رأساً على عقب، ووضع الدعامة القوية القويمة للمسرح الحديث، حتى ليصح أن يطلق على هذه السنة: السنة الأولى تاريخ الأدب المسرحي.

وهم يجعلون هذه الفترة بين عامي 484 و431 حينما أحرز يوريبيدز أخرى جوائزه بدرامته الخالدة ميديا. . . وعلى ذلك تمتد الفترة إلى ثلاث وخمسين سنة مثل فيها على مسرحي أثينا أكثر من ألف درامة منها تسعون لأسخيلوس ومائة وثلاث وعشرون لسوفوكليس وثمانون ليوريبيدز وأكثر من مائتين لشاعر عظيم لم يحفظ لنا الأثر اسمه ومئات أخرى لشعراء نعرف بعضهم ونجهل بعضهم الآخر. . . وليس الكم فقط هو العجيب في هذا الإنتاج الباهر، بل الكيف أيضاً هو الذي يسحر ويبعث على الدهش، فهذه الدرامات السبع الباقية فقط من إسخيلوس، والسبع الباقية من سوفوكليس، والثماني عشرة الباقية من يوريبيدز هي ثروة فائقة من تراث هذه الفترة، والقارئ يقف حيالها ذاهلاً لعمق التفكير وجمال الأداء؛ وقوة السبك، وسمو الغاية والخلو من الزيف والبهرج. . . وهي مع ذلك ليست أجمل ما أبقت عليه يد العفاء من الثروة الضائعة، إذ أن أكثر الدرامات التي فاز بها الشعراء بالجوائز الأولى ما تزال مفقودة، والأمل معقود على نجاح الكشف في أسكندريتتنا للحصول على الغرر والدرر من نتاج الذهن اليوناني العظيم.

وقد لا نجد في تاريخ الأدب المسرحي فترة تشبه هذه الفترة اليونانية إلا فترة الأربعين الذهبية في تاريخ الأدب الإنجليزي في عصر اليصابات، فقد كتبت ومثلت في هذه الفترة جميع درامات شكسبير ومارلاو وبن جونسون وبومون وفلتشر وماسنجر وويستر وهايود. . . الخ. . . غير أن الشعراء الإنجليز في هذه الفترة كانوا على كل حال تلاميذ هذا السلف الصالح من شعراء أثينا، وكثيراً ما سطوا على آثارهم واستباحوا أخيلتهم واستعملوا طرائقهم التي أوفوا بها على الغاية.

وكما تتشابه الفترتان في الإنتاج الأدبي للمسرح فكذلك تتشابهان في الباعث على النهضة الأدبية في كل منهما. فلقد كان الباعث في الفترة اليونانية هو هذه الحرب الضروس التي شنتها فارس على اليونان والتي كانت مرحلتها الأولى في مراثون، ومرحلتها الثانية في سلاميس حيث حطم أسطول إجزرسيس، مما أيقظ الروح القومي في هيلاس وأجج نيران الوطنية في قلوب الأثينيين خاصة، فجاءت النهضة الأدبية المسرحية وليدة هذا الروح.

أما الفترة الإنجليزية فقد جاءت عقب تحطيم الأرمادا الأسباني اللجب الذي أعده فيليب الثاني لغزو إنجلترا. . . وهذا التشابه في الباعث في الفترتين يدل على ما بين الوطنية والأدب من وشائج قوية يزيدها النصر قوة ويمهد لها بمزيج عجيب من الحماسة والكبرياء يقابله مزيج آخر من المآسي والآلام.

وبعد، فماذا صنع إسخيلوس من هذا كله؟ وكيف ثار ثورته على الماضي العتيق وشاد هذا البنيان الشامخ؟ وما هي هذه المثل التي كان ينشدها ويعمل على إقامتها لتكون نبراساً للذهن اليوناني؟ وإلى أي حد نجح في جهاده الشاق الجميل الطويل؟ ومن يا ترى كان عونه في هذا الجهاد المشكور المبرور؟ وكيف يستطيع كاتب أن يستعرض كل هذا التاريخ، وأن يلخص درامات إسخيلوس السبع أسرع تلخيص وأقصره في مثل هذه الفصول المقتضبة الضيقة؟

روى المؤرخون أن أسخيلوس كان لا يأنف أن يرى النقص في إحدى دراماته فيعترف به قبل أن يأخذه عليه أحد من النقاد ثم يعمل على إصلاحه في الدرامة التي تليها، وقد يحدث أنه يفوز بالجائزة الأولى في إحدى المسابقات بدرامة كان يشك أكبر الشك في نجاحها، فإذا تناول الجائزة لم يأبه أن يلفت الناس حوله إلى نواحي النقص في تلك الدرامة التي حازت إعجابهم واستولت على شعورهم. . . وفي هذا دليل على أن إسخيلوس كان ينشد المثل الأعلى لفن الدرامة، وكان لذلك يدأب على عمل التجارب ليأخذ بالأصلح وليتوقى ما لا غناء فيه، وكان لا يأنف من الانتفاع بجهود الآخرين وتجاربهم، وكان يعنى عناية خاصة (بتكنيك) المسرح فكان بذلك أول المخرجين الأكفاء وأعظمهم. . . وهو أول من خفض عدد أفراد الخورس وزاد عدد الممثلين، وجعل الغناء والإنشاد في المرتبة الثانية بعد الكلام والحوار. وهو أول من أبتكر الثلاثية، أي المأساة الكبيرة التي تتكون من ثلاث مآس تربطها عقدة واحدة ويجمع بينها موضوع واحد. وقد كان يعتبر هوميروس معينه الأول، فكان يقول أن مآسيه فتات من مائدة هومر، لكنه مع ذاك أبتكر الدرامة السياسية وانتزعها من الأحداث الجلائل التي كانت تحدق بوطنه في ذاك العصر. . . وكان يعنى عناية فائقة (بالحبكة) الدرامية في مآسيه ويجري من خلالها تجاريب الحياة التي تمرس بها فكانت دراماته تشبه التماثيل الفنية الرائعة التي يعنى فيها الفنان بإبراز معنى خاص يجتهد في أن يبرز لأول وهلة للرائي فيملك عليه لبه ويستحوذ على إعجابه.

وكان السراة من أهل أثينا وأغنياؤها يتسابقون إلى الإنفاق على درامات إسخيلوس، وقد ثبت أن بركليس نفسه، وهو سيد هذا العصر قد كان ال: (خوريجس لأكثر من درامة من درامات إسخيلوس.

وأبرز ما يلفت الإنسان من دراماته هو هذا الروح السفسطائي الذي يشيع فيها جميعاً، حتى لقد دعاه المؤرخون أول مبشر بمذهب السفسطائيين قبل أن يوجد السفسطائيون، فهو الذي لم يبال أن يتناول في دراماته ذوات الآلهة بالنقد والتجريح، ومهد بذلك لموجة الشك التي طغت على اليونان بعد ذلك. . . حقيقة لقد سبقه كثير من الفلاسفة إلى ذلك، لكن أحداً منهم لم يجرؤ أن يصنع كما صنع هو حين قدم للمسرح درامته الخالدة العظيمة (برومثيوث) والتي كانت ثورة على سيد الأولمب فتحت الطريق على مصراعيه للملحد الأكبر وأعظم أدباء اليونانيين (يوريبيدز).

وكان إسخيلوس يؤمن إيماناً تاماً بالقضاء والقدر، وأنه لا حيلة للإنسان في دفع ما يحل به من أذى ولا سيما إذا تمت النكبة. وكان يعتقد أن كل المصائب هي نتائج لمقدمات تنتهي إليها حتما، وأن كل الأمور العظام هي كذلك نتائج لأمور أقل منها شأناً، ومقدمات لأمور أخرى أجل منها وأعظم. . . وهذه هي وحدة الكون. . .

وكان إسخيلوس يعلى من شأن الديمقراطية ويجعلها الهواء الذي ينبغي أن تستنشقه الإنسانية لتنمو وتترعرع ويطيب غراسها وستمر بنا الأمثال الكثيرة التي يكبر بها شأن الحرية حين نعرض لدراماته. ولا غرو فقد كان جندياً وكان أديباً، وكان يحض قومه على التفكير الحر بل التفكير المطلق. فهو من غير شك أول من مهد بأدبه لسيادة أثينا، وسيطرتها على جميع هيلاس بعد أن كانت ولاية أيونيوية لا شأن لها. وبالتالي فهو صاحب الفضل على الأدب وعلى المدنية مثل انبثاقهما في القرن الخامس قبل الميلاد.

دريني خشبة