الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 297/من التاريخ الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 297/من التاريخ الإسلامي

بتاريخ: 13 - 03 - 1939


هيلانة ولويس

للأستاذ علي الطنطاوي

كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر!

ولقد أسدل الليل فروعه السود، فغطى على المعركة اللافحة الأوار، وأخفى هذه الساحة المفروشة بالجثث، وهذه الأصلاد المصّبغة بالدم، وأرخى الستار على مشهد من أروع مشاهد المأساة التي يمثلها الإنسان أبداً على مسرح الوجود فيلبس فيها جلد الذئب وأظفار السبع وأنياب الثعبان. . . فسقط جنود المعسكرين صرعى الجهد والكلال، وهجعوا كالقتلى لا يحسّون ولا يحلمون، وأمست خيامهم ومنازلهم جامدة لا حياة فيها كهذه الصخور الصّم التي تحيط بها من كل جانب. . .

وتلك هي الحرب، آفة الحياة، وعار الإنسانية!

تلك هي الحرب: تنفجر الأذهان بالعلوم والمعارف، وتنفرج الأيدي عن الصنائع والمصانع، واللطائف والزخارف، وينفق الوالدون النفس والنفيس لتنشئة الأولاد وتهذيبهم، فإذا استكمل البنون الفتوة والقوة، وأزهرت الفنون وتقدمت، وارتفعت المصانع وسمت، وأخذت الحياة زخرفها وازيّنت، جاءت الحرب فأودت بذلك كله، فجعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس. . .

فيا ويل الحرب. . . ويل لها ما لم تكن دفاعاً عن شرف أو حياة أو دين!

كل شيء ساكن سكون الموت، مظلم ظلمة القبر، إلا خيمة في معسكر النصارى نائية ينبعث من شقوقها وفرجها ضوء خافت، ويسمع من جوفها همس ضعيف، لو أنت أصغيت إليه لسمعت صوت امرأة تتكلم بلسان الإفرنج تقول لصاحبة لها:

- ماذا يشجيك الليلة يا هيلانة، وما الذي جدّد أحزانك، وهاج آلامك؟ أفزعت من هذه المعارك العابسة التي جئنا نخوضها ونصلى نارها دفاعاً عن (قبر. . .) المسيح؟ أم هو الحزن على لويس قد خامر نفسك؟ لا تحزني يا هيلانة فقد كان مقدراً عليه هذا المصير؛ ولقد عرفه ومشى إليه مطمئناً راضياً، فاصبري يا أختاه، فإن لويس في السماء. ألا يسرك أنه مات في سبيل النصرانية؟ فلا تدعي اليأس يخالط نفسك القوية في هذه الساعة تحتاجين فيها إلى الصبر والجلد!

وسكتت المرأة وعاد السكون يغمر الدنيا. . . ومضت فترة طويلة لم يسمع خلالها نبأة، ولكن النور الضعيف لبث منبعثاً من شقوق الخيمة. . . ثم ظهر القمر يطل على الدنيا بوجه شاحب كأنه وجه عليل مدنف، أو ميت محتضر، وأبدت أشعته الكليلة ما كان الليل قد ستره، فبان من خلالها ذلك المشهد الموحش المرعب وقد زاده شحوبها وحشة وهولاً. . . فخرجت المرأة من الخيمة وجلست على مقربة منها تتأمل وتفكر، وكانت في الثلاثين من عمرها، ذات عينين زرقاوين واسعتين، وشعر كستنائي اللون، وبشرة بيضاء ناعمة، وكانت جميلة جذابة، ولكن في أنفها طولاً ينأى به عن الجمال. . .

كانت تنظر إلى تلك الخيام وقد انتثرت السفوح والصخور، وتمدّ البصر إلى جيش أعدائها المسلمين وقد احتل القلعات العالية ليحمي أسوار المدينة ويدرأ عنها، وتفكر في هذه الحياة المروعّة التي تحياها، فتمتلئ نفسها حسرة على حياتها الوادعة في ماضيات لياليها، يوم كانت في قريتها المتوارية في حجر صخرة من صخور (الألب) لا تعرف إلا هذا العالم الصغير الذي يحدّه شرقاً منعطف الوادي، ويحده من الغرب المضيق الصخري الضيق، ومن الشمال والجنوب غابة الصنوبر الفتانة وهي تحتضن القرية وتنبسط على السفح الجميل، وذلك السور الصخري يطيف بذلك كله ويعانقه ويدفع عنه الأذى. لقد كانت ترى من يوغل في الوادي، ويحتجب عن القرية في ملتفاته ومنعطفاته بطلاً من الأبطال؛ أما هذه الجلاميد، وهذه الذرى المشرفة على القرية، فلم تفكر يوماً من الأيام في البحث عما وراءها، ولم ترتق بفكرها إلى أعاليها لتفكر ماذا فيها. . . فكيف طوحت بها الأقدار فألقت بها في هذا العالم النائي الغريب الذي لم تكن تدري به أو تعلم له وجوداً! وكيف كتبت عليها أن تفقد زوجها الحبيب، وأن تعيش وسط الذعر والموت؟

واشتد بها الضيق، وزاد بها الحنين إلى ماضيها الهانئ، وصور لها وهم القرية فرأتها أمامها، وشاهدت الغابة التي يقطعها فتيان القرية وفتياتها كل صباح ومساء، ليبلغوا العين فيزدحموا عليها ليرتووا من مائها العذب النمير، ويذهبوا ظمأ أجسامهم، وليرتووا من العيون الأخرى فيطفئوا ظمأ نفوسهم إلى الحبّ. . . فذكرت كيف عرفت فتاها الحبيب، وقد رأته أول مرة على باب داره تلقاء الغابة، فأحست كأن عينيه قد اخترقتا شغاف قلبها. .

ورأته بعد ذلك في الغابة ولكنها لم تجرؤ أن تكاشفه بحبها. . . وهل تجرؤ على مثل ذلك فتاة؟ حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي يمرّ في موكب حياتها بهيّاً مشرقاً، على حين تمر أيامها الأخرى شاحبات غائمات. . . فجلست معه تحت تلك الشجرة المنعزلة أحلى مجلس في حياتها، إذ قد أعلن فيه مولد الحب بقبلة مسكرة لا تزال تحس طعمها في فيها، وأثرها على شفتيها. . .

لقد كانت سعيدة في هذه القرية، تعيش في جنة الغرام، لا تعرف إلا قلبها وربها، فهي تصبح فتمشي إلى الكنيسة لأنها لم تعرف لله بيتاً خيراً منها، فتتوجه فيها إلى الله بالصلاة التي حفظتها. . . وتمشي فتطوف في الغابة يدها في يد الزوج الحبيب، حتى تبلغ كنيسة حبها تحت الشجرة المقدسة، فتؤدي فيها صلاة الحب على دين الغرام، قبلة فيها (كما قال ابن أبي ربيعة) خمر وعسل! ذ

كانت القرية كلها في أمن ودعة، حتى نزل بها ذلك الرجل، فنزل بها البلاء وهبطت المصائب، وتعكرت حياتها الصافية كأنما هي بركة ساكنة ألقيت فيها صخرة من الجبل. . . كانت القرية في ذلك الصباح مستلقية في فراش أمنها ترشف بقية أحلام الليل اللذة، تنهض مع الشمس فتعمل على تحقيقها، وكانت الغابة تصلي وقد شمرت أشجار الصنوبر للعبادة عن سوقها، ووقفت بين يدي باريها صفوفاً للصلاة، وقامت الطير تتلو صلواتها على منابر الأغصان، ووقف الورد والزنبق في الحدائق خاشعاً مصغياً، وسبّحت السواقي بحمد ربها فكان لتسبيحها وسوسة دائمة جميلة، وأصاخ الجبلان وصمت الوادي. . . فلم يفسد هذه الصلاة الخاشعة في معبد الطبيعة إلا صرخة تدوي في الوادي، يحملها صوت مبحوح، كأنه صوت جريح ينضح صراخه بدمه، فيسمع الصوت أحمر قانياً يقطر دماً. وتوالت الصيحات الحمر، وازدادت شدة وهولاً، فحملت الذعر إلى بيوت القرية وأرباضها وأوكارها وأبدلت بصباحها الباسم صباحاً كالح الوجه مربدّاً قبيحاً، وذهب القوم يستقرون الصوت ويتقصونه، فرأوا قساً من القسوس مكشوف الرأس، منفوش الشعر، قد لبس المسوح، وطفق يلقي عليهم باللاتينية تارة وبالفرنسية تارة أخرى، ما يفهمون ومالا يفهمون؛ وكان يمر في كلامه (الخطر الداهم) و (المسيح) ثم عرض عليهم صورة (القبر المقدس. . .) الذي ينزل عليه النور، والذي يحجون إليه ويتبركون به. . . وقد قام فارس من فرسان المسلمين، فوطئه وأهانه وجعل الفرس يبول عليه. . . وكان يعرضها باكياً نادباً ناتفاً لحيته، منذراً بفناء النصرانية وضياع الدين، ويدعو إلى إنقاذ (القبر. . .) من أيدي (الكفرة المسلمين. . .) فذهب الهياج بالعقول، وأطار الأفئدة، وألغت الحماسة المنطق، ونسي الناس كل شئ إلا هذه النار التي سرت في العروق، ومشت إلى الدماغ فألهبته، فنهضوا يتبعون الراهب إلى حيث لا يعلمون، إلى إنقاذ (قبر المسيح. . .) من أيدي (الكفرة المسلمين. . .) الذين أهانوه وحقروه!. . .

وكانت هيلانة وزوجها من المؤمنين، فلما قالوا لهما إن المسلمين أكلة لحم البشر، وإنهم ذئاب الإنسانية، وإنهم عدو على المسيح. . نهضا يدفعهما الإيمان الذي عبث به القسوس، واستغلوه وأوقعوا في أبناء آدم هذه المذبحة المروعة، فأخذا الطفل الوليد وسارا مع الجموع - نحو بيت المقدس. . .

وعاودتها ذكرى زوجها الحبيب، فانفجرت باكية، فأيقظ صوتها صاحبتها فخرجت تراها. . .

- ما لك يا هيلين؟ لماذا تبكين؟ لم لم تنامي؟

فلم تجب واستمرت تبكي، فعادت ترفه عنها وتواسيها.

- ماذا عراك يا هيلانة؟ أجيبي، كلميني، لا تقتلي نفسك بسكوتك.

- لويس!

وخرج اسمه زفرة متصعدة من أعماق القلب، غارقة بالدمع، وعادت تبكي.

- اصبري يا أختاه. إنه في السماء، ثم إن عندك لويس الصغير، ألا تسمعين كيف يبكي؟ إنه ابنه يا هلين، ابن الحبيب، فعيشي من أجله. أريه ألوان لسرور والمرح، تسعد روح لويس في سمائها. هاك الطفل يا هيلانة، ألا ترين أن بكاءك يؤلمه؟

فأخذت هيلانة الطفل، تضمه إلى صدرها، وهي مغمضة العينين، وتقبله في عنقها الدافئ، وتمرغ وجهها في صدره. ثم تضع خدها على خده، وهي تهمس باسم لويس، كأنما تذكر فيه مولد الحب وقبلاته الأولى. . .

- 2 -

وهجعت هيلانة وصاحبتها، وانطفأ هذا النور الكليل الذي كان ينبعث من الخيمة، ومرت من الليل ساعات. . .

وكان معسكر المسلمين صامتاً مظلماً لا يرى في خلاله إلا النور الذي يسطع من الخيمة السلطان، وكان الجند نائمين يستريحون من عناء النهار الماضي الذي خاضوا فيه حرباً من أشد ما عرفوا من الحروب، وبذلوا جهد الجن حتى استطاعوا أن يشقوا الطريق إلى (عكا) المحصورة، وكان المدد يتتالى على جيش العدو من البحر، وكاد يجزع المسلمون عندما رأوا الإمداد، ولكن منظر السلطان ثبتهم، فقد كان ينظر إلى المراكب تحمل الصليبيين إلى البر، فلا يثنيه مرآها ولا يدخل الروع إلى قلبه، بل كان يراها مستبشراً متفائلاً مؤمناً بنصر الله. ولقد خبّر القاضي ابن شداد رفيق السلطان الجند وقص عليهم أن السلطان عدّ بنفسه من العصر إلى الليل سبعين مركباً نزلت إلى البر تنقل المدد والذخيرة فما ضعف ولا اضطرب، ولا تغيّر اعتقاده بالله الذي يعتقد بأن النصر من عنده. وكان السلطان أشد القوم تعباً لأنه كان يباشر أمور الحرب بنفسه، وينتقل خلال المعركة، ويعرض روحه للمهالك، ثم يبيت الليل ساهراً يدبر أمور المسلمين لا يبالي راحته ولا صحته في سبيل إعلاء كلمة الله.

في تلك الساعة كنت تلمح رجلين يتقدمان في الظلام يريدان معسكر المسلمين، وهما يخطوان بحذر، ويقفزان على الصخور بخفة ونشاط، وقد حمل أحدهما هنة صغيرة ملفوفة بخرقة بيضاء قد ضمها إلى صدره برفق، وأحاط بها يسراه بعناية، وأمسك بيمناه السيف مصلتاً خشية أن يفجأه كمين أو يعرض له عدوّ في هذه الظلمة الحالكة، وكانا صامتين. فلما جاوزا (اليزك) ودخلا مسكر المسلمين وأمنا، وضعا السيوف على الأرض وجلسا يستريحان وقد أبقى الأول حملة على ذراعه وأحاطه بطرف ثوبه مبالغة منه في العناية به، وقال لرفيقه:

- ماذا ترى السلطان قائلاً لنا؟ أتراه راضياً عن عملنا وهو الذي أوصانا ألا نعرض للنساء والأطفال، وألا نمس الأعزل بسوء، وأن ندع القسوس، ولم يسمح لنا إلا بسرقة المحاربين والجند؟ أفلا تحسبه يكره ما أتينا هذه الليلة ويكون غضبه علينا أضعاف رضاه عنا يوم سرقنا ذلك القائد من فراشه؟

فأطرق الثاني كأنما كان يفكر في غضب السلطان، ويبحث عن سبيل الخلاص من هذه الوهدة التي سقطا فيها، ثم رفع رأسه فجأة وقد أشرق وجهه بنور الأمل وقال له:

- لماذا يغضب؟ أليس الله قد أباح لنا أن نردّ العدوان بمثله؟ أما بدأونا هم بمثل هذا أول مرة، وروّعوا نساءنا وسرقوا أطفالنا فلما صبرنا عنهم وترفعنا عن مقابلتهم بمثل فعلهم، ظنوا ذلك عجزاً منا فأوغلوا في عدوانهم الآثم الدنيء؟ أفندعهم يفعلون ما يريدون لا نمدّ إليهم يداً؟

واطمأن الأول إلى هذه الحجة، فقاما يسيران في هذه البقاع التي كانت في ما مضى رياضاً زاهرة وتلالاً خضراء معشبة، فجعلتها الحرب قفراً خالياً، وقبراً واحداً مفتوحاً، وألبستها ثوباً دامياً من أشلاء أبنائها، حتى بلغا خيمة السلطان فوجداها مضيئة فعلما أنه لم ينم، ووقفا ينتظران الإذن ليعرضا عليه ما جاءا به، لأنه كان يطلع بنفسه على كل كبيرة وصغيرة. . .

ومرت ساعة ومال ميزان الليل وهما واقفان، فسمعا حركة ورأيا رسولاً يحاول أن يدخل على السلطان وهم يمنعونه حتى أنبأهم أنه يحمل رسالة خطرة مستعجلة لا يجوز تأخيرها، فخبر السلطان فسمح له وقابله على خلوة لم يكن فيها إلا ابن شداد القاضي ثم خرج الرسول على عجل، وخرج من بعده ابن شداد معلناً أن السلطان سينام قليلاً، وكان ذلك في السحر. . . فأيس الرجلان من لقائه وذهبا ينتظران الصباح

ولما كان الصباح ذهب أول الرجلين يلقى القاضي ابن شداد يسأله عن أمر السلطان، وكان صديقاً له، فحدثه أن الرسول حمل إلى السلطان نبأ مروّعاً هو أن جيشاً من الصليبيين الألمان يزحف نحو الجنوب في عدد هائل، فلم يستطع أحد من أمراء المسلمين في الشمال أن يرده أو يقف في وجهه فأصبح المسلمون بين نارين

تفكر السلطان في الأمر، ثم جمع الملوك والقواد ولم يكن يقطع أمراً دون مشورتهم، فهبوا من فرشهم، وجفوا راحتهم في هذه الليلة العصيبة التي يلتمس الراحة في مثلها أشد الناس مراساً، وأكثرهم صبراً، فلما اجتمعوا عرض عليهم الأمر، فبذلوا له طاعتهم، ولكنهم تهيبوا الإقدام على هذين الجيشين، واضطربوا لهذا الخطب الذي لم يتوقعه أحد منهم، ولم يكن هؤلاء الملوك والقواد من الجبناء الرعاعيد، بل كانوا أبطال الحومة، وسادة الجلاد، ولم يفقدوا الإيمان الذي قابلوا به جيوش أهل الصليب كلها حين جاءت يحدوها التعصب الذميم، ولا الشجاعة التي ردّوا بها هذه الجحافل الجرارة، وقسموها قسمين، قسم مصرُّع على الثرى قد ذهب ضحية العدوان الآثم، وقسم طائر على وجهه فزعاً لا يدري أين المحط، فتصدّع الخميس العرمرم تحت ضرباتهم المسددة وهتافهم المظفر، كما يتصدع القطيع من الغنم إذا سمع صوت الأسد وأخس أنيابه. . . ولم ينسوا طعم النصر الذي ذاقوه، ولا النهاية الماجدة التي ختمت الوقائع الماضية التي خاضوا غمرتها، ولكن لم يكن في تلك المعارك مثل هذا الخطب العابس الذي حمل نبأه الرسول. . . فغاضت الحماسة من صدورهم وإن لم تنفد، وسكنت قليلاً لتستجم وتنهض من جديد؛ أما نفس السلطان فلا تني ولا تلين، وحماسة السلطان لا تبلغ منها خطوب الدنيا كلها، وإنهم لمن العظماء ذوي النفوس الكبيرة، ولكن أنى لهم بمثل نفس السلطان وخلاله البارعة وبطولته الفذة التي تحققت مرتين فقط في تاريخ البشر كله: في عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، ولم تعرف في غيرهما إلا خيالاً يلوح ولا يظهر، وإشارات تلمح ولا تبصر!

فلما رأى السلطان هيبتهم صرفهم. ولبث وحده مهموماً يفكر. . .

قال الرجل: فماذا فعل السلطان كان الله له؛ كم يحمل وحدهم الأهوال التي تخرّ تحتها الجبال، وتعجز عن حملها الأمم!

قال ابن شداد: جلس يدبر أمره، ويرسم خطط القتال وهو مهموم قد أخذ منه التعب والنعاس، وأنا أنظر إليه ليس معنا ثالث إلا الله، فسألته أن ينام ساعة فيستريح؛ فظن أني قد نعست فقال لي: (لعلك جاءك النوم.) ونهض. . . فخرجت أمشي إلى خيمتي فلم أصل إليها وآخذ في بعض شأني حتى أذن الصبح. فعدت لأصلي معه على عادتي، فوجدته يمر الماء على أطرافه فقال لي حين نظر إليّ: (ما أخذني النوم أصلاً) فقلت: قد علمت. قال: من أين؟ قلت: لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم

ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه، وجعلت أفكر في أمره وما يحمل من الهمّ وما ورد عليه من الشدة وذكرت أن قتيبة بن مسلم وقع في إحدى الشدائد وهو يحارب الأتراك وضاق به الأمر، وتكاثر عليه العدو، وبذل كل ما يستطيع من القوة والمكيدة فلم يغن ذلك عنه شيئاً. فقال: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه يومي بإصبعه نحو السماء. فتهلل وجه قتيبة واستبشر ووثق بالنصر، وقال: والله لتلك الإصبع الفاردة أحب إليّ من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير. فلما فتح الله عليهم قال له: ما كنت تصنع؟ قال كنت آخذ لك بمجامع الطرق

وذكرت أن قواد المسلمين الذين دوخوا العالم، وأخضعوا الممالك، وملكوا الأرض، لم يملكوها بقوتهم وعددهم وإنما ملكوها بإيمانهم والتجائهم إلى الله، ورأيت السلطان قد وقف حياته على الجهاد في سبيل الله، وباع نفسه من الله، ولم يقصر في فريضة ولم يهمل نافلة، بل كان ينزل حيثما أدركته الصلاة فيصلي ويسمع الحديث بين الصفين، ولم يعرف عنه ميل إلى دنيا أو حرص على لذة من لذائذ العيش. فأيقنت أن دعاءه لا يرد، وأنه هو الولي إن عدّ الناس الأولياء، وهو التقي إن ذكر الأتقياء. فقلت له: قد وقع لي واقع وأضنه مفيداً إن شاء الله

قال: وما هو؟ قلت: الإخلاد إلى الله، والإنابة إليه، والاعتماد في كشف الغمة عليه

قال: وكيف نصنع؟ قلت: اليوم الجمعة، يغتسل المولى ويصلي ويتصدق بصدقة خفية على يد من يثق به ويدعو الله وهو ساجد فيقول: (إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبقى إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك. أنت حسبي ونعم الوكيل)

وإن الله أكرم من أن يخيب من يلتجئ إليه!

- 3 -

وقطع القاضي حديثه ونظر إلى تلك المرأة التي أقبلت تريد خيمة السلطان، وهي سافرة تصيح بلسان الإفرنج وتعول باكية تشير إشارات الفزع المروّع، فأقبل عليها يسألها ما خطبها. . . وكانت هيلانة بذاتها، أفاقت فلم تجد طفلها فخرجت من الخيمة جاحظة العينين مجنونة تصيح باسم ولدها وهي تعدو على غير هدى، تسير في كل سبيل تسأل كل من ترى على ولدها هل رأى ولدها؟ أين ذهب ولدي؟ ماذا أعمل؟ ساعدوني. فتشوا لي عن ولدي. أين ذهب؟ هل مات؟ من أخذه؟ أأكلته الذئاب؟ هل تدخل الذئاب إلى المعسكر؟ أم قد سرقه اللصوص؟ آه أين أنت يا ولدي؟ ألا تردونه عليّ؟ ارحموني يا ناس. فتشوا لي عن ولدي. . .

وانطلقت تعدو في أرجاء المسكر، حتى بلغت خيمة القواد فاقتحمتها، وهبطت على أقدامهم تولول وتصيح. . . فأخذتهم الشفقة بها ولكنهم كانوا عاجزين عن معونتها. فصمتوا، وبالغت في البكاء والتوسل، فرأى قائد منهم أن يبعث بها إلى صلاح الدين

- إن الرجل شهم وشريف، وفارس نبيل، وما نحسبه يسد أذنيه دون شكوى امرأة مفجوعة تسقط على قدميه باكية ذليلة ترجوه أن يرد عليها ولدها الوحيد. . . وهو الذي قبض بالأمس على قائد الحملة الفرنسية، فلما صار بين يديه وانتظر القتل لم ير منه إلا الإكرام والإحسان، خلع عليه وقدّمه ورفع مجلسه وسَّيره إلى دمشق معزّزاً مكرماً، فلم يستطع القائد أن يرفع بصره إليه لعجزه عن شكره، ولخجله من نفسه حين قابل بين صنيع السلطان به، وصنيعه هو بمن أسرهم من قواد السلطان. . .

ووافق القواد على ما وصف به صلاح الدين من النبل والشرف والإنسانية، فسيروا المرأة إليه، فانطلقت تعدو حتى تقطعت أنفاسها وهي تتحامل على نفسها وتعود إلى السعي تريد أن تقطع الطريق كله بوثبة واحدة ترى من بعدها ابنها، أو يكون فيها حتفها، وتخشى أن تتأخر لحظة فيصيب ابنها شر. . . يا رحمة الله على الأمهات! وكانت نفسها كالبحر الغضبان لا تستقر فيه موجة حتى يموج موجة أخرى. . . وكانت الصور تتردد على نفسها متعاقبة يأخذ بعضها بأعقاب بعض، فبينما هي تتصور فرحها بلقاء الطفل فتقدم مسرعة، إذا بها تفكر في هلاكه فتقف لحظة كأنما لطم وجهها القدر بكفه، ولكنها تطرد هذه الصورة من نفسها ولا تطمئن إليها، ويعاودها الأمل قويًّا منيراً، ويخالط الأمل خوف وإشفاق، ثم تمرّ عليها صور من حياتها الأولى تجوز آفاق نفسها بسرعة البرق فتهزها هزًّا عنيفاً ثم تمضي إلى غايتها وترجع صورة الولد فتحتل خيالها كله. . .

حتى بلغت (اليزك) فصاحوا بها: قفي. فوقفت تنظر ماذا يريدون. . . ولم تكن تدري ما (اليزك) وما الحروب، وما جاء بها إلا إيمانها الذي استغله دعاة الشر وسخروها من أجله لمنافعهم فحرموها زوجها وطفلها وجرعوها كما جرعوا الآلاف المؤلفة من البشر غصص الآلام!

وجعلت تصرخ فيهم صراخ اللبوة التي فقدت أشبالها، وتخاطبهم بالفرنسية:

- ابني، ابني أيها الجند؟ ردّوه عليَّ، أريد ابني، فلماذا تمسكونه؟ لماذا تعذبون امرأة مسكينة؟ أين هو؟ هل قتلتموه؟ لا، لا أرى على وجوهكم سمات الوحشية. إني ألمح الشفقة على هذه الوجوه، فلماذا لا تردون عليّ ابني؟

فلا يفهمون منها شيئاً، فتعود إلى صراخها حتى جاء رجل منهم يعرف لسانها فسألها:

- ومن هو ابنك أيتها المرأة؟

- ابني لويس. لويس. أنا هيلانة. ردّوه عليّ. أريد أن أقابل السلطان

فأخذته الرحمة فتركها تمر ودلها على الطريق إلى خيمة السلطان فذهبت تعدو

قال لها القاضي:

- ولكن السلطان الآن في شغل. يجب أن تنتظري ساعة

- لا. لا. أتوسل إليك، أخاف أن يصيب ابني سوء، فدعني أذهب إليه

فقال لها القاضي: اذهبي مع هذا الرجل. وأمره أن يدعها ساعة في خيمة الأسرى حتى يستأذن لها على السلطان، وينبئه نبأها. وظنت أنها في طريقها إلى السلطان، فسارت صامتة مسرعة، فلما دخلوا بها الخيمة ورأت الأسرى، عادت تصيح وتولول، فنبّه صياحها الأسرى، واستفاض حتى بلغ خيمة السلطان فبعث يطلبها. . . وكان في أقصى الخيمة أسير أضطرب لما رآها ووجف قلبه، ولبث بصره عالقاً بها حتى خرجت من حيث جاءت، فلبث مفكراً مشدوهاً، تطفو على وجهه خيالات أفكار هائلة وذكريات بعيدة، ثم تراخى رأسه فأسنده بكفيه، وظل ساكناً تنطوي جوانحه على البركان. . . الذي انفجر بعد دقائق، فنهض الأسير يصرخ صراخ الوحش الكليم: أريد أن أراها، أريد أن أراها. . .

وراع صياحه الأسرى وهم يعهدونه وديعاً كالحمل، فأقبلوا يسألونه، فلا يأبه لهم ولا يكلمهم، وأسرع إليه الحرس يكلمونه فلا يجيب إلا بهذا الصراخ، فرفعوا أمره إلى السلطان وأدخلوه عليه. . . فلما احتواه مجلس السلطان طأطأ رأسه ووقف خاضعاً، وكانت عظمة السلطان تملأ نفسه إكباراً له، وكان يحس فيها الشكر الخالص لما رأى من إكرام السلطان في هذه المدة الطولية التي قضاها أسيراً عنده، ثم رفع رأسه وجعل يقلب نظره في أرجاء المجلس فوقع على هيلانة وهي راضية مطمئنة وابنها في حجرها، وهي تنظر إلى السلطان نظرة شكر وحبّ، ثم رآها تنهض فجأة فتجثو بين يديه فتقبل قدميه وتتقاطر دموعها، فيتململ السلطان وينهضها. . . فلم يعد يتمالك نفسه، فأسرع نحوها على غير شعور منه، فلما رآه الطفل هتف به: بابا. . . ووقع بين ذراعيه. . . ونظرت المرأة مبهوتة لا تكاد تصدق ما ترى، وجعلت تنظر حولها لتتثبت مما ترى، ولتعلم هل هي في يقظة أو في حلم، ثم صاحت: لويس! أنت حيّ؟

وفهم السلطان القصة فحول وجهه حياء وتركهما يتعانقان. . .

ولما تلفت السلطان وجدهما جاثيين بين يديه يحاولان شكره، فلا تجاوز الكلمات شفاهما إلا وهي جمجمات غامضة، فقال لهما:

- إنّا لم نفعل إلا ما يأمرنا به ديننا؟

قالت المرأة:

- أدينك يأمرك بهذا؟

- قال: نعم، فإن الإسلام رحمة للعالمين، للإنسانية كلها. قالت: أفتضيق هذه الرحمة عن امرأة مسكينة. . . تحب أن تسعد وتحيا بسلام، في ظلال الإسلام؟

فتهلل وجه السلطان، وقال لها: إن رحمة الله وسعت كل شيء

قالت: كيف أغدو مسلمة؟

قال تشهدين أن الله واحد، وأن محمد رسول. لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

فنطقت بها، وتلفتت إلى زوجها فوجدته ينطق بالشهادة

وخرج ويده في يدها يذكران الماضي الحلو، والقرية الهادئة.

- لقد تركنا البنفسج يا هيلانة مخضراً يانعاً، فهل أزهر من بعدنا البنفسج فتضوّع أريجه في جوانب الحديقة؟ وشجرة التفاح هل تدلت ثمارها، وارتخت أغصانها؟ والعين هل بقيت على صفائها. . . أواه يا هيلانة! هل لنا من رجعة إلى ذلك الوادي السعيد وتلك الغابة التي ولد حبنا في جناتها ونما واكتمل؟

- لا يا لويس، إنا لن نعود. إن يكن حبنا قد ولد في تلك الغابة، فإنه قد بعث هنا بعد ما مات. هنا عدت إلي، وهنا عرفت الله، وهنا رأيت النبل والطهر والإنسانية، فلنبق هنا يا لويس. . . أليست هذه هي الأرض التي ولد فيها المسيح؟ إننا لم نخسر المسيح، ولكننا ربحنا معه محمداً!

وتقدم الجيش بعد ساعة، يمشي إلى الظفر مكّبراً مهللاً، وكان لويس في طليعة الجيش!

(دمشق) علي طنطاوي