الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 296/أعلام الأدب

مجلة الرسالة/العدد 296/أعلام الأدب

بتاريخ: 06 - 03 - 1939


اسخيلوس والمسرح اليوناني

للأستاذ دريني خشبه

وكان للتمثيل موسمان عند اليونانيين. فموسم الشتاء (اللينايا وذاك هو موسم عصر الخمر عندهم، وموسم الربيع (الديونيزيا حينما كانت تجتمع في أثينا وفود أحلافها

ولم تكن تمثل على المسرح اليوناني إلا كل درامة تنجح أمام هيئة المسابقة، وكانت المسابقات تعقد ثلاث مرات في السنة بإشراف الحكومة التي كانت تمثلها الهيئة الدينية

وقبل أن ينشأ مسرح ديونيزوس العظيم على منحدر الأكروبوليس الجنوبي الشرقي كان لأثينا مسرح آخر في مكان سوقها وكانت مدرجاته من عروق الخشب، وقد حدث أن سقطت هذه المدرجات مرة في نزاع كبير نشب بين أنصار كل من اسخيلوس وبراتيناس وخوريلوس في الأولمبياد السابع (499 ق. م) فقتل خلق كثير من النظارة، وكان هذا الحادث هو الباعث لبناء مسرح ديونيزوس، حيث صنعت المدرجات من الحجر على الحدور الراسخ فكانت تتسع لثلاثين ألف متفرج

وكان مكان التمثيل هو الدائرة المنخفضة الوسطى من المسرح وكانت تسمى المرقص أو الأركسترا

وفي وسط المرقص كان يقام المحراب الذي يبدل فيه الممثلون ملابسهم وأزياءهم التنكرية، وقد رؤى أن يكون إلى خلف المرقص حين رفعت أرضه بالخشب لتتناسب مع المدرجات العالية أمامها

ولما كان المسرح في مثل هذا الاتساع الهائل عمد الأثينيون إلى حيل المكياج ليضخموا الممثلين بحيث تراهم الصفوف الخلفية، فكان هؤلاء يلبسون أخفافاً كباراً لها أعقاب عالية من الخشب، وثياباً سميكة محشوة ومبطنة ببطائن منتفخة، وقد يكون للثوب ذيل فضفاض يجرره الممثل وراءه

وكانوا يلبسون الأوجه التنكرية الكبيرة التي تلائم المشهد الروائي، فإذا كان المشهد محزناً ظل الوجه عابساً بادي الألم، وإذا كان المشهد مضحكاً بدت على الوجه أسارير المرح وقسمات الضحك أو علائم التهزي وكما عمدوا إلى ذلك لتضخيم الممثلين فكذلك عمدوا إلى فم الوجه التنكري فنفخوه بحيث يخرج الصوت منه مدوياً يجلجل في أرجاء المسرح فلا تضيع كلمة واحدة على نظارة الصفوف الخلفية

وقد أدى هذا المكياج العجيب إلى بطء الحركة في المرقص بطئاً شديداً لأن تلك الأخفاف الخشبية ذات الأعقاب العالية لا تعمل على السرعة بل تعمل على البطء، هذا إلى اضطرار الممثل أن يتجه دائماً إلى الوجهة التي يعبر عنها الوجه التنكري الذي يلبسه، لأنه لا يستطيع تبديل (تقاطيعه) حسب ما يقتضيه سياق الحديث

وكانت طبيعة هذا المسرح الضخم الرحيب تقتضي أن يكون الممثل حاذقاً بارعاً ملماً بدقائق فنه خبيراً بتوجيه الصوت الذي كان ينبغي أن يكون دائماً جهورياً عالياً في غير حشرجة ولا تصديع

وقد كان الشعراء أنفسهم - وهم مؤلفو الدرامات - يقومون بتمثيل الأدوار المهمة ويتولون في الوقت نفسه مهمة الإخراج والإشراف الشامل على تمثيل الأدوار الأخرى. . . وقد ظل إسخيلوس وسوفوكليس يمثلون أدوارهم حتى اضطرا إلى التخلي عن ذلك حينما ضعف صوت إسخيلوس ورأى سوفوكليس أن يستعمل ممثلا آخر يقوم عنه بهذه المهمة، ومن هنا نشأ الاحتراف في التمثيل حوالي سنة 456 ق. م

وإسخيلوس هو أول من اتخذ ممثلين بدل ممثل واحد يقوم بمعظم الأدوار الهامة في الدرامة. وقيل إن سوفوكليس زاد عدد الممثلين فجعلهم ثلاثة؛ وقيل إن إسخيلوس هو الذي صنع ذلك وسنّه لمن جاء بعده

وكانت أدوار النساء تسند عادة إلى الصبيان المُرد ذوي الصوت الناعم الرخيم. وقد مثل سوفوكليس نفسه دور الحسناء نوزيكا في درامته المفقودة (نساء غاسلات). . . ولا تدري ماذا منع الإغريق من إسناد هذه الأدوار إلى السيدات، وليس في المصادر التي بأيدينا ما يلقى النور على ذلك

وقد كان الفنانون يبدون مهارة عجيبة في صنع الأوجه التنكرية وخاصة لأدوار النساء، وقد حفظ لنا الأثر كثيراً من فن فدياس في ذلك خصوصاً في أدوار درامات سوفوكليس

أما الخورس (المنشدون) فقد عرفنا أن عددهم في الدثرامب (أغاني باخوس) القديمة كان خمسين وقيل ثمانين وقيل غير ذلك، وقد نزل بهم إسخيلوس إلى ثمانية وأربعين لا يظهر منهم في المشهد الواحد إلا اثنا عشر. وقال ستوبارت بل كان يظهر منهم في المشهد الواحد خمسة عشر يخرجون من المحراب في صفوف ثلاثية طولية عدد كل منها خمسة، ويقودهم رئيسهم صاحب الناي وعلى يمينه ويساره قائدا الصفين الآخرين

وكان أفراد الخورس يُختارون من أمهر الراقصين اليونانيين، ومن الذين مرنوا على الإنشاد والغناء، وذلك لما يتطلبه فن الدرامة اليونانية من التوقيع الموسيقي الرشيق الأنيق المنتظم الذي يوائم مجرى التمثيل ويتفق ومشاهد المأساة أو الملهاة

أما ملابس الخورس فكان يؤدي ثمنها المثري الذي تعهد للشاعر بمصروفات الدرامة، وكان لكل فرد من المنشدين أربعة (أطقم) من الثياب يغيرها حسب اختلاف المشاهد. . .

وكان للخورس المقام الأول في الدرامة القديمة، فهم الذين يشرحون الحوادث وهم الذين يعطون للنظارة كل فكرة هامة عن الدرامة، وما الممثل (أو الممثلان أو الثلاثة) إلا قائد التسلسل أو كما يقول آرسطو أي الشخص الذي يقود الحديث ويوجهه. وقد أخذت مهمة الخورس تتضاءل وتقتصر على الشرح الخفيف والأغاني والموسيقى بعد اسخيلوس. ففي درامة المتضرعات ترى أن الخورس هم أبطال الرواية ذكوراً وإناثاً، وأنهم ينشدون من مادتها الثلثين على الأقل؛ أما الثلث الباقي فهو للحوار ويؤديه الممثلان. فالخورس في إسخيلوس هم صلب الرواية، وهم حاضرون أبداً في الأوركسترا لا يبارحونه. . . أما في سفوكليس، أو في درامته فيلوكتيتس فلا تكاد تحس للخورس تلك الأهمية، بل لا تكاد تحس لهم أهمية مطلقاً، وهم لا يظهرون في الأوركسترا إلا بعد أن تقترب المأساة من أوجها، ولا يكادون ينشدون من مادتها أكثر من السدس. وهذا هو السبب في سرعة الأداء في مآسي سوفوكليس وبطئه في مآسي إسخيلوس، بل هذا هو السبب الذي أظفر الشاعر الشاب بالشاعر الشيخ كما سنرى فيما بعد.

وقد فقدت أغاني الخورس قيمتها تقريباً في درامات يوريبيدز واحتلت الموسيقى المكان الأول فيها جميعاً، وقد حدث ذلك التبدل حينما انحط الغناء وتشوف الأثينيون إلى الموسيقى العلوية الرفيعة التي تذكى المشاعر وتحوم بهم في آفاق شعرية جميلة، ومن هنا اهتمام يوريبيدز بالأناشيد والمراثي القروية مما سوف نتناوله في حينه إن شاء الله.

وقبل أن يبدأ التمثيل، كان لا بد من إعطاء النظارة فكرة عن موضوع الدرامة، فكان يبرز من المحراب أحد أفراد الخورس أو الممثلين أو الشاعر نفسه ليقدم المقدمة أو ال وذلك قبل أن يدخل أحد من الخورس، أما مقدمة الخورس أو ال فهي ما يقدم به الخورس نفسه قبيل كل مشهد جديد. . .

أما مادة الدرامات اليونانية فقد كان لها مصدران عظيمان: أحدهما خارجي ويشمل مشكلات السياسة ومؤامراتها وكل ما يتعلق بسلامة الدولة، والآخر داخلي أو أهلي ويشمل الأساطير الدينية التي تحدد العلاقة بين الناس والآلهة أو بين الآلهة والآلهة أو بين الناس والناس فيما يتعلق بتقليد ديني أو فيما له صلة بتلك التقاليد

وفي الدرامات التي تتناول موضوعاً سياسياً لم يكن يسمح للشاعر أن يستهزئ بدولة ما حتى ولو كانت دولة معادية؛ ولم يكن يسمح له أيضاً بأن يثلب طائفة ما من الطوائف التي يتركب منها الشعب الإغريقي. وقد حدث أن ألف الشاعر فرينيخوس درامة آذى بها الأيونيِوَيّين، فثارت الخواطر عليه في أثينا وانتهى الأمر بمحاكمته والحكم عليه بغرامة فادحة

وقد كان لأبطال الملاحم الهومرية والهسيودية النصيب الأوفى من عناية شعراء الدرام. وكانوا يعنون كذلك عناية فائقة بأبطال الحروب المروعة التي نشبت بينهم وبين الفرس. . . تلك الحروب التي خلقت المجد اليوناني وحالت بانتصار اليونانيين دون تبرير أوربا

أما الأساطير التي تعج بها المثيولوجيا اليونانية فقد كانت مادة أساسية للدرامة. . . ولا غرو، فقد عرفنا أن الدثرامب كانت الفجر الصادق لهذا الفن الجميل العظيم. . . والدثرامب هي أغاني باخوس، وهي وإن كانت تنشد باسم هذا الإله المرح الطروب قد أدت إلى المأساة الصارمة المشجية التي تفيض بالألم وتورث الحسرة والأسى

وهنا موضع إشارة إلى رأي طريف جهر به أستاذ عظيم من أساتذة الأدب اليوناني القديم هو العلامة ردجواي. . . فقد أنكر هذا الأستاذ أن تكون أغاني باخوس الفياضة بالفرح والمرح والتهريج أصلاً للمأساة، وزعم أن أصلها إنما هو الأسى والحزن، والأسى والحزن إنما ينشأن حول الموتى وحول المقابر وفي المحافل الجنائزية التي كانت تقام في هذه المناسبات، وما كان يصحبها من إقامة شعائر الموت والطقوس الدينية المختلفة. ودليله على ذلك تلك المشاهد الكثيرة التي تزدحم بها المآسي من مناظر الحزن وإبراز إمارات الأسى وتجصيص القبور في المناظر التي تقتضي ذلك.

هذا رأي طريف حقاً. . . لكنه رأي لم يشر إليه أحد من قدماء اليونان، لا أفلاطون ولا أرسطو ولا هيرودوتس ولا أحد ممن أرخ لهذا الأدب المسرحي العظيم. بيد أنه لا ينقض هذا الرأي عدم إشارة أحد من هؤلاء إليه. فهو رأي محترم لأنه منطقي ولأن الأستاذ قد أردفه برأي آخر في نشوء الدرامة الكوميدية كاد ينكر به ما تواتر به التاريخ وأجمع عليه العلماء من أمر نشوئها، فقد زعم أن الكوميدية لم تنشأ عن الدثرامب التي هي أغاني باخوس الخمرية المرحة، بل نشأت في قرية تدعى اشتهر أهلها بممارسة عبادة العنز لا عن تقي وورع بل اندفاعاً مع التيار. . . وآية ذلك أنهم لم يكونوا يظهرون إلههم الذي هو ديونيزوس أيضاً. . . في المظهر الذي كان ينبغي له بصفته أحد سادة الأولمب، بل هم كانوا يظهرونه في مظهر المخلوق المخمور العربيد الذي يثير مرآه الضحك ويبتعث النشوة والابتهاج، والسخرية أحيانا. فمن اسم هذه القرية اشتقت كلمة للملهاة ولفظة لشعرائها ومنشديها

ومع ما لهذا الرأي من قيمة ووجاهة فهو ما يزال يفتقر إلى إثبات وتدعيم.

هذا ولم تكن مناظر القتل وسفك الدماء تمثل على المسرح، بل كان يكتفي بدخول رسول فيفاجئ الممثلين والخورس بمقتل فلان أو الاعتداء على فلان. وهنا تتغير اتجاهات المأساة، وتبلغ أوجها بالخطبة الطويلة التي يلقيها هذا الرسول، لأنه يتناول شرح الاعتداء ووقته ومكانه وكيفيته والقائم به. . . الخ. وكانت المأساة في الغالب تنتهي بهذه الخطبة، فيظهر إله، خصوصاً في درامات يوريبيدز، فيلقي عظة أو عبرة، ثم يدخل الخورس إلى المحراب، وينصرف الجمهور إن لم يكن هناك تحكيم

وعلى ذكر الخطبة التي يلقيها الرسول نذكر أن الدرامة اليونانية لا تشبه بحال من الأحوال الدرامة التي نشهدها اليوم في مسارحنا. . . فدرامتنا تعتمد على الحوار القصير، أما الدرامة اليونانية فتعتمد على الخطب الطوال في أكثر الأحوال. . . ولم يوزع الشعراء اليونانيون بيتاً واحداً من الشعر على أكثر من ممثل واحد كما يصنع شعراؤنا اليوم ومنذ عصر شاكسبير. . . ومن الظريف جداً أن مترجمي الدرامات اليونانية القديمة من الإنجليز والألمان والفرنسيين قد حافظوا على هذا التقليد حينما نقلوا تلك الدرامات إلى لغاتهم شعراً

وقبل أن نختم هذا الفصل نرى ألا يفوتنا أن نشير إلى حرية الرأي الكاملة عند هذا الشعب الأثيني الراقي العظيم. . . تلك الحرية العجيبة غير المحدودة - إلا ما سلفت الإشارة إليه في تناول بعض المشكلات السياسية - التي كان ينعم بها المؤلف والخطيب والمحاور وكل فرد من أفراد ذلك المجتمع الأثيني المهذب

لقد نشأت الدرامة اليونانية نشأة دينية بحتة. . . لكن المجتمع الأثيني لم يكن مجتمعاً دينياً متزمتاً. . . ودينه لم يفرض عليه طقوساً يومية من العبادات، وإن كنا نحن نؤمن إيمانا مطلقاً بما لهذه الطقوس من الأثر الجميل في مجتمعنا. . . لكنهم هكذا نشأوا. . . نشأوا وثنيين في عشقهم للجمال والحرية ومحبة العدل وإيفاء كل ذي حق حقه. . . احترموا الموت ولم يفكروا فيما وراءه، وآمنوا بالقضاء والقدر إيماناً إيجابياً لا إيماناً سلبياً مثل إيمان بعضنا بهما. . . ومن هنا نبعث روائع دراماتهم. . . لقد كان كل ما يأمرهم دينهم به هو تقديم القرابين وعقر الأضاحي. . . ثم دفن الموتى. . . فمن لم يدفن بعد موته أو قتله ظلت روحه هائمة في الظلمات عابسة كاسفة حتى يدفن صاحبها فيؤذن لها في دخول هيدز. . .

هذا كل ما فُرض عليهم من أمر دينهم. . . ومع ذاك فقد فهم أحرارهم هذا الدين الأسطوريّ على وجهه الحق فلم يبالوا أن يزيفوه ويتناولوا آلهته بالنقد والتخطيء والتسفيه والسخرية أحياناً. . . كما سيمر بك فيما يلي

دريني خشبه