مجلة الرسالة/العدد 295/استطلاع صحفي
→ قلت لنفسي. . . | مجلة الرسالة - العدد 295 استطلاع صحفي [[مؤلف:|]] |
حوريتي تَسأل. . .! ← |
بتاريخ: 27 - 02 - 1939 |
الأندية الأدبية في مصر
مقهى الفيشاوي
(لمندوب الرسالة الأدبي)
أتعرف الحيّ اللاتيني يا صاحبي؟
أقصر الطرف، وقرّب الفكر، واقتصد في الخيال، فلا تذهب إلى ما وراء البحار إذ تحسبه في باريس مدينة العلم والنور، وبلد الطرافة والحسن، ومبعث الفتنة والخروج على الوقار. . .
إلى هنا يا صاحبي! في قاهرة المعز لدين الله، موطن المجد القديم والعز التالد والتاريخ الحافل، حيث المسالك الضيقة والدروب الملتوية والشرفات المتشابكة والسطوح المتواصلة والبناء العتيق العتيد، الذي أفنى جدارهُ القرون وما زال تتحلى فيه روعة الفن الشرقي الخالص، وعبقرية الذوق المصري الصحيح. . .
إلى هنا يا صاحبي! حيث الأزهر يعجّ بأبنائه من سائر الأقطار، ومشهد الحسين يضج بقصاده من جميع الأمصار، وخان الخليلي معرض الكهرمان والآبنوس والصدف والعاج والسجاد الفاخر يتلهف عليه السائحون ومجانين الأثرياء؛ والغورية سوق العطر والأصباغ والألوان وكل مساحيق التجميل البلدية والأوربية تتزاحم عليها أسراب الفتيات من كل هيفاء هي منية النفس، ومن كل شوهاء هي فداء إحسان، ومن كل عطبول رداح يفديها صاحبنا بيرم بأبيه وبروحه إذ يقول:
بأبي وروحي اللابسات خلا خلا ... الآكلات مدمساً وفلافلا
إلى هنا يا صاحبي! حيث يمتزج القديم بالحديث، ويختلط الطيب بالخبيث، ويتلاصق الوضيع بالرفيع، ويتساوى الأصيل بالدخيل، فتتجلى لك القومية المصرية في تباين المظاهر واختلاف الطبقات، وتتبين لك المفارقات في أذواقنا وسلوكنا ومدنيتنا إذ ترى عربات سوارس والكارو ما زالت تجرجر وتكركر إلى جانب مركبات الترام والأتوبيس والفيات. . .
إلى هنا يا صاحبي حيث سوق البقول والأفاويه والتوابل والأعشاب، والبن بجميع أصنافه، والشاي بسائر ألوانه، واللب المحمص، والحمص المقلي، والبطاطة المشوية، والعدس القشري، وما إلى ذلك من الأطعمة الشهية التي تخالف في عرضها وفي طهيها كل شروط الصحة على أنها عند أهلها كل قوام الصحة والعافية، فهي لهم ملء البطن، ومشتهى النفس، ورغبة العين. . .
إلى هنا يا أخي! حيث درج محمد عبده وسعد زغلول وحمزة فتح الله والسيد المرصفي والسيد القاياتي وإبراهيم الهلباوي ومحمد أبو شادي ومحمد السباعي وطه حسين وأستاذنا الزيات وزكي مبارك وغير أولئك ممن أعرف ومن لا أعرف من رجال مصر في السياسة، وأعلامهم في الرياسة، ونبهائهم في الأدب والفضل والصحافة. . .
إلى هنا يا أخي، فذلك هو الحي اللاتيني كما يسميه الظرفاء من أهل الأدب، والنبهاء من أولاد البلد!
في هذا الحي الذي رأيت، وعلى خطوات من مدخل خان الخليلي الضيق من جهة الحسين يقع مقهى الفيشاوي العتيد، فهو في موضع بعيد عن جلبة السابلة، وضوضاء المركبات، فأحر به أن يكون في غمرة من الهدوء والسكون، ولكن الله ابتلاه بكثرة الباعة، وإلحاح ذوي الحاجة، وصوت النادل الأجش يرفعه عالياً عالياً في المناداة على المطلوب وشرح المطلوب فيكون له دوي وطنين لا يتحمله إلا الذين تعودوه
ومقهى الفيشاوي في روائه آية من آيات الفن القديم، وصورة قوية من الذوق الشرقي الذي يغرق بطبعه في التجميل، ويهول في التزين، ويخلبه البريق واللمعان، فيحمل الصورة فوق ما تطيق من التمويه والتوشية، وكثرة التلافيف والتعاريج، وأنت تستطيع أن تستجلي ذلك كله في تلك المرايا الضخمة الفخمة التي علقت بجدران الفيشاوي وتجاه مدخله بالشارع. . .
ويهدف إلى الفيشاوي كل أدباء مصر بلا استثناء، في فترات قد تبعد وقد تقصر، ويدمن الجلوس فيه طبقة خاصة من مفاليك الأدب، وصعاليك الصحافة، وصرعى الآمال في المشاريع الحرة، والذين عاكستهم الأقدار في نيل الشهادات والفوز بوظائف الحكومة، ومن شطت بهم الدار من الأقطار الشقيقة في طلب الرزق أو طلب المجد، يتلفف هؤلاء حول موائد (الشاي المفتخر) كل مع من يشاكله ويأنس إليه، فيغرقون في الحديث عن أنفسهم، أو يتلهون بالنرد ولعب الورق على تدخين النارجيلة ورشف أكواب الخمر الحلال: أكواب الشاي الأخضر والأحمر والأسود والأبيض الذي يتيه الفيشاوي بصنعه على كل مقاهي القاهرة، وكأني بأدباء الفيشاوي يجدون في هذه الأكواب لذة وغناء عن أكواب بنت الحان. . .
وكثيراً ما ينطلق أدباء الفيشاوي على طبيعتهم، فيتشاجرون بالنادرة ويتضاربون بالنكتة، ويغرقون في المرح إلى أبعد حد، ويرسلون الضحكات عالية قوية كلها سخرية بالحياة، واستهانة بقسوة الدهر، واستخفاف بعبث الأيام ومطالب العيش، فهم يضحكون عن فلسفة ونظر، وكأنهم يقولون: ولماذا يا أخي لا نضحك، وقد تحملنا من الرهق فوق الطاقة، ولقينا من الأقدار ما تنوء به عزائم الرجال؟ فيالها من دنيا لا تستحق إلا الهوان. . .
وأدباء الفيشاوي يتباينون في ثقافتهم، ويختلفون في عقليتهم وإن كانوا جميعاً في نظرتهم إلى الحياة سواء، فتجد فيهم الشيخ الأزهري الذي يرغي ويزبد بالقافات كما يقول حافظ، وفيهم الأديب الظريف الذي يملأ جعبته بنوادر السابقين واللاحقين، وفيهم الصحافي الذي يضيق رأسه بأخبار الملاهي والمسارح ونجوم السينما والمسرح في هوليود وعماد الدين، وفيهم من يضج لسانه بالعجمة ويرتضخ بالعامية وكل ما عنده جملة طيبة من أسماء الأدباء في الشرق والغرب، وهو يحسب أنه رأس المفكرين، ولله في خلقه شئون.
ويجري ذكر الأدب والأدباء في حلقات الفيشاوي، فيذكر من الكتاب العقاد والمازني وطه وهيكل والزيات وأحمد أمين وزكي مبارك وكل كاتب في مصر، ويذكر شوقي وحافظ ومطران وشكري والزين والهراوي والأسمر وكل شاعر حي أو غبر، ويذكر حافظ عوض وعبد القادر حمزة وأنطون الجميل وصاحب الهلال وإخوانهم في الصحافة، ويذكر يوسف وهبي، وجورج أبيض وسليمان نجيب، وعزيز عيد، وفاطمة رشدي، وزينب صدقي، وأمينة رزق، ومن لا أعرف من أهل المسرح، ولكن كل هؤلاء لا يفوزون من أدباء الفيشاوي إلا بابتسامة؛ ولست أدري أهي ابتسامة الرضى والإعجاب أو الهزء والاستخفاف. وعلى كل حال فهم يرون أنه لولا معاكسة الأقدار، وقسوة الحظ لكان أقل شخص في الفيشاوي أكبر من أي شخص من هؤلاء في النثر أو في الشعر أو في الصحافة أو في التمثيل، كل فيما يحاوله ويرغب فيه، وجبراً لخاطر إخواننا في الفيشاوي نلعن ذلك الشيء المدعو بالحظ، قاتل النبوغ، وقابر العبقريات. . .
وللفيشاوي (موسم) يتم له فيه المجد، ويبلغ الغاية من الجلال والكمال، وذلك في رمضان إذ تنشد النفوس الإنابة وحسن الثواب وتطلب السهرات البريئة الطيبة فتستبدل أكواب الشاي بأكواب المعتقة، ومن ثم تجد في حلقات الفيشاوي رجال السياسة والأدب والصحافة في مصر، فتجد لطفي السيد باشا، وهيكل باشا، وحفني محمود، وعبد الرحيم محمود، ونيازي باشا، والصحافي العجوز، وفكري أباظة، ولطفي جمعة؛ وكثيراً من النواب وأساتذة الجامعة وشيوخ الأزهر، كل منهم في حلقة حافلة، يشدون أطراف الحديث طلباً للسمر، واستعانة على السهر، حتى السحور
ثم يأتي العيد، فينفض السامر الحافل، ويعود الوضع إلى مستواه، ولا يبقى للفيشاوي إلا الذين يعكفون عليه من أمثال الشاعر إبراهيم الدباغ والأستاذ عبد العزيز الأسلامبولي صاحب المعرفة، والشيخ سلطان الجهني المحرر بالوفد، والشيخ علي عامر المحرر بالدستور، صديقنا الشيخ البهي المحرر بالمقطم، والشاعر البائس الثائر على نفسه وعلى الناس والأيام عبد الحميد الديب. . .
وعبد الحميد الديب هذا شخصية عجيبة متناقضة، تثير في النفس بمظهرها وبأدبها وبسلوكها كل عواطف الإشفاق والقسوة والألم والضحك. فهو يعجبك بشعره، ولكنه يغضبك بسلوكه. وهو يضحكك بحديثه، ولكنه يؤلمك بمظهره. أشبعته الأقدار قسوة وإرهاقاً وبؤساً، وأشبعها هو استخفافاً واستهانة وزراية. وهو على حاله تلك يعتد بنفسه إلى أبعد حد، ويرفع شعره فوق كل شعر، فشوقي مهما سما في تقديره لا يبلغ شعره في مفرقه، وهو ملازم للفيشاوي لا يريمه في الضحى والأصيل والعشية، وحتى لقد يبيت على كراسيه. ولقد جاء العيد وتفرق إخوانه كل إلى شأنه وبقي هو وحده على أفريز الفيشاوي ينشد:
يا معشر الديب وافي كل مغترب ... إلا غريبكم في مصر ما بانا
قدمتموه الشاة قربانا لعيدكم ... والدهر قدمني للبؤس قربانا
لقد تغير كل شيء في الحياة! ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟! وهاهو ذا معول الهدم يهدد مقهى الفيشاوي بالدمار تنفيذاً لقرار دائرة الأميرة شويكار. فهل يحفل أدباء الفيشاوي بتاريخ ناديهم العتيق وذكرى أيامهم الطيبة فيه كما يعني بذلك أدباء الغرب؟ هيهات!
م. ف. ع