مجلة الرسالة/العدد 297/كتاب السيرة
→ عياش بن أبي ربيعة | مجلة الرسالة - العدد 297 كتاب السيرة [[مؤلف:|]] |
حالة العرب الاجتماعية في عصر الدولة الأموية ← |
بتاريخ: 13 - 03 - 1939 |
لِلأستاذ أحمد الشايب
المدرس بكلية الآداب
- 1 -
تحتل السيرة النبوية في تاريخ الأدب العربي مكانة لم يظفر بها موضوع آخر، لهذه المكانة التي يشغلها صاحبها في تاريخ الأمة الإسلامية أولاً، وفي التاريخ العام ثانياً، فإن الرسول عليه السلام لم يكن أديباً فقط له هذه الآثار القوية الخالدة من الأحاديث والخطب والرسائل، وإنما كان قبل ذلك وبعده، رسولاً صاحب دعوة إصلاحية عامة تناولت الدين والنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وأثرت في الحضارة العامة لمن اعتنقوها طائعين أو جانبوها كافرين، واستطاعت أن تستوقف التاريخ أو تلوي عنانه لتملي عليه إرادتها، وتلقي إليه وحيها، فأخذ عنها ما أملت، وكتب من فصوله صحفاً ملأى بالجهاد، والفضائل، والأدب، والفن، والسياسة؛ ولا يزال الإسلام إلى اليوم - على الرغم مما أصاب بعض ذويه من هوان - مصدر الخير والسعادة، وموئل البشرية حين تعزوها الهداية، ومعهداً لدراسات خطيرة تلقي أمام رواد الحضارة المثالية ضوءاً يرجى أن يتم به على العلم ما يبغي من رشاد وسلام.
ولم تقف العناية بالسيرة عند العرب وحدهم، أو المسلمين فقط، وإنما تجاوزتهم إلى جماعة من كتاب الفرنجة الأعلام الذين رأوا في نبي المسلمين رجلاً عظمياً من رجال التاريخ خليقا بالبحث في أسباب عظمته، وما أتيح له من هذا الفوز الذي استأثر بالسلطان المدني والسياسي طوال القرون الوسطى، إذ كان العالم الإسلامي يشغل التاريخ بأحداثه الكبرى، ودوله المتعاقبة، وآدابه الغزيرة حين كان الغرب يضطرب في ظلمات كثيفة، ويحيا حياة خاملة.
ولسنا هنا بعرض الاستيعاب، واستقصاء هؤلاء الذين كتبوا عن الرسول قديماً وحديثاً من المسلمين وسواهم، وحسبنا أن نلم بشيء من ذلك لنصل منه إلى جماعة من المعاصرين الذين تناولوا السيرة بأساليب مختلفة، لها قيمتها العلمية والفنية جميعاً.
- 2 -
منذ ألف ابن إسحاق سيرته التي اختصرها ابن هشام في هذا الكتاب المنسوب إليه، والناس يعدونها المرجع الأول لكل من يحاول تأريخ الرسول. وليس ذلك لأن جميع ما احتوته حق تاريخي خالص، وموضع الثقة التي لا ينالها تجريح، لا، ولكن ذلك لأسبقيتها التاريخية في التدوين، ولما احتوته من حقائق ثابتة في كثير من المواقف، ولأنها روت أخبارها بهذه الروح التي كانت مسيطرة على المسلمين في القرون الاولى، أي بوجهة نظرهم، وطريقة تفسيرهم لحوادثها. . . فكانت الخطوة الأولى في هذا السبيل عند المتقدمين، ونقطة الابتداء لكل من يحاول تأريخ النبي الكريم من المحدثين، يرجع إليها محققاً أو مستلهماً. دع عنك بعد ذلك ما تراه فيها من شعر منحول، وروايات مكذوبة، وأخبار لم تصح، لأن وزر ذلك لا يقع على ابن إسحاق وحده، وإنما لهذه البيئة التي كان يعيش فيها الأثر الأول فيما وقع فيه من قصور، فقد كان يحكي أخبار جاهلية بعيدة، ويقص أياماً نالتها المبالغات والعصبيات، وينقل آثاراً مات أهلها، واعتراها التحريف. على أن ابن هشام لم يقيد جميع ما كن لابن إسحاق من خبر بل حذف منه كثيراً وبخاصة ما كان متصلاً بالجاهلية الاولى، منفصلاً عما يتصل بحياة الرسول اتصالاً مباشراً كما هو مذكور في المقدمة.
ثم جاء الواقدي وتلميذه ابن سعد في طبقاته، وحاولا التحقيق والزيادة فظفرا منهما بنصيب. وأصبح فن السيرة بعد هؤلاء تقليداً من التقاليد يعمد إليه الكتاب تعيداً أو تأدباً كما فعل كتاب المقامات في عصور التاريخ الأدبي المتوالية، فكانت السيرة الحلبية، والسيرة الشامية. ولم تخل كتب التاريخ العام - كالطبري وابن الأثير - من تخصيص بعض أجزائها لسيرة الرسول إذ كانت تشغل وحدها فترة واسعة، خصبة، بعيدة الأثر فيما أعقبها من دول وأحداث.
وهذه المؤلفات القديمة لم تكن بالطبع خاضعة لهذه المناهج العلمية الحديثة، فكانت مجموعة من أحاديث الرسول، وأخبار الجاهلية وأساطير القدماء، وأشعار الناحلين ومبالغات الراوين، دون عناية بالنقد والتفسير أو التنسيق وحسن التأليف. ولكنها كانت مؤلفة بروح هذه العصور السابقة، وبوجهة النظر التي كانت - في الغالب - مقياس الصحابة والتابعين حين يذكرون الرسول الكريم ويفسرون أعماله وآثاره أما كتاب الفرنجة فقد رأينا مستشرقيهم يتهافتون على هذا الموضوع، ويسلكون فيه هذه المناهج العلمية التي قد تفيد من ناحية الشكل والنظام، ولكنهم بعد ذلك كانوا فريقين: فريقاً أتخذ السيرة مجالاً للتعصب على الإسلام فكان من المبشرين الخاطئين، وفريقاً حاول الإنصاف ووقف عند الأصول العلمية الجافة ففقد هذه الروح أو الجو الذي كانت تجري حوادث السيرة في ظلاله، فتعسر عليه تفسير أشياء كثيرة كان من السهل عليه إدراكها لو أنه كسب هذه الروح وعاش بخياله في عصور النبوة الأولى. نذكر من آثار المستشرقين حياة محمد لإرفنج، وأخرى لوليام موير، وثالثة لمرجليوث، ولا ينسى التاريخ هذا الفصل البديع الذي كتبه كارليل تحت عنوان (البطل في صورة نبي) إذ دل على تفهم عام لهذه الروح التي كانت تشيع في بلاد الرسالة قديماً
على أن الهنود لم يقصروا في هذه الناحية فكتبوا باللغة الإنجليزية في السيرة رأساً مثل النبي لمولانا محمد علي، وفيما يتصل بها مثل روح الإسلام لسيد أمير علي، ولغير الهنود في مصر وفي العالم الإسلامي آثار في السيرة لم تخل من فائدة.
- 3 -
ولكننا نختار من هؤلاء المعاصرين ثلاثة نقف عندهم وقفة قصيرة لا لشيء إلا لأنهم نهجوا في كتابة السيرة مناهج طريفة من ناحية، ومتغايرة من ناحية أخرى: محمد حسين هيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم
يتفقون جميعاً في العناية المحمودة بسيرة الرسول، وجعلها في العصر الحديث موضوعاً خليقاً بالدرس وبذل الجهود في إذاعته بين الناس بأسلوب جديد يقربه إليهم ويحببه إلى نفوسهم، وهذا وحده غرض نبيل يستحق التقدير. كذلك سلكوا مسالك واضحة ممتازة وإن كانت متغايرة، ولكل مذهب محدود ذو معالم ألتزمها صاحبة ليس فيه هذا الاضطراب القديم الذي كان يجمع أشتاتاً من القصص، والتقرير والوصف والرواية ونحوها، وإنما هو مذهب علمي أو فني متناسق الأجزاء، منظم العناصر، فيه فقه للأشياء وفهم لها بروح قديمة أو حديثة أو بهما جميعاً. ومع ذلك فهم مختلفون في أشياء كثيرة
يمتاز هيكل بالمنهج العلمي الذي ترسمه فيما كتب، فكان مذهبه مذهب العالم المحقق، إذ قسم موضوعه إلى فصول متواصلة متلاحقة كما كانت حياة الرسول عليه السلام منتظمة في هذه الفصول أو الأقسام التاريخية، ولا أقول إن هذا المنهج كله من اختراعه فلقد سبق إليه، ولكنه آثره وهذب منه، وهذه الخطة نفسها اقتضت مؤلف - حياة محمد - أن يكون مستقصياً استقصاء الباحث فليس له اختيار ما يحب وترك ما لا يهوى، لأنه يعالج موضوعاً من عمل التاريخ، عليه أن يعرضه كما حدث دون أن يخلع عليه من نفسه إلا ما شاء الخيال التاريخي الذي يربط المفكك، ويصل المنقطع، ثم هذا النقد الذي يظهر في تفسير كثير من المسائل بمقياس إسلامي علمي بعد ما كانت أشبه بالسمعيات تصدق ولا تعلل. . . وفي مناقشته آراء المستشرقين الذين تجافوا فيما كتبوا عن روح الدين وطبيعته، وبعدوا عن عصر الرسالة وبيئتها فلم يوقفوا فيما يتصورون. وصاحب (حياة محمد) بعد ذلك مسلم حدب على الدين غيور، أشرب روح الإسلام، وألم بكثير من أسراره فظهرت عل كتابه أعراض الحمية، حمية من لا يسمح لأحد بغمز دينه أو النيل منه، وذلك كله في أسلوب منطقي واضح هو أسلوب العلماء. ولكن طه حسين سلك سبيلاً أخرى هي سبيل الأديب حقاً، فلم يشأ في الظاهر أن يتقيد بمنهج علمي، وإنما كان قصاصاً، ترك هذا العصر الذي نعيش فيه، وانتقل بخياله الخصب إلى الجاهلية وصدر الإسلام وعاش مع ناسهما يفهم بعقولهم، ويحس إحساسهم، ويأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون؛ وبذلك استطاع - ما وسعه الجهد - أن يقص علينا الحوادث بروحها وفي جوهرها، وأن يفسر المسائل كما كانت تفسر حينذاك، فنقل إلينا هذا الماضي أو نقلنا إليه بحيلة لطيفة. وفن القصص لا يقتضي صاحبه استقصاء ولا نقداً علمًّيا دائماً، ولا تحقيقاً وتفنيداً، فآثر أهم الأمور التي يرى فيها روعة قصصية لأنها كانت رائعة إبان حدوثها أو فيما شعر وتخيل صاحب (على هامش السيرة). . . ثم تناولها واصفاً وحاكياً لم يترك جانباً منها إلا أضاءه وأكمل منه ما فات الرواة. وليس من شك في أن ذلك قد عرض بأسلوب جميل هو أسلوب القصص الممتاز الجامع بين التحليل النفسي للأشخاص، والإحاطة التامة بما يعرض له من مواقف
أما توفيق الحكيم فقد توسط الاثنين، وجمع بين ميزتي العالم والأديب الممثل، فكانت سيرته أخف شيء على النفوس. استشار المراجع القديمة، ووقف عندما رسمت دون أن يستعين الخيال إلا قليلاً؛ وقد ألم بأطراف موضوعه وقسمه فأحسن التقسيم، ثم اختار قضاياه وصفاها وجعلها معالم واضحة خالصة من براهين التحقيق العلمي، وإسهاب الفن القصصي، فصارت قضايا موجزة باتة حاسمة، ثم عرضها بهذا الأسلوب الحواري أو التمثيلي كما كان يتحدث الرسول وصحابته والمتصلون بسيرته قديماً إلا ما لم يرد فيه نص. وكان توفيق الحكيم بعد ذلك حذراً محتاطاً لم يمس الموضوع إلا بخفة وإن كان الأسلوب من تقسيمه وابتكاره
كان هؤلاء الكتاب، إذا، بين عالم محقق، وأديب قاص، وفني ممثل، كل أخلص لمنهجه، ووصل منه إلى غاية بعيدة
وتستطيع أن تتبين هذا الفرق في أسطر قليلة جداً فيما كتب عن أول ما عمل محمد عليه السلام في تجارة خديجة؛ فهيكل يقرر المسألة ويقول أن أبو طالب كان السفير بين ابن أخيه وبين خديجة؛ وطه حسين يقيم ذلك على ميل خديجة إلى محمد وإرسالها دسيساً إلى عمه تعرض عليه أن يكون ابن أخيه في تجارتها بأجر مضاعف؛ فيأتي توفيق الحكيم، فيقتضب المسألة، ويترك الباب مفتوحاً للخيال.
والمرجو ألا يقف العلماء عند ما كتب هيكل، وكفى، وأن يتم طه حسين: (على هامش سيرته). . . وأن يجيبنا العلماء: هل تمثل سيرة الرسول على المسرح ثم ترسم على الشاشة البيضاء؟
(رمل الإسكندرية)
أحمد الشايب