مجلة الرسالة/العدد 293/أعلام الأدب
→ من برجنا العاجي | مجلة الرسالة - العدد 293 أعلام الأدب [[مؤلف:|]] |
الإسلام دين تبشيري ← |
بتاريخ: 13 - 02 - 1939 |
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدى هذه الفصول)
كان هوميروس يخفض الآلهة إلى مراتب الناس فيجعل لهم من الغرائز الدنيا مثل ما للناس، ثم يرفع الناس إلى مراتب الآلهة فيجعل لهم من الفضائل ما ليس ينبغي إلا للآلهة، أو ما ليس يتوفر إلا للآلهة.
وعجيب أن تتخذ آلهة هوميروس مثلها العليا من البشر الذين خلقتهم بأيديها، لأن هوميروس - على ما يبدو في ملاحمه - لا يرى الحياة الدائبة النشيطة المفعمة بالغرائز المتضاربة، إلا في محيطها المرئي المعترف به الذي يتكون منا نحن البشر. . . ولكي تتم الصورة الشعرية التي هي روح ملاحمه، والتي تفوّق بها على ضريبه هسيود، تراه يلجأ إلى الأساطير يلون بها فصوله، وليثير بغرابتها اشتياق سامعيه، وليجدد فيهم الحماسة التي هي أولى غايات الملاحم. لذلك تراه يعقد مجالس الآلهة للتشاور فيما ينبغي أن تكون الوسيلة لنصرة فلان أو لخذلان فلان، فإذا اجتمع شمل الأولمب فلا بأس أن تثور الحفائظ بين أرباب وأرباب وبين ربات وربات، ولا بأس أن يُعيّر أحد الآلهة فلكان إله النار بما وقع بين زوجه فينوس وبين مارس إله الحرب من خطيئة وفسوق. . . ولا بأس أن يدس هرمز أنفه في الموضوع فيصرح أن مارس معذور جد معذور فيما حدث له من الصبوة إلى فينوس، وأنه أول من يشتهي أن يكون الذي وقع لمارس كان قد وقع له. . .
وليس يرى هوميروس بأساً في أن ينزل الآلهة في معمعان الحرب ينافحون عن الأبطال الذين ينتمون إليهم. . . ففي الكتاب العشرين من الإلياذة يستأذن الآلهة سيد الأولمب فينقسمون فريقين، فتكون هيرا ومينرفا وهرمز وفلكان في صفوف الإغريق، وينحاز أبولو ومارس وديانا وفينوس إلى صفوف الطرواديين. . . فإذا ثار النقع، واضطرمت الحرب، والتقى أخيل وهكتور (الكتاب العشرين) وقعقعا بالسلاح، وأوشك هكتور أن يظفر ببطل أبطال اليونان عندما يسقط رمحه. . . تتقدم مينرفا فجأة وعلى عجل فتأخذ الرمح من فوق الأرض وتناوله لأخيل فتنقذه من قتلة لم يكن فيها شك ولا عنها متحول. . . وهي تفعل مثل ذلك في الكتاب الثاني والعشرين فتنقذ أخيل وتمهد له بذلك فيقتل هيكتور. . . ومع أن مينرفا هي ربة الحكمة في الميثولوجيا اليونانية فهوميروس في هذا الموقف ينحط بها إلى أسفل مراتب الإنسان لأنها تكون سبباً في قتل رجل عظيم مثل هكتور يدافع عن وطنه ويذود عن حمى بلاده. . . وهي لا تتسبب في قتله فقط بل تحرمه فرصة نادرة أوشك أن يبطش فيها بأخيل.
وليتها فعلت كما صنع نبتيون في الكتاب العشرين حينما أنقذ إينياس من رمح أخيل مرتين حتى لا يغضب زيوس كبير الآلهة على بطل الإغريق.
هوميروس يزخرف الإلياذة بمثل تلك الأساطير ليقطع تسلسل المعارك، وليتقي سأم السامعين، وليجدد حماستهم، وهو في ذلك أستاذ أرباب المسرح من أمثال شكسبير وموليير. . . وهو لا تعييه الحيلة في اختراع ما يخفف وطأة الحزن إذا استعرت نيرانه في قلوب الناس حوله، فلا بأس عنده إذن من أن يترك جدث بتروكلوس ويقيم حفلاً أولمبياً للألعاب يشترك فيه أبطال الحرب فينافس بعضهم بعضاً فيتسابقون ويتلاكمون ويصطرعون ويقذفون القرص ويرمون الطوق ويحملون الأثقال ويسابقون على الخيل. . . وتكون حفلة باهرة كأحسن ما شهد العالم الحديث في أولمبياد برلين. . . ثم ينهض أخيل المحزون المرزّأ، