الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 294/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 294/رسالة الفن

بتاريخ: 20 - 02 - 1939


بركسيتلس

للدكتور أحمد موسى

كان للانقلاب المدني الذي جلبته حرب البيلوبونيز (431 - 404ق. م) وتطور العقلية والنفسية الإغريقية أثر عظيم في النهوض الفني واتجاهه. ولذلك يمكن اعتبار المدة المحصورة بين نهاية تلك الحرب وبين عصر إسكندر الأكبر (400 - 330ق. م) مدة (الازدهار المتأخر) أو (عصر الرفعة الثاني).

ولا يهم مؤرخ الفن المشتغل بالأركيولوجية الإغريقية أن يتناول في مقال كل ما أحاط بالحياة الإغريقية من سياسية واجتماعية إلى مدنية إلى حياة خاصة بسبب الحرب؛ وإنما يهمه أن يتلمس النتائج التي ترتبت عليها في الآثار الموجودة أو على الأقل بين دفات الكتب الموثوق بقيمتها العلمية كمراجع يعتمد عليها ومصادر أثبت البحث صحة ما جاء فيها.

ولما كان الفن الإغريقي قد اتجه في النحت بعد حرب البيلوبونيز اتجاهاً صادق التعبير عن التغير والمنهج الجديد الذي مال كثيراً وفي وضوح إلى تمثيل الفردية بعد أن كان ممثلاً للجماعات؛ فقد جاء من حيث الجوهر أقوى إفصاحاً عن النظرة الشخصية للفنان.

ولذلك - ولا نبعد عن الصواب - نجد أن التماثيل في مجموعها انتقلت انتقالاً هائلاً من ناحية تعريفها للحياة في صدق ومحاكاتها للطبيعة البشرية في قوة، لما ظهر عليها من حسن التكوين والحركة، كما تمكن الفنان من التعبير عن خوالج النفس، وهذه ناحية لم تكن إلى هذه المرحلة مما يستطاع تمثيله أو محاكاته ولا سيما أن المشاعر النفسية والعوامل التي يتأثر الجسم منها تأثراً يبدو في حركته وينعكس على ملامح الوجه، مما لا يتاح لنحات أن يخرجه إلا بعد وصوله إلى درجة عليا من المقدرة الفنية

فبينما نرى اهتمام الفنان كان قبل هذه الآونة متجهاً نحو تمثيل المقدرة والشجاعة والقوة، نراه في هذه المرحلة أكثر ميلاً نحو صدق المحاكاة ومراعاة التعبير عن النفسيات، والرغبة في التأثير على المشاهد بإشراك حواسه في الاستمتاع والسمو قبل الشعور بالرهبة والتأثر بالعظمة.

وهذا ما انبني عليه تقهقر النحت التذكاري والتجسيم المعماري وتقدم التماثيل المستقلة ذات الفكرة المحدودة. وهكذا ترى انتشار التماثيل الرخامية (لاسيما في اتيكا) واختفاء غيرها من تلك التي كانت تنحت من سن الفيل والذهب، هذا فضلاً عن الكيفية التي سار عليها النحات لإبراز التفاصيل دقيقة وإظهار القدرة في القطع الرائع.

تم هذا على أيدي فنانين مبدعين الذكر منهم ديمتريوس وسيلانيون الأثيني وسكوباس الذي يعد أول نحات إغريقي في القرن الرابع قبل الميلاد. كما يعتبر في مقدمة زعماء المدرسة الأتيكية الحديثة.

بعد هذا التطور وفي وسط هذا المحيط نشأ الفنان العظيم بركسيتلس بن كيفيسودتس الذي ينتمي إلى عائلة أتيكية. وكان أصغر سناً من سكوباس فرأى الكثير قبل البدء، كما أنه أقام معظم سني حياته في أثينا حتى عصر إسكندر الأول، وقد خلدت شهرته كنحات للرخام دون غيره بالرغم من أن له بعض قطع عملها من البرنز

وبدراسة ما تركه هذا النحات الفذ نحصل على قسط وافر من ميزات طابعه الشخصي الذي يتلخص في أنه عنى عناية فائقة ونجح نجاحاً باهراً في التعبير عن الجمال النابض، واختار مادته منه في ربيع الحياة، فمثل الشباب تمثيلاً رائعاً خلاباً وأبرز أسمى صفاته وهي الصبا والزهو والقوة والنشاط وحسن التكوين.

وهذا لا يمنع من وجود بعض القطع التي مثلت ناحية الجد والنضوج، فجمع بين حالتين جعلت منه أستاذاً في تصوير العوامل النفسية دون نزاع. كل هذا بالنظر إلى الدرجة العليا التي وصل إليها في هذا المجال؛ فمن الهدوء إلى الحركة ومن اللين إلى العنف فضلا عن أنه جاء بجديد له قيمته العظمى في دراسة فن النحت، فقد استطاع الجمع بين التكوين الجسماني في وضع ما، وبين ما يلائم هذا الوضع من ملامح ترتسم على الوجه وتنسجم مع تكوين الرأس فكأنه اكسب رؤوس تماثيله حياة اتفقت مع تمثيل الواقع، وانسجمت مع المجموع الإنشائي، فجاءت دليلا على أن الفنان بلغ الذروة في دقة الإخراج من ناحيتيه الفنية والعملية، كما أنه سار بالنحت خطوات واسعة نحو التأنق في التكوين.

أما من حيث الناحية الإنشائية فانه كان واسع الأفق غير محدود الخيال، فأخرج إلى جانب تماثيل الآلهة تماثيل للإنسان (تمثال ديادومينوس وغيره).

ولبركسيتلس ناحية أفرغ فيها حبه وهيامه، تلك هي الناحية التي عبر بها عن جمال أفروديت آلهة الحب، وشباب إيروس إله الحب وابن أفروديت وهو الذي تحدثنا القصة الإغريقية عنه بأنه كان ولداً جميلاً بجناحين أو شاباً يحمل قيثارة أو قوساً، وموسيقى أبولو بن زويس إله النور والغناء والعزف، ونشوة ديونيزوس إله الزراعة والحصاد وزراعة الكرم.

واهم إعماله الباقية وأحسنها تمثال هرمس ابن زويس إله الطبيعة والرعاة ورسول الآلهة (واله التجارة والطرق والرحل واللصوص) والنوم والأحلام. وهو التمثال الذي وجد أثناء أعمال الحفر سنة 1877 ولا يزال محفوظاً بمتحف أوليمبيا.

وقف الإله الشاب عارياً يحمل ذراعه اليسرى المتكئة على جذع شجرة الطفل ديونيزوس (ش2 تمثل نصف التمثال فقط) ويمسك بيمناه عنقود العنب متجهاً به نحو الطفل. والساق اليمنى مستقيمة (هكذا في الأصل الكامل) والوسط محدود بخطوط غاية في الدقة مما تميز به نحت الفنان. والإنشاء المجموعي والوضع الكلي لهذا التمثال كله مليء بالحياة، عظيم بالجانب المتوفر فيه من الجمال، ولا سيما الرأس الدقيق الصنع البديع التكوين. أما الابتسامة الهادئة التي ارتسمت على وجه صاحبه (ش4) فهي من ادق ما شوهد منحوتاً في الرخام.

ولعل تمثاله لإفروديت كينتوس هو أهم وأعظم عمل فني قام به (ش6)، وقد فهم الأقدمون ذلك ونظروا إلى التمثال نظرة تقدير وإعجاب واستمتاع بروعته. تريد أفروديت النزول إلى البحر، فتخلع ملابسها وتلقي بها على آنية الزهر. وقد اتخذ من فكرة الرغبة في الاستحمام والتهيؤ للنزول في الماء موضوعاً للإنشاء الفني الخلاب، فبدا التمثال هائلاً، وظهر الوجه وعليه أثر ابتسامة أقل ما يقال فيها أنها التوفيق الكامل.

ولم يكن أثر يدل على هذه العظمة الفنية إلا الصورة التي رسمت على العملة، إلى جانب تماثيل نقلت عن الأصل، أحسنها التمثال المحفوظ بالفاتيكان (ش4) وآخر محفوظ في ميونيخ فيه بعض التغيير.

وفي إنجلترا رأس أفروديت (ش5) وله تماثيل لأفروديت في لباسها نذكر منها ما عمله لمدينة كوس

وله أربعة تماثيل لإيروس موجود أحدها بالفاتيكان وآخر في نابولي. وتماثيله لأبولو تحاج إلى شرح وإفاظة. وكل ما نبتغيه من هذا المقال ومن غيره أن يلتفت القارئ إلى النحو الذي سار عليه أساطين الفن ومقارنة ذلك بالاتجاه السقيم الذي يتجه نحوه بعض الشباب من المشتغلين بالنحت في هذه الأيام، وهم يعتقدون أنه الاتجاه الصحيح على حين أنها العجز في معناه الكامل.

أحمد موسى