الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 295/إن في ذلك لعبرة

مجلة الرسالة/العدد 295/إن في ذلك لعبرة

مجلة الرسالة - العدد 295
إن في ذلك لعبرة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 02 - 1939


غني فقير. . .!

قد يكون مع بعض الفقر عزاء ورجاء وسكينة؛ ولكن فقر هذا الغني البائس الذي سأقص عليك نبأه ألمٌ لا يهاون، وهمٌّ لا يهادن، وحمَّى لا تُقلع

سأسوق إليك خبر هذا المسكين بقلمي لا بقلمه، فإن الرسالة التي كتبها إليّ كلماتٌ كحسرات النادم لا تتصل، ومقاطع كأنّات المحتضَر لا تبين. على أنني سأحاول ترجمتها لك ترجمة الشعور للشعور، لا ترجمة اللفظ للفظ، لترى كيف يشقى المرء بخطأ نفسه، أكثر مما يشقى بخطأ غيره

قال بعد أن سلم وعظم وشكر:

(قرأت وأنا في وحدتي السامة وعلتي القاتلة ما كتبتَ من مآسي الحياة في الرسالة، فراعني أن يبلغ البؤس ببعض النفوس إلى هذا الحد، وفي أرض الله رزق لا ينضب، وفي يد الناس مال لا ينفد!

ولا أكذِبُ الله لم أفطن إلى معنى الحرمان والإحسان إلا بعد أن نيفت على الستين وأقعدني الكُساح، وسلبني حريتي وثروتي وغبطتي من جعلت حياتي له، ووضعت أملي فيه

أنا أملك ربع مليون من حر المال وخالص الذهب. وكان يخيل إليّ قبل أن ينكشف الغطاء عن العين أني أسبح في بحر أحمر لا أدري أكانت حمرته من الذهب أو من الدم أو من الدمع، فإني كنت مصمت القلب لا يختلج فيه شعور ولا ترف عليه عاطفة. فلما بلغت الشاطئ لأستجم وجدتني على ساحل الحياة، هنا الموت الراصد، وهنا المرض المثْبِت، وهنا الضمير المعذب، وهنا الوارث الحاقد الذي دفنني وأنا أشعر، وورثني وأنا أنظر، وحرمني وأنا أريد. فإذا كان في بؤس الفقراء ما يستدرُّ ماء العيون، فإن في ذل الأغنياء ما يذيب شِغاف الأفئدة!

أتدري كيف جمعت هذا المال يا سيدي؟ جمعته بالسعي الدائب، والتدبير المعجز، والربا الفاحش، والشح الدنيء، والتقتير المهلك؛ ثم أمات الله في نفسي نوازع الأبوة والقرابة والإنسانية فلم تبضّ يدي في سبيل شيء من ذلك، فنما المال واتسع وامتد حتى صرفني عن الناس وشغلني عن العالم. ثم حسبتني بهذا الثراء الضخم أستطيع أن أشتري السعاد والسيادة والإيمان والجنة، فإذا بي وا حسرتاه أملك مفاتيح قارون ولا أملك عصا موسى!

كان رأسمالي جنيهات معدودات ادخرتها من نفقاتي وأنا طالب بالأزهر، فلما عدت إلى بلدي استثمرتها في الربا والتجارة، فكنت أقرض الزراع المأزومين والعمال المعوزين والتواجر والأرامل بربا خمسة قروش في الشهر للجنيه الواحد. ثم اتخذت من فناء بيتي قُنا للدواجن، ومن سطحه مزرعة للبقول؛ فكنت أبيع الدجاج والأرانب من تحته، والفجل والكراث من فوقه؛ وألححت على نفسي بكبت الشهوة وقتل الرغبة إذا اعتدنا على المال، حتى كنت أرى الفاكهة عند الفاكهاني فأتقزز، وابصر اللحم عند القصاب فأهوع، ولكني إذا لمحتهما في يد إنسان تبعتهما نفسي وتحلَّب عليهما فمي. ثم اقتنيت العقار والضياع؛ أكثرها بغلق الرهان وأقلها بالشراء؛ وقمت عليها أحسن القيام بالرعاية والجباية والتوفير حتى غدت غلتها سيلاً لا ينقطع عن الأهراء والخزائن. ثم فرضت نفقة أسرتي من الطعام والإدام على مستأجري المزارع والدكاكين يؤدونها فوق الأجرة يوماً بيوم؛ واقتصرت في غذائي على الأبيضين: الماء والثريد، وفي كسوتي على جلابيب من القطن للبيت والغيط، وبذلة من الصوف للاحتفال والسفر. ثم وقع في نفسي أن حماية هذه الثروة العريضة لا بد لها من لقب (بك) فاشتريته أيام كانوا يبيعون الألقاب، بقبضة من الذهب؛ ثم شيدت قصراً وبنيت دوراً وجعلت في رأسه دائرة، فاتسع النفوذ وامتد السلطان، وصرت آمر ولا أرجو، وأغتصب ولا أختلس. ورأيت الناس يلقونني بالإجلال والهيبة لفخامة اللقب وضخامة الثروة، فازدادت نفسي شراهة ويدي كزازة؛ وأفرط عليّ الغنى فغطى على بصيرتي وبصري، فلم أعرف أن لي ديناً له حرمة، وزوجة لها حق، وأولاداً لهم رعاية؛ وعشت لنفسي بل لمالي، أقضي النهار له، وأسهر الليل عليه، حتى كرهتني أسرتي، وحقرتني عشيرتي، وسئمتني حياتي، وأصبت بمرض عقام برى عظام ساقي وفخذي فلم أستطع المشي ولا النهوض؛ واستولى ولدي البكر على مفاتح الكنوز وأضفى على نفسه وزوجه وأمه وأخواته الذهب والحرير والنعيم والأبهة، وتركوني سطيحة في حجرة منعزلة لا يدخلها علي إلا الخادم بالماء والثريد والقهوة. ولا أدري لماذا استعرت في نفسي اليوم شهوة الأكل ورغبة المتاع؛ فأنا أشتهي كل شيء، وأبتغي كل معنى؛ ثم أنظر في يدي الجماعة الكسوب فإذا هي معروقة كيد المسلول، فارغة كراحة السائل؛ وأدور بعيني في الحجرة الموحشة فأرى أطياف الذين فجعتهم في أموالهم وآمالهم تخفق على الجدران ساهمة حزينة، فأتذكر كم مدين أغرقت، وكم بيت أغلقت، وكم قلب سحقت، فتنهل مدامعي أنهال القطر على خدي الغائر الشاحب؛ وأتمنى لو تعود قدرتي على ثروتي فأمحص خطاياي بإنفاقها كلها في سبيل الله؛ ولكن هيهات هيهات لما أرجو! لم يبق لي منها إلا حريق القلب في الدنيا، وحريق الجسم في الآخرة! حتى الدواء لا أناله؛ وحتى الكفن لا أرجوه! وكأنما أمات الله نصفي الساعي وأبقى على نصفي الشاعر لأدرك بعيني وفكري وخيالي مضَّ الألم الذي يحسه المظلوم يُغتصب ولا يستطيع أن يدفع، والمحروم يتشهى ولا يستطيع أن يجد، والمهموم يتلظى ولا يملك أن يموت.)

ثم يلي ذلك شكوى ضارعة من زوجه الفارك وابنه القاسي وصهره المتعجرف لا تتسع لها الصفحة!

سيدي البك! إن حالك لا تغني فيها دمعة تذرف ولا كلمة تقال. أدع الله معي أن يتغمد خطاياك بالعفو، ويقطع بلاياك بالموت. وإن كنت في حياتك للضعيف شقاء وللأهل حسرة، فإنك في موتك للفقير عزاء وللغني عبرة!

أحمد حسن الزيات