الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 297/الموسيقى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 297/الموسيقى في الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 297
الموسيقى في الإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 03 - 1939


بِقلم محمد السيد المويحلي

يزعم بعض الناس أن الموسيقى محرّمة، لأنها تلهي الإنسان عن ربه، وتشغله عن دينه وعبادته، وتدفعه دفعاً لارتكاب ما نهى الله عنه. فإذا سألتهم آية أو حديثاً قالوا:

هذا شيء معروف منقول سمعناه من آبائنا وأجدادنا والسلف الصالح. . .!

هذا زعم لم ينشأ أيام النبي ﷺ ولا أيام الخلفاء الراشدين، وإنما نشأ أيام الدولة الأموية حينما سما مركز المغنين والقيان سمواً عظيماً حتى حجب مراكز العلماء والفقهاء الذين حقدوا على الموسيقى والموسيقيين حقداً كبيراً، واستسلموا لخوالجهم (وهم بشر!) فراحوا يذيعون بين الناس أن الموسيقى حرام، وأن الخلفاء قد نسوا دينهم وربهم، واتبعوا خطوات الشيطان. . .!

ومن هنا نشأت هذه الشائعات وتطورت حتى غدت على ممر الأيام والأعوام قريبة من الاعتقاد والإيمان. . .

ولإنصاف بعض رجال الدين في هذا الوقت نقول: إنهم أبوا أن يتخذ بعض إخوانهم - في العلم - الدين سلاحاً للتشفي والانتقام من فن رفيع سام يخفف عن الناس آلامهم وشقاءهم فأصدروا الكتب الكثيرة في الرد على مبتدعي التحريم. ولعل أشهر هذه الرسائل وأقواها وأدعمها حجة تلك الرسالة (الخطية) الوحيدة الموجودة الآن (ببرلين). . . (الاستمتاع في الرد على من يحرم السماع. . .!)

قبل أن أذكر شيئاً عن الموسيقى في صدر الإسلام وفي أيام النبي (ص) أحب أن أذكر شيئاً عن حياة العربي وطبيعة بلاده، وتأثير مناخه في نفسه ليرى القارئ معي أن العربي موسيقى بطبعه وفطرته

البيئية العربية خالية مما يسر العين ويرضي القلب، فالصحراء شاسعة مترامية موحشة مقفرة لا حياة فيها، ولا أنس يُحييها. والسماء بنجومها وقمرها. . . هي السماء بنجومها وقمرها (دائماً) لا تتغير ولا تتبدل. .!

فأي شيء يسد هذا الفراغ. . . ويشغل نفس العربي ويملأ حسه غير (الغناء) الذي يساعد عليه رقة الشعر وسلامة قوافيه واختلاف بحوره؟ أي شيء يساعد الإبل والحداة على السير تحت الشمس المحرقة، وفوق الرمال الملتهبة المتقدة أياماً وأياماً بالعطش والجوع غير الغناء الذي ينسي الإنسان همومه، ويمسح دموعه؟

عرف العربي الترنم بالشعر ولم يكن يدري أن هذا اللون من ألوان الموسيقى صناعة تخضع لقانون معين فاستمر هكذا يغني ويشرب الخمر، ويتعلق بالحب، ويكلف بالصيد والميسر حتى استطاعت القيان التي استقدمت من بلاد العجم والروم بآلاتهن الموسيقية الفارسية والرومية أن يؤثرن في الموسيقى العربية تأثيراً كبيراً.

فنشط العرب في هذا المضمار نشاطاً عظيماً، وإن كان هذا النشاط قد حجبه الكبرياء والتعالي، إلا أن حب الفن تغلب على غطرسة العربي فنهض واستحدث حتى احتفظ لموسيقاه بطابعها العربي الذي ميزها عن غيرها ولا يزال. . .!!

وقد عرف العرب في الجاهلية وصدر الإسلام من الآلات الوترية (المزهر) وهو عود ذو وجه من الرق (والعود) ذا الوجه الخشبي (والجنك) أو الصنج (الهارب) (والمعزف) (والموتر)

ومن آلات النفخ المزمار، والقصبة أو القُصَّابة، والشبَّابة، والصُّور، والناي. ومن آلات النقر: الطبل، والدف، والقضيب - لبيان الميزان أو الإيقاع - والصنوج والجلاجل، والمربع والمجنب!!

انحصر جهاد الرسول ﷺ في الذود عن دينه وتبليغ رسالته، ونشر دعوته، وقتال المشركين ممن آذوه وأصحابه في أرواحهم وأموالهم ونسائهم، ولكن هذا لا يمنع أنه ﷺ كان يحب الموسيقى. فقد كان كلما (هادن) سمع من بلال ابن رباح الحبشي، أول موسيقي مسلم، وأول مؤذن في الإسلام، ترتيله وأذانه بصوت جميل، وبتوقيع وترتيل فني.

ولقد جاءته مرة عائشة رضي الله عنها وقالت: يا رسول الله، لقد أقسمت شيرين مولاة حسان بن ثابت إن رجعت منصوراً من غزوتك أن تغني وتضرب بالرق في بيتنا، فماذا ترى.؟

فابتسم المصطفى وأذن لها وجلس مع حشد من صحابته وفيهم صديقه أبو بكر يسمع شيرين وهي تغني وتضرب بالرق، واستمروا كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب فانكمشت شيرين وجلست فوق (رقها) فضحك الرسول وقال:

لقد ذهب شيطانها لما رأى عمر.

فأجابت شيرين: كلا يا رسول الله ولكنه قاس لا يرحم وأنت كريم رحيم!

فضحكوا جميعاً حتى عمر.

ولقد اتسعت فتوح العرب أيام عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وانتفع العرب بمدنيات البلاد المغلوبة وحضارتهم ولاسيما الحضارتين الفارسية واليونانية، فتأثر العرب من اختلاطهم بهؤلاء الأسرى واهتموا بأمور دنياهم، وأصبحوا ينظرون إلى الموسيقى نظرة جديدة خالية من الغلو والشطط حتى ارتفعوا بها على الشعر والأدب، وحتى غدوا لا يرون بأساً ولا ملامة في أن يحضروا مجالسها. وقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يسمع من مولاته شيرين ومن رائقة سيدة المغنيات وقتئذ وتلميذتها عزة الميلاء وكذلك كان حال أشراف العرب وساداتهم. . .!

وأحسب أن عصر ابتداء النهضة الحق ابتدأ في خلافة علي كرم الله وجهه. ولعل حبه للشعر وهو لون من ألوان (الفن) أكبر حافز. على أن هذه النهضة لم تؤت ثمرها اليانع إلا في الدولة الأموية عندما اتسعت الفتوحات شرقاً وغرباً. وقد ابتدئ في وضع الألحان العربية في هذا العصر على إيقاعات متعددة، وورد في غنائه ذكر إيقاعات (الثقيل) الأول و (الثقيل) الثاني، وخفيف الثقيل، والهزج، والرمل

وأشهر الموسيقيين في هذا العصر هو (سائب خاثر)، وهو أول من غنى في المدينة بالعربية مستعملاً العود. وقد أخذ عنه ابن سريج، ومعبد، وعزة الميلاء، وجميلة!

ومن المشهورين أيضاً ابن مسجح أول من نقل غناء الفرس إلى غناء العرب بمكة. وقد ابتدع مذهباً خاصاً وطريقة جديدة تأثر بها وأخذ عنها ابن محرز ومعبد وابن سريج والغريض

وقد بلغ من اهتمام الأمراء والحكام بالموسيقى أن الخليفة عبد الملك بن مروان نفسه كان موسيقياً وملحناً. وقد اشترى يزيد بن عبد الملك (حبابة) المغنية بأربعة آلاف دينار مع أنها كانت دميمة متهدمة. . .

ولعل في رعاية الوليد بن يزيد لمعبد وتمريضه إياه وإخلاء جناح خاص له في قصره، ثم تشييعه لجنازته بنفسه أكبر برهان على مكانة الموسيقي وقتئذ. وقد كان الوليد عالماً بصناعة الألحان عازفاً بالعود موقعاً بالطبل والدف

وقد سرى تيار هذا الاهتمام إلى الأشراف والنبلاء حتى أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان لا يستريح إلا إذا سمع (سائب خاثر) فينشط. وسكينة بنت الحسين رضي الله عنها وعن أبيها، كانت مشغوفة بالغناء والموسيقى، وكانت تكرم الغريض، وكان بيتها منتدى لسماع الموسيقى والغناء، وقد طُلِب منها مرة أن تستدعي (حنين الحيري) مُغَّني (الحيرة)، فاستدعته مع أشهر المغنين في الحجاز ابن سريح، ومعبد، والغريض. وقصد الأربعة بيتها فحفلت الدار بالناس حتى ضاقت بهم، فصعدت شراذم منهم فوق (السطح) وأخذ حنين يغني ويغني والناس تموج وتهتف، وإذا (بالسقف) يهوي بمن فوقه على رأسه فمات مخنوقاً. فقالت السيدة سكينة: (لقد كدر علينا حنين سرورنا. انتظرناه مدة طويلة كأننا والله كنا نسوقه إلى منيته)

وفي العصر الأموي ابتدأت حركة التأليف الموسيقي فوضع يونس الكاتب (كتاب النغم) و (كيان القيان)

أما في العصر العباسي ذلك العصر الذهبي للموسيقى والأدب والشعر فقد سمت فيه الموسيقى سمواً عظيماً وارتفعت إلى ذروة المجد، وزادت مقاماتها وطرائق إيقاعها حتى تعددت في اللحن الواحد وكثرت الآلات وتنوعت وكثر استعمالها

وأصبح العربي يفخر بأنه موسيقي حتى أن أبناء النبلاء انخرطوا في سلكها، فكان منهم ابن جامع القرشي. بل زاد اهتمامهم إلى حد الاعتراف كإبراهيم بن المهدي. .!

والخليفة الواثق كان من أحذق الخلفاء بل من الموسيقيين المحترفين أنفسهم بالغناء والعزف على العود، وقد قال في إسحاق الموصلي:

(ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي. . وإن إسحاق لنغمته من نغم الملك التي لم يحظ بمثلها، ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي) (الأغاني) وإسحاق هذا هو أول من عني بإثبات قواعد الموسيقى العربية ونظرياتها بعد يونس الأكوي وجاء بعده الخليل بن احمد فصنف كتاب (النغم والإيقاع) ولكن الذي بزهما هو إسحاق ابن يعقوب الكندي الذي ألفَ عدة كتب في الموسيقى ونظرياتها؛ وهو أول من دون الموسيقى بالحروف بشكل مرتب، وهذا أكبر رد على من يتهمون العرب بإهمال تدوين تلاحينهم. ثم جاء بعده أيضاً أبو نصر محمد الفارابي فوضع (كتاب الموسيقى الكبير) الذي تدين له الموسيقى بالشيء الكثير. وفي العصر العباسي أمر هارون الرشيد اسحق الموصلي، وإسماعيل بن جامع، وفليح ابن أبي العوراء، أن يختاروا له من الألحان العربية مائة صوت فصنعوا.

ومن أشهر الموسيقيين في هذا العصر إبراهيم الموصلي، وإسحاق الموصلي، وفليح بن أبي العوراء، ويحيى المكي، وحكم الوادي، وزلزل، ومخارق، وبذل المغنية، وابن جامع

وقبل أن نختم هذه اللمحة العابرة نحب أن نقول لهؤلاء الذين يعتقدون أن الموسيقى محرمة: هذه هو شأن الموسيقى في صدر الإسلام

إن الموسيقى في ذاتها نبيلة رفيعة، ولكن المحرم فيها هو التخنث والبكاء والاسترضاء واستغلال الغرائز البهيمية، وهذا ليس بمحرم شرعاً فحسب، بل هو محرم شرعاً وذوقاً ورجولة أيضاً

محمد السيد المويلحي