مجلة الرسالة/العدد 296/النجم الذي هوى
→ حرب الأجيال | مجلة الرسالة - العدد 296 النجم الذي هوى [[مؤلف:|]] |
رد على رد ← |
بتاريخ: 06 - 03 - 1939 |
للدكتور زكي مبارك
ما كنت أحسب أن الأيام تدّخر لي هذا النصيب الضخم من الحسرة والحزن والالتياع
ما كنت أظن أن في أخبار الدنيا ما يهددني بالموت وأنا سائر في الطريق
ما كنت أتوهم أن صدري يملك هذه الذخيرة من الحرص على حياة الأصدقاء
رجعت إلى بيتي عصر الخميس ولم أخرج منه إلا صباح السبت طلباً للتفرغ لبعض الأعمال
فماذا رأيت حين خرجت؟
رأيت أن يوما واحداً هو يوم الجمعة كان كافياً لأن تذهب دولة من المروءة والشرف والأريحية من عالم الفناء إلى عالم البقاء
إي والله، يوم واحد كان كافياً لأن يموت فيه رجل ويدفن وينقضي مأتمه وينفضّ من حول بيته الجازعون بحيث لم تبق فرصة لمن يريد أن يقدم إلى أهله كلمات العزاء
إي والله، في يوم واحد ذهب الأستاذ محمد الهراوي إلى غير معاد. . .
فيا أخي ويا صديقي ويا كل ما كنت أملك من الصدق الصادق الصحيح، كيف تطيب الدنيا بعدك وفيها ما أعرف وما كنت تعرف من ندرة الأصدقاء الأوفياء؟
كيف تطيب الدنيا بعدك، يا محمد، وكانت حياتك العزاء، عما في الدنيا من بلايا وأرزاء؟
كيف تطيب الدنيا بعدك، وما تخلَّق الناس بالصدق إلا ليزاحموك، ولا عرفوا الوفاء إلا لينافسوك؟
يا محمد، وما أجمل اسمك!
لك أن تعرف في عالم الأرواح أن إخوانك وأصفياءك سيذكرون أيامك كما يذكرون بشائر الأحلام وبواكير الأماني
لك أن تعرف، يا محمد، أن إخوانك وأصفياءك يؤمنون بأن فجيعتهم فيك هي فجيعة الرياض بموت البلبل الصداح، وفجيعة القلوب بذهاب الأمان، وفجيعة الجسد بفراق الروح
أين من يعزيني فيك يا أخي ويا صديقي؟
أين من يعزيني فيك وأنا أشعر بأن الموت حين خطفك لم يوجّه الطعنة إلى صدر غير صدري؟
أين من يعزيني فيك وأنا أومن بأن أباك لو كان عاش حتى ثكلك لما جزع عليك معشار ما جزعت عليك؟ أين من يعزيني فيك إن كان قلبي سيعرف من بعدك العزاء؟
يا محمد، وما أجمل اسمك!
كيف جاز عندك أن تغمض عينيك قبل أن تراني؟
كيف جاز عندك وأنت مثال العطف والحنان أن تفارق الدنيا قبل أن أراك؟
أكنت تعرف بوحي القلب أنك مفارق؟
كنت تعرف ذلك ولا ريب، لأنك تلهفت إلى لقائي في أيامك الأخيرة مرات ومرات، وكنت لجهلي أحسب ذلك من إمارات الشوق، لا من إمارات التوديع، فضيَّعتُ حظي من لقائك وأنا آثمٌ ظلوم
ليتني أعرف، يا محمد، كيف تشعر بعد الموت بجزعي عليك!
ليت الحجابُ يكشَف مرةً، لأعرف أن حزني وصل إليك!
أين من يعزيني فيك يا نعيماً ذهب وأملاً ضاع؟
أين من يعزيني فيك يا روضة من الحسن عصف بأزهارها الزمان؟
أين من يعزيني فيك يا دوحةً من المجد عَدتْ على أغصانها العوادي؟
أين من يعزيني فيك وما عرفت معنى الأخّوة إلا حين عرفتك، ولا تذوّقتُ معنى الأنس بالأرواح إلا حين أنستُ بروحك، ولا فطنتُ إلى ما في الدنيا من ذخائر إلا حين فطنتُ إلى الذخائر المودَعة في صدرك الأمين
يا محمد، وما أجمل اسمك!
أفي يوم واحد تضيع من يدي، أيها الكنز الثمين؟
أفي مثل ومضة البرق يذهب الروض الذي كنت آوى إلى ظلاله حين يلفحني هجير العناء؟
أفي مثل لمح البصر أنظر فأراني وحدي وكنتَ جيشاً أحارب به الزمان؟
أفي مثل خفقة القلب ينطفئ السراج الذي كنت أستهدي به في الملمات؟
يا محمد، وما أجمل اسمك! سيكون في دنيانا بعدك أفراح وأحزان، وسنلقى الدنيا بعدك باسمين أو عابسين، ولكنا سنذكر أن طالت الحياة أن خفقات القلوب من بعدك لن تكون إلا مزاحا في مزاح.
نكذب عليك، يا محمد، إذا قلنا إننا سنجعل خفقات القلوب وقفاً على الهتاف باسمك، والشوق إليك، ولكنك ستعرف أنك ستظل في قلوبنا مثال الشرف والصدق، وسترانا من أهل الحرص على التغني بمحامدك في أكثر الأوقات، حين يجدّ ما يوجب أن نتطلع إلى الأصدقاء الأوفياء.
يا محمد، وما أجمل اسمك!
بموتك عرفتُ أن الحزن خليقٌ بأن يكون شريعة من الشرائع
بموتك عرفت كيف يجب أن أفكر في لقاء الرفاق الأصفياء كل يوم.
بموتك عرفت أن في قلبي ذخائر من الصدق والوفاء
يا محمد، وما أجمل اسمك!
أقسم بالله وبمودتك أن الموت كاد ينتاشني في الطريق حين قرأت خبر موتك، فإن طالت حياتي بعدك فسيكون ذلك أعجوبة من الأعاجيب، وسأقضي ما بقى من حياتي في تحقيق الأغراض التي كنت تحبّ أن تحققها في حياتك
أخي وصديقي:
لا أقول: (يغفر الله لك)، فقد كنت أطهر من الزهر المطلول، وإنما أقول: (يغفر الله لمن عرفك ولم يمت لموتك).
أما بعد، فقد كان في نيتي أن أرثي الهراوي في إحدى الجرائد اليومية، ثم رأيت أن أرثيه في (الرسالة) لأحدث عنه إخوانه في سائر الأقطار العربية.
وسأرجع إلى الحديث عنه مرة أو مرات لأبين ما صنع هذا الفقيد العزيز في خدمة العروبة والإسلام والإنسانية.
نفعني الله بدعواتك، يا محمد، وحرمني فيك العزاء، فما أحب أن يكون لي فيك عزاء.
يا محمد، وما أجمل اسمك!
أحبك وأشتاق إليك، وأحب من أجلك ذاويات الأزهار، وهاويات الكواكب، فاذكرني عند ربك يا أصدق صاحب وأشرف صديق. وسلامٌ عليك من صفيّك وأخيك.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك