الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 297/صفحة مطوية من تراث العرب العلمي

مجلة الرسالة/العدد 297/صفحة مطوية من تراث العرب العلمي

مجلة الرسالة - العدد 297
صفحة مطوية من تراث العرب العلمي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 03 - 1939


لِلأستاذ قدري حافظ طوفان

لا أظن أن عالماً أصابه الإهمال كالخازن. ولا أظن أن الإجحاف الذي لحق بمآثره لحق بغيره من نوابغ العرب وعباقرتهم؛ فلقد أدى ذلك الإهمال وهذا الإجحاف إلى الخلط بينه وبين علماء آخرين فنسبت آثاره لغير كما نسبت آثار غيره له. وقد وقع في هذا الخلط بعض علماء الغرب وكثير من علمائنا ومؤرخينا. قال (درابر) الأمريكي إن الخازن هو الحسن بن الهيثم وإن ما ينسب إلى ما يُسمى (بالخازن) هو على الأرجح من نتاج ابن الهيثم. وخلط الأستاذ منصور حنا جرداق أستاذ الرياضيات العالية بجامعة بيروت الأمريكية في محاضرته عن مآثر العرب في الرياضيات والفلك بين الخازن وابن الهيثم، يتجلى ذلك في قوله: (ومن أشهر المشتغلين بالفلك والطبيعيات في الأندلس أبو الفتح عبد الرحمن المنصور الخازني الأندلسي الذي عاش في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد وأوائل القرن الثاني عشر للميلاد، وألف مؤلفاته الشهيرة في النور وآلات الرصد وأوضح مقدار الانكسار. وألف في الفجر والشفق وعين ابتداء كل منها وقت بلوغ الشمس 190 درجة تحت الأفق. . . الخ)

ونحن هنا أمام خطأين: الأول في اعتبار الخازن من الأندلس وهو في الحقيقة من مرو من أعمال خراسان.

والثاني في أن المآثر التي أوردها الأستاذ ليست للخازن بل هي من نتاج ابن الهيثم. وأكبر الظن أن ما وقع فيه الأساتذة والعلماء من أخطاء يعود إلى الوضع الإفرنجي للاسمين فأكثر الكتب الإفرنجية حين تكتب الحسن بن الهيثم تكتبه - وحين تكتب الخازن - فظن أن كثيرون أن هذين الاسمين هما لشخص واحد لم يدققوا في حروفهما مما أدى إلى التباس الأمر عليهم ووقوعهم في الخلط والخطأ.

وسنحاول في هذا المقال أن نبين مآثر الخازن في علم الطبيعة وأثره في بعض بحوثها جاعلين نصب أعييننا إنصاف عالم هو مفاخر الأمة العربية ومن كبار عباقرتها من الذين عملوا على إنماء شجرة المعرفة وساهموا في خدمتها ورعايتها

والخازن من علماء النصف الأول من القرن الثاني عشر للميلاد وهو أبو الفتح عبد الرحمن المنصور الخازني المعروف بالخازن نشأ في (مرو) أشهر مدن خراسان، وقد درس فيها وعلى علمائها نبغ ولمع في سماء البحث والابتكار. اشتغل في الطبيعة ولاسيما في بحوث الميكانيكا فبلغ الذروة وأتى بما لم يأت به غيره من الذين سبقوه من علماء اليونان والعرب، كما وفق في عمل زيج فلكي سماه (الزيج المعتبر السنجاري) وفيه حسب مواقع النجوم لعام 1115 - 1116م، وجمع أرصاداً أخرى هي في غاية الدقة بقيت مرجعاً للفلكيين مدة طويلة.

ومن الغريب أن قنصل روسيا في تبريز في منتصف القرن الماضي عثر صدفة على كتاب ميزان الحكمة، وقد كتب عنه عدة مقالات في إحدى المجلات الأمريكية. ولعل العلماء الألمان أكثر العلماء اعتناءً بآثار الخازن. فنجد في رسائل للأستاذ ويدمان فصولاً مترجمة عن (ميزان الحكمة) وقد استوفت بعض حقها من البحث والتعليق كما نجد في رسائل غيره مقتطفات من محتويات الكتاب المذكور دللوا فيها على فضل الخازن في علم الطبيعة.

ولابد لي في هذا المجال من إبداء دهشتي لعدم نشر فصول هذا الكتاب النفيس في كتاب خاص، ولا أدري سبباً لهذا. . .

ولعل السؤال الآتي يتبادر إلى غيري أيضاً: لماذا نُشرت بعض محتويات الكتاب وأهملت الأخرى؟ ليس لي أن ألوم علماء الألمان أو غيرهم في ذلك، فلقد قاموا بواجبهم نحو الخازن أكثر منا وعرفوا فضله قبلنا، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنه لولا قنصل روسيا وبعض المنصفين من مستشرقي الألمان وعلمائهم لما عرفنا شيئاً عن الخازن، ولما كان بالإمكان نشر هذا المقال. وقد يكون الأستاذ مصطفى نظيف بك أول عربي أشار إلى بعض محتويات كتاب ميزان الحكمة في كتابه: (علم الطبيعة تقدمه ورقيه. . .)، ولكنه لا يذكر شيئاً عن المؤلف بل ولا يذكر أنه الخازن، ويقول: (. . . والكتاب لا يعلم مؤلفه. . .) ثم يردف هذا القول: إن (درابر) يرجح أنه من تأليف الحسن ابن الهيثم. وأظن أن مقالنا هذا أول مقال يظهر في مجلة عربية يبحث عن الخازن ويزيح الستار عن آثاره ويفيه بعض حقه. والذي أرجوه أن يثير هذا المقال أساتذة كلية العلوم في جامعة فؤاد الأول بمصر وعلى رأسهم حضرة صاحب العزة الدكتور علي مصطفى مشرفة بك فيعملون على إنصاف الخازن وعلى نشر مآثره بين المتعلمين والمثقفين، فهم أولى الناس بذلك، وأحق من غيرهم بالقيام بهذا العمل الجليل. ولنا من حماستهم للتراث العربي والإسلامي ما يدفعنا إلى لفت أنظارهم إلى حياة الخازن الحافلة المليئة بالإنتاج التي أحاطها الإهمال من كل جانب.

وضع الخازن كتاباً في الميكانيكا سماه (كتاب ميزان الحكمة) هو الأول من نوعه بين الكتب القديمة العلمية القيمة، وقد يكون هو الكتاب الوحيد المعروف الذي يحتوي على بحوث مبتكرة جليلة لها أعظم الأثر في تقدم الأيدروستاتيكا، وقد قال عنه الدكتور سارطون إنه من أجل الكتب التي تبحث في هذه الموضوعات وأروع ما أنتجته القريحة في القرون الوسطى. والذي يطلع على بعض مواد هذا الكتاب تتجلى له عبقرية الخازن وبدائع ثمرات التفكير الإسلامي والعربي. واعترف (بلتن) في أكاديمية العلوم الأمريكية بما لهذا الكتاب من الشأن في تاريخ الطبيعة وتقدم الفكر عند العرب

لا يجهل طلاب الطبيعة أن (توريشيللي) بحث في وزن الهواء وكثافته والضغط الذي يحدثه. وقد مر على بعضهم في تاريخ الطبيعة أن (توريشيللي) المذكور لم يسبق في ذلك وأنه أول من لفت النظر إلى هذه الموضوعات وبحث فيها وأشار إلى أهميتها

والواقع غير هذا، فلقد ثبت من كتاب (ميزان الحكمة) أن من بين المواد التي تناولها البحث مادة الهواء ووزنه. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أشار إلى أن للهواء قوة رافعة كالسوائل وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي وأن مقدار ما ينقصه من الوزن يتبع كثافة الهواء

وبيّن الخازن أيضاً أن قاعدة (أرشميدس) لا تسري فقط على السوائل بل تسري على الغازات، وأبدع في البحث في مقدار ما يُغمر من الأجسام الطافية في السوائل. ولا شك أن هذه البحوث هي من الأسس الذي عليها بنى علماء أوربا فيما بعد بعض الاختراعات الهامة كالبارومتر ومفرغات الهواء والمضخات المستعملة لرفع المياه

ولسنا هنا ننتقص من قدر توريشيللي وباسكال وبويل وغيرهم من العلماء الذين تقدموا بعلم (الإيدروستاتيكا) خطى واسعة، ولكن ما نريد إقراره هو أن الخازن قد ساهم في وضع بعض مباحث علم الطبيعة وأن له فضلاً في هذا كما لغيره من الذين أتوْا بعده، وقد توسعوا في هذه الأسس ووضعوها في شكل يمكن معه استغلالها والاستفادة منها

وبحث الخازن في الكثافة وكيفية إيجادها للأجسام الصلبة والسائلة واعتمد في ذلك على كتابات البيروني وتجاربه فيها وعلى آلات متعددة وموازين مختلفة استعملها لهذا الغرض. واخترع الخازن ميزاناً لوزن الأجسام في الهواء والماء وكان لهذا الميزان خمس كفات تتحرك إحداها على ذراع مدرّج. ويقول بلتن إن الخازن استعمل الأيريومتر لقياس الكثافات وتقدير حرارة السوائل. ومن الغريب أن تجد أن الكثافات لكثير من العناصر والمركبات التي أوردها في كتابه بلغت درجة عظيمة من الدقة لم يصلها علماء القرن الثامن عشر للميلاد. وفي الكتاب أيضاً شيء عن الجاذبية، وأن الأجسام تتجه في سقوطها إلى الأرض، وقال أن ذلك ناتج عن قوة تجذب هذه الأجسام في اتجاه مركز الأرض. ويرى أن اختلاف قوة الجذب يتبع المسافة بين الجسم الساقط وهذا المركز. وجاء في كتاب (علم الطبيعة - تقدمه ورقيه. . .) للأستاذ نظيف: (. . . ومما يثير الدهشة أن مؤلف كتاب ميزان الحكمة كان يعلم العلاقة الصحيحة بين السرعة التي يسقط بها الجسم نحو سطح الأرض والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه - وهي العلاقة التي تنص عليها القوانين والمعادلات التي ينسب الكشف عنها إلى غاليلي في القرن السابع عشر للميلاد. .). وعلى الرغم من التحريات العديدة لم أتمكن من العثور على المقتطفات التي تنص على العلاقة بين السرعة والبعد والزمن في المصادر التي بين يدي سواء العربية منها أو الإفرنجية. ولهذا فمن الصعب جداً أن أحكم في صحة ما جاء عن الخازن بشأن هذه العلاقة. وأظن أن العلاقة التي عرفها الخازن والتي وردت في كتابه - وهي العلاقة بين السرعة التي يسقط بها الجسم نحو الأرض والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه لم تكن صحيحة ودقيقة بالدرجة التي تنص عليها معادلات غاليلي، ولكنها قد تكون صحيحة إلى درجة ودقيقة إلى حدّ. وآمل في أول فرصة أزور فيها مصر أن أبحث عن هذه النقطة في مكتبات القاهرة فقد أجد فيها ما يلقي ضوءاً على المدى الذي توصل إليه الخازن في الجاذبية

وأجاد في بحوث مراكز الأثقال وفي شرح بعض الآلات البسيطة وكيفية الانتفاع منها، وقد أحاط بدقائق المبادئ التي عليها يقوم اتزان الميزان والقبان واستقرار الاتزان إحاطة مكنته من اختراع ميزان من نوع غريب لوزن الأجسام في الهواء والماء كما مرّ بنا

هذا ما استطعنا الوقوف عليه من مآثر الخازن بعد الرجوع إلى مصادر عديدة، ونرجو أن يكون هذا المقال حافزاً لغيرنا للاعتناء بتراث هذا العالم العربي الذي ترك ثروة علمية ثمينة للأجيال، كما نأمل أن يدفع بعض المنصفين من الباحثين والمؤرخين إلى الاهتمام برفع الإجحاف الذي أصابه، والعمل على إزالة الغيوم المحيطة بنواح أخرى من ثمرات قريحته الخصبة المنتجة

(نابلس)

قدري حافظ طوقان