مجلة الرسالة/العدد 296/دراسات في الأدب
→ حول كتاب (مصطفى كامل) | مجلة الرسالة - العدد 296 دراسات في الأدب [[مؤلف:|]] |
إنني تعبة! ← |
بتاريخ: 06 - 03 - 1939 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأدب الموضوعي نقد وتاريخ
رأينا فيما تقدم أمثلة من الأدب الموضوعي، ورأينا بعض هذه الأمثلة يتناول قطعة من الأدب ليبين ما فيها من عيوب ومزايا؛ ورأينا أمثلة أخرى تبين مناهج الكلام البليغ، وتوضح مزايا هذا الكلام في معانيه وألفاظه وأساليبه، وقلنا أن هذه الأمثلة وما يشبهها تسمى نقداً. ثم وجدنا أمثلة غيرها تقصد إلى تبيين أطوار الكلام في العصور المتتابعة وإيضاح أسبابها، وقلنا إن هذه الأمثلة وأشباهها تُعدّ من تاريخ الأدب
وهنا نُجمل الكلام في النقد الأدبي وتاريخ الأدب
1 - النقد الأدبي
نقد الكلام تبيين مزاياه وعيوبه، وتمييز جيّده من رديئه يقال: نقد الكلام وانتقده على قائله، وهو من نقده الشعر ونقَّاده. . . الخ
2 - نشوء النقد وتطوره
النقد طبيعي في الإنسان، ينشأ من استحسان الشيء أو استهجانه. ويزيد الناس اهتماماً به اختلاف الأذواق في تقدير الشيء الجميل والقبيح، وتفاوت الإدراك في معرفة الصواب والخطأ، ويعظم الخلاف في دقائق الأمور التي لا يُبينها حِس واضح أو إدراك بيّن، وكلما دقت المسألة عسُر الحكم فيها وكثر الخلاف؛ وكلما كثر الخلاف كان النقد أصعب، وكان على صعوبته ألزم. والنقد يكون في العلوم، والصناعات، ويكون في الآداب. وهو في هذه أغمض وأعسر لأن الآداب لا يرجع فيها إلى الحس أو العقل ولكن إلى العاطفة والذوق، وهما من الأمور النفسية يصعب تحديدهما ويكثر الاختلاف في أحكامهما
والنقد يكون في مبتدئه أحكاماً لا يدعمها برهان ولا يوضحها بيان، ثم تتناقض الأحكام، وتتصادم الآراء، فيذهب كل ناقد يفسر رأيه، ويقيم حجته، على قدر ما يواتيه فكره، ويمده ذوقه، حتى ينتهي الجدال إلى أمور مسلمة ومقاييس محدودة يحتكم الناس إليها فيتفقون. وربما ينتقل الخلاف من المسائل الجزئية التي يختلفون فيها إلى المقاييس الكلية يقيسون بها؛ يختلف اثنان في وزن شئ أو طوله فيعمدان إلى الميزان أو الذراع ليعرفا الصواب فيما اختلفا فيه، وربما يقع الخلاف في صنجة الميزان أو في طريقة الوزن أو في الذراع أو طريقة الذرع.
وكذلك الأمور المعنوية، يقع فيها الخلاف فيرجع المختلفون إلى قواعد يتفقون عليها، وربما يختلفون في القواعد نفسها. يقول واحد: هذا حسن، ويقول آخر: بل هو قبيح، فيرجعان إلى القوانين التي يعرف بها الناس الحسن والقبيح، يقول أحدهما: حسن لأنه نافع، ويقول الآخر: قبيح لأنه ضار، ثم يعرفان أنه نافع أو ضار فيتفقان. وقد يتمادى الخلاف بينهما في المقياس نفسه، فيقول أحدهما: كل نافع حسن، ويقول الآخر: ليس كل نافع حسناً، ليس مقياس الحسن والقبح هو النفع والضر بل قبول النفس أو نفورها أو اللذة والألم. فإن لم يتفقا على مقياس الحسن والقبح استمر الخلاف بينهما
كذلك الأدب: يسمع أحد الناس قصيدة فيستحسنها ويطرب لها ويخالفه آخر؛ فيقول الأول: ألفاظها مألوفة سلسة حسنة النغمة، ومعانيها جميلة فيها سمو بالنفس ولها أثر في القلب، وكثير منها مخترع. ويخالفه الثاني فيما زعم للألفاظ والمعاني من أوصاف فيقول: ليست الألفاظ مألوفة سلسة، أو يوافقه على أنها كما قال ولكن يدعي أن الألفة والسلاسة ليست مقياس الجمال أو البلاغة؛ فإما أن ينتهيا إلى مقياس يرضيانه فيتفقان، أو يتمادى بينهما الخلاف
وفي البحث عن المقاييس والاتفاق عليها أو الاختلاف فيها يكون تطور النقد الأدبي وتشعب مذاهبه، ووضوح مناهجه، واستناده إلى براهين تتفق فيها المعرفة الواسعة والذوق المهذب والحس المرهف
3 - ضروب النقد
وفي النقد الأدبي ضروب منها:
1 - نقد الجزئيات، وهو نقد قطعة من النثر أو الشعر بالنظر في ألفاظها وتبيين أنها مما عرف في اللغة، وأنها موافقة للصرف والنحو، وأنها مألوفة غير مبتذلة، وأن وزنها، إن كانت من الشعر، صحيح لا خلل فيه - أو بالنظر إلى معانيها وتبيين أنها غامضة أو واضحة، وقيمة أو تافهة، وطريفة أو مبتذلة، ومخترعة أو مسروقة، وأن التصوير فيها واف بالمقصد أو مقصر عنه، وأن مجازاتها واستعاراتها حسنة أو قبيحة. . . وهلم جرّا
2 - وقد يتناول النقد شاعراً أو كاتباً؛ فيقال إنه ركيك الألفاظ أو غامض المعاني أو مستهجن الموضوعات أو متكلف لا يصور الطبيعة أو سراق غير مخترع
3 - وربما يكون النقد أوسع من هذا فلا يتناول قطعة أو شاعراً بعينه، بل يتناول طرائق البيان ومناهج البلاغة؛ فيقال: ينبغي أن تؤلف الألفاظ على أسلوب كذا، وأن تحرر من السجع والصناعة، وينبغي أن تكون المعاني بيّنة قريبة من المخاطب، وينبغي أن يطول الكلام أو يقصر على قدر المقام وهكذا
4 - وأحياناً يسمو النقد فوق هذا كله وينظر إلى الأدب ومقاصده عامة فيتناول مسائل كالمسائل الآتية: هل للأديب أن يطرق كل موضوع، أو هو جدير بأن يتناول موضوعات سامية لا يتناولها العامة؟
هل على الأديب أن يلتزم الأخلاق والآداب فيما يكتب أو هو حرّ فيما يُبِين غير مطاَلب إلا بالإجادة في بيانه؟
هل الحق والصدق من أسس البلاغة أو يكون الكلام بليغاً وهو كذب وباطل؟
هل للأديب مقصد فيما يكتب، أو هو كالزهرة تنشر الرائحة العطرة بطبعها لا تبغي وراء هذا شيئاً؟
وهذه المباحث أعمق مباحث النقد وأوسعها وأعظمها جدوى لأنها تتناول وجهة الأدب ومقاصده وموضوعاته، تعمد إلى سُبل الأدب تبيّنها وتوضّحها ليكون الأديب على بينة من غايته وسبله قبل أن يسير، فلا يعتسف الطريق ولا يضل دون الغاية
4 - النقد في الأدب العربي
أما النقد اللفظي الذي يرجع إلى متن اللغة والنحو والصرف والعروض فالأمر فيه يسير لا يحوج إلى شواهد، وهو واقع في كل زمان يشترك فيه الشادون والمنتهون. ويُرى في كتب الأدب كثير منه؛ وقد كتب فيه الحريري كتابه (درة الغوّاص في أوهام الخواص)
وأما نقد الألفاظ من حيث سلاستها أو تنافرها وألفها أو غرابتها ونحو هذا ففي كتب الأدب والبلاغة مباحثه وشواهده
والنقد المعنوي عرفه العرب في كل عصور الأدب حتى العصر الجاهلي ولكنه كان أول الأمر نقداً مبهماً غير معلل كقولهم: فلان أشعر، وهذه القصيدة أحسن؛ أو نقداً لمعان جزئية أحسن فيها القائل أو أساء
ثم حاول العلماء منذ القرن الثاني أن يصفوا طرائق البيان، ويحدّوا حدوده ويبينوا معالمه فكتبوا في البيان وأكثروا ودعموا دعاويهم بكثير من المنظوم والمنثور
ونجد النقد عندهم مفرّقاً في الكتب الآتية وأمثالها:
1 - كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن الجاحظ المتوفى سنة 255
2 - كتاب نقد الشعر وكتاب نقد النثر لقدامة بن جعفر المتوفى سنة 335
3 - الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة 392
4 - كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري للحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة 370
5 - كتاب العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 456
6 - كتاب أسرار البلاغة ودلائل الأعجاز لعبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471
7 - كتاب المثل السائر في أدب الشاعر والناثر لضياء الدين ابن الأثير المتوفى سنة 637
تناول هؤلاء البيان من جهاته المختلفة ألفاظه ومعانيه وأساليبه وحاولوا جهد الطاقة أن يبينوا النهج للبلغاء ويصفوا القواعد التي يبنى عليها الكلام البليغ
ولكن نُقادنا لم يتناولوا المباحث العامة التي تبين وجهة الأديب ومقاصده، وموضوعاته وصلة الكلام بقائله وصلة القائل ببيئته
وقد عنى بهذا الأوربيون منذ عصر النهوض، وتوسع فيه الفرنسيون منذ القرن السابع عشر الميلادي حتى نبغ منهم في القرن التاسع عشر ثلاثةُ يعدّون أئمة النقد الأدبي حتى اليوم. وهم:
1 - سنت بوف وأساس مذهبه معرفة الصلة بين الأدب ونفس الأديب، وجعل النقد تاريخاً للعقول والأنفس يتعرفها في آثارها ويكشف عن خباياها
2 - تين ومذهبه يعني كثيراً بمعرفة البيئة التي نشَّأت الأديب ليتوسل بها إلى معرفة الأديب نفسه
3 - برنتيير ومذهبه أن البلاغة قائمة على التدرج والتطور كالحيوان والنبات وعمل الناقد هو تتبع هذه الأطوار
عبد الوهاب عزام