الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 294/عند الثلاثين

مجلة الرسالة/العدد 294/عند الثلاثين

بتاريخ: 20 - 02 - 1939


للأستاذ محمود الخفيف

تَمهَّليِ والْتًفتيِ لَفْتةً ... لا تَذهَليِ عَنْ دَهْرِكِ الرَّاحلِ

لا تَعبْسيِ مَا إن تُرى لَذَّةٌ ... أشْهىِ مِنَ الآمالِ للآمِلِ

عِنْدَ الثلاَّثِينَ قِفيِ ساَعَةً ... وَجَاوِزي الْيَمَّ إِلَى السّاحِلِ

هَذَا هُوَ الماضِي فَماذَا تَرىَ ... عَيناَيَ مِنْ طَيفْ لَهُ مَاثلِ؟

مَطارحُ الأيّام مَبسْوُطةٌ ... كَمْ بَيْنهاَ من أَثَر حَافِلِ!

كَمْ اجْتَلىِ يا نَفْسُ مِنْ صورةٍ ... عَرَفْتُها فيِ عَيْشيَ الزائلِ

كَمْ بَهْجةٍ قَدْ بِتُ يا وَيْلتاَ ... في شُغُلٍ عَنْ ذِكْرهاَ شاغل!

أرَى وَكَمْ يُبْهجُنيِ أَنْ أَرَى ... مَسارحي في قَرْيتيِ الضاحِيةَ

هُناَكَ حَيْثُ الأمن مَمْدُودةُ ... ظَلالُهُ والِبشْرُ وَالعَافَيه

هُناكَ حَيْثُ الحسنُ رَفّافَهٌ ... طُيُوفُهُ للأعْيُنِ اللاّهِيهَ

وَحَيْثُ تَحْلو الأرضُ مَنْضُورَةً ... وَيعْلقُ السِّحْرُ بهاَ خَالِيهْ

وَتُعجبُ الأدْوَاجُ فَيْناَنةً ... وَمَا خَلَتْ مِنْ رَوْعةٍ عَارِيةْ

هُنَاكَ حَيثُ الصَّمتُ أُنشُودَةٌ ... لا تَفتَأُ النَّفسُ بِهاَ شَادِيَه

فيِ جَنَّةٍ عِشتُ زَمَاناً بِهاَ ... يا لَيتَ ليِ أيّامَهاَ ثَانِيَهْ

هَذِى هِيَ السَّرحَةُ في ظِلِّهَا ... أبْنُ ثمَانٍ في الضُّحَى يَلعَبُ

في ثغرِهِ مِنْ بَسَماتِ الرِّضَى ... مِثلُ ابِتسَامِ الزَّهرِ أو أعذَبُ

وَعَينهُ مِنْ لَمَحَاتِ المُنَى ... كَمَا انجَلَى في أفِقِه الكوكب

مِثلُ فَرَاشِ الرَّوْضِ في لَهِوِه ... وَدأبِهِ لَكِنَّهُ أوثَبُ!

دنياه هذى النَّخلُ. فيِ جَانِبٍ ... مِنهَا يُرَى للأعيُنِ المكتُبُ

كمْ رَتلَ الآيَاتِ فيِ مَقعَدٍ ... فِيِه وَكَم بَاهَى بِماَ يَكتُبُ

أجرَتْ له الفُصحَى بِهِ كَوثَراً ... مَعِينُهُ فيِ القَلبُ لا يَنضُبُ

يا ناشِئاً أوْحَتْ لَهُ سِحرَهُ ... شَمسٌ من الفُرقَانِ لا تَغرُبُ

يا لاعِباً لم يَدِر غَيرَ المُنَى ... كَمْ يَطرَبُ القَلبُ لمرأَى صِبَاه كَمْ يَسحَرُ النَّفسَ خَيَالٌ له ... يَنقلُ في تِلك النَّوَاحي خُطاهْ

فيِ عَيشِه الحَالِمِ كَمْ هَزَّهُ ... مِنْ عَالَمِ السِّحْرِ جَمالٌ رآه

أعرِفُهُ! فيِ صَدِرِه خَافِقٌ ... غَضٌّ يَرَى في الرِّيِفِ دُنيا مُناَه

هَاهُوَ ذَا فِي كَوِنِه هاَئِمٌ ... تَغَرقُ في نور الضُّحَى مُقلَتاه

هاهو ذا الكَوُن عَلَى بُعِدِه ... عَن حَاضِرِي، تملأَ عَينِي رؤاه

كَأَنما تَهزِجُ في مسمَعِي ... أصْدَاؤه اليَوْم َويَسِري شَذَاه!

مَغناَي في الرِّيفِ أرَى طَيَفهُ ... في زَحَمِة المَاضِي وفي لُجَّتِهُ

إن ذَهِلَتْ عَيناَيَ عَنْ مَوضِع ... سواهُ لَنْ تَذهَل عَنْ صُورَتِه

هذا الفِناَءُ الرَّحُب لَمْ أنْسَهُ ... والقَلبُ هيمان إِليَ فِتنْتِه

وَهَذِهِ الشُّرفَةُ يَا حُسنَهَا ... يَا حُسنَ شمْس الصُّبْح في جَبهَتِه

الأمْنُ فِيهِ بَاسطٌ ظِلَّهُ ... وَاليُمْنَ وَالإقبَالُ فيِ سَاحَتِه

وَالأهْلُ، والولدانُ من حَوْلَهمِ ... أَرْوَعُ مَا فيِ البَيْتِ مِنْ زِيِنتَه

صَلاتُهُمْ يَزْخَرُ تَسْبيِحُهَا ... بِالحَمْدِ ِلله عَلَى مِنَّتِه. . .

عِشْتُ زَمَاناً حُمَّ النوَىَ ... وَذقتُ طَعْمَ الهَمِّ مِن فرْقَتهِ

في غُرْبِتي كم مَسِّ قَلْبيِ الضَنَى ... وهَاجَ تَحْنَانيِ إِلى رُؤْيَتِه

يَا نَازِحاً عَن أهِلهِ قَلْبُهُ ... يَذُوبُ مِنْ شَوْقٍ إلى جَنَّتِه

يَسْتقبلُ الدَّرسَ عَلَى وامِضٍ ... يَسطَعُ كالكَوكَبُ مِن أمِسِه

مَا كَاَدَ يَخطُو لِلعُلَى خُطوَةَ ... حَتَّى شَأى الأقْرانَ فيِ دَرِسِه

السّبقُ مِن عَادَاتِه، طَعمُهُ، ... أشْهَى مِنَ الشَّهِد إلى نَفسِهِ

خَيَالُهُ المَشبُوبُ يُوحِي لَهُ ... ما يُبهِجُ المُرهَفَ مِن حِسِّهِ

يَلهَجُ بِالشِّعرِ فَفِي رُوحِهِ ... وَحيٌ لَهُ يُصِغي إلى هَمسِهِ

إن ضاَقَ بِالوَحشَةِ طَارَتْ بِهِ ... أجِنحَةٌ مِنهُ إلى أُنسِهِ

أوْكلَّتْ الَّنفْسُ حداها إلى ... ما أنْبَتَ العِرفَانُ من غَرْسِهِ

فيِ حَلبَةِ العِلمِ مَضَ سَابِقاً ... يَسْتقبِلُ الياِفعَ من سِنِّهِ

ما أوْهَنَ الجَهْدُ لَهُ عَزْمَهً ... في سَهلِ ما يَطْوِى وَفِي حَزنِهِ يُسَدِّدُ الحَزْمُ له خَطوَهَ ... وتنطوي الأيَّامُ فيِ يُمِنهِ

يَرْسِمُ آمَالاً عِرَاضاً ولا ... يَدِري من الَّدهرِ مَدَى ضَنَهِ

فِي كُلِّ ما يَقرَأُ مِن سِيرَةٍ ... صَدىً لمِا يَهجِسُ في ظَنِّهِ

فَفِي غَدٍ (سَعدٌ) بهذا الحِمَي ... يَذودُ ذَودَ اللَّيثِ عن رُكِنِه

وتارَةً ذو صَولَةٍ قاَدِرٌ ... يُصَرّفُ الأمرُ عَلَى إِذْنِهِ

أوْ مِدرَةٌ مُقتِدرٌ نَابِه ... الحقُ والقِسطاَسُ في وَزِنِه

أحَبُّ مَا مَنَّى بِهِ نَفسَهُ ... شَادٍ تَغَارُ الطَّيُر مِن لَحِنِهِ

مُقَدّمٌ فيِ قَومِهِ شِاعرٌ ... السِّحرُ والإعجاَزُ فيِ فَنِّهِ!

غَنِّى زماناً بِالمُنى حالماً ... في عُمرِهِ المزدَهِرِ النَّاضِرِ

يبيتُ جَذلاَنَ هني الكَرَى ... مُمَتعَّاً بَاُلْحلمِ الزَّاهِرِ

ماذا دهى قيثاره فاشتكى؟ ... يا ويله من حُبِه الباكِرِ!

طافت بِه من خَمرِ هذا الهوى ... كؤوسهُ. . . يا ويحِ للشَّاعِرِ

تكَشَّفَت دُنيَاهُ عن عالَمِ. . . ... يا قُدسَ هذا العالم السَّاحِرِ

ياَ حَيرَةَ الشِّعرِ لَدَى وَصِفِه ... يا زَحَمةَ الأطياَفِ في الخَاطِرِ!

هذى الرؤى تَرجِعُ رفَّافَةً ... من غَمرَة الماضي إلى ناظِرِي

يَهِدفُ لِلعِشرِينَ في نَفسِهِ ... وَحيُ الذي يخفق في جنبه

مُحَبَّبُ العِشرَةِ في وَجِهِه ... بَشَاشَةُ الوَردِ أليّ صحبه

وفي حنايا صَدرِه رُقيَةٌ ... عن الخنا والهُجرِ مَالتْ بِهِ

يا نَفَحَةَ الخُلدِ لأَنْتِ التي ... أيْقَ ظتِ هذا الطُّهرَ في قَلِبهِ

يَا ومضَةَ الُّروح جَلَبتِ الهُدَى ... وطُفتِ بالنُّورِ على هُدبِه

يَا نَسَمةَ الحُبِّ بِهَذَا الشِّذَى ... الرَّوحُ وَالرَّيْحَانُ مِن رَبِّهِ

في كُلِّ حُسن حَولَهُ لَمحَةٌ ... تُلقِى عَلَيهِ السِّحرَ مِن حُبِّهِ

والكَونُ، ما دارت به عينه ... مُلق معاني الحُبّ في لُبِّهِ

كَمْ عَادَ لَلْقرْيةَ فيِ لَهْفَةٍ ... لِلعَيْشِ في أَكْناَفِهاَ الواسِعَةْ

والصَّيْفُ في أنحائها رَائِعٌ ... بَاتَتَ بهِ أمْسَاؤُهاَ رَائِعةَ هُنَاكَ لاَ يَلْبَثُ حَتَّى يَرىَ ... فَتاَتَهُ بَعْدَ النَّوَى رَاجِعهَ.

هُنَاكَ كَمْ سَارَا على مَوْعِدْ ... وَاّللْيلُ يَغْشَي القَرْيَةَ الهَاجِعَه

فالتقيا لا عَيْنَ تَرْعَاهَمَا ... إِلا عُيوُن الأَنْجُمِ اللاّمِعَة

يَا قُدْسَ هذا الحبَّ في خَلْوَةٍ ... صَلَّتْ بِهَا مُهْجَتُهُ خاشعهَ

في رَوْعَةِ الصُّبْحِ يرى وُحْدَه ... جَبيِنهاَ فيِ شَمْسِهِ الطَّالِعَه

وَيَمْلأ الَّنْفسَ صَدَى صَوْتِهاَ ... والطيرُ في أَفْناَنِهاَ سَاجعه

وَينْطَوِي الصَّيفُ وَأَحلامُهُ ... والوَصْلُ في عيشه الوادِعه

يَا لَيْلَةَ التَّوُديعِ كَمْ لَوْعَةٍ ... هَاجِسَةٍ في نفسِه الجازِعه

يا حَيْرَةَ الأَعْيُنِ في مَوقِفٍ ... تُرَى بِهِ بَاسِمَهً دَامِعَه!

صَحَا عَلى اَلعُيش وَأكلاَفِهِ ... فَساَرَ سَيرَ النَّابِهِ المَاجِدِ

هذا هو الزورَق يَجري بِهِ ... يا رَحَمتَا للزَّورَقَ الجَاهِدِ

ما هذه الدنيا وأوضاعها ... كم ذا يرى مِن طَبِعهاَ الفاسِدِ!

الجاهُ فِيهَا للخنا تَوأَمٌ ... والحظَّ للِلاَّهِي وَلِلقَاعِدِ!

كمْ جَاهِلٍ يَعلُو بِهِ جَهلُه ... فيها وكم من غَاِفلٍ جَامِدِ!

وَالصَّابِرُ الَمكدُودُ يَشَقى بها ... ما أضيَعَ الآمَالَ للِحَاصِدِ

وَكم يَرَى ذو الِبرِّ من جَاحِدٍ ... وذو الحجا والفَضلِ من حَاسِدِ

والناسُ إلا قِلّةً أذوبٌ ... وحَاقدٌ يَنعَى عَلَى حَاقِدِ

مَا ضَرَّهُ من عَيشِهِ ما رَأى ... أو صَدَّهُ عن سَيِرِهِ القاصِدِ

يَحتَقِرُ الدُّنياَ وأوهَامَهاَ ... مِن طَارِفٍ فيها ومِن تِاِلدِ

يَكِيدُ لِلدَّهرِ بِأقدَامِهِ ... فَلَيسَ هذا الدَّهرُ بالكائِد!

مَا هَذِهِ الدُّنياَ لِيَشقَى بِهاَ ... أمَا تُرَى هَازِلَةً لاعِبَهْ؟

وَيلٌ لِمَنْ تَطغَى عَلَى لُبِّه ... بُرُوقُهاَ الكاذِبَةُ الخَالِبَه

يَا أيُّهاَ الباكي على حَظِّهِ ... لا يُرجِعُ الدَّمعُ مُنيٍ ذاهِبَه

عَجِبُت للشَّاكِين أيّامَهُمْ ... ما نَفعُ تِلك العِيِشة الصاخِبة؟

الهَمُّ، والدُّنَيا على حالهِاَ ... غِذاءُ هَذي الأنفُسِ الغاضِبَة حَيَاتُهُم لا يَستَسِيغُونَهاَ ... حَتَّى تُرَى شَاحِبِةً غَارِبَه

يَا عَجباً حِين يَلُوحُ الرَّدى ... تَلمَحُهُ أنفُسُهُمْ هَائِبه!

ابتَسِميِ يا نَفسُ لا تَعبِسي ... لا خَيرَ لَلعَابِسِ مِن دَهرِهِ

الحُرُّ لا يَأسَى عَلَى فَائِتٍ ... والدَّهرُ لا يَقْوى عَلَى قَهْرِهِ

هذا هُوَ الماضِي خُذِي وَحيَهُ ... واسْتَقبِليِ الغَيبَ عَلَى ذِكرِهِ

مَاضِيكِ لا تَذهَبُ أطيَافُهُ ... أو تُطفِئُ الأيَّامُ من بِشرِهِ

باَتَ مِن الأقدَارِ فيِ نَجوَةٍ ... هذا هُوَ المعُجِبُ مِن سِرّهِ

ما غابَ من عيش الفَتَى من أسىً ... لا يُقِدمُ المَرءُ عَلَى نَشرِهِ

أمَّا سَنَا الماضي فيوحي لَهُ ... ما كَرَّتْ الأيَّامُ، مِن نورِه

ما لَذَّةُ العَيشِ إذا ما خلا ... من رَوعِةَ الماضي ومِن سِحر

مَوتٌ من الموتِ بِقَلبِ الفتى ... نِسيَانُهُ السَّالِفَ مِن عُمْرِه

آليتُ لا آسَى عَلَى ذاهِبٍ ... أوْ أذْرِفُ الدَّمعَ عَلَى دَارِس

هواي لن أشقَى بِهِ بَعدَ مَا ... عِشتُ زَمَاناً عِيشَةَ اليائِسِ

سَّيانَ عنِدي بَعدَهُ ما أرى ... من بَاسِمِ الأيامِ والعابِس

لكنني أمِضي إلى غايَتِي ... أحنو على المحزُونِ والبائِس

أصِغي من الماضِي إلى ماثِلٍ ... من طَيِفْهِ في مِسمعِي هَامِسِ

أحيا عَلَى الذِّكرَى حَياَةَ امرِئِ ... ما كانَ من دُنَياهُ بالآيِسِ

إن فَاتَهُ فِيها لذيذُ الجَنَى ... كفاَهُ مِنهاَ لَذَّةُ الغاَرِسِ

عِندَ الثلاثين قفي وَانظرِي ... وَغَازِلِي يا نَفسُ حُلوَ الأمَلْ

مَن لَمْ يُشَمِّرْ للِمعَالَي فَتىً ... هَلْ يَعرِفُ العَزمَ إذا ما اكتَهَلْ؟

العَيْش في الدُّنيا قَليِلٌ فَهَل ... مِن مَوضِعٍ فِيِه لغَيِر الجذَلْ؟

كَم شدَّةٍ يا نفسُ مخبوءة ... وَلَذّةٍ في عَيِشكِ المُقَتَبلْ

لا تَلعَنِي دَهرَكِ أو تحَمِدي ... الدَّهْرُ لا يُسألُ عَمَّا فَعَل

هَّيا إلى الزورَقِ خُوضي بِه ... غِمَارِ هذي اللُّجَجِ القَاذفَهْ

لا تَطرَبي للرِّيح إن سْالمت ... أو تَرْهبي أنواَءهَا القاصِفه السَّبْقُ أن تَجرِي عَلَى ثائِرٍ ... وَالفَخرُ أن تَقتَحِمي العاصفه

الضفَةُ الأخرى إذا ما دنت ... لا تَنِفري مِن قُرْبَها خائفه

الخفيف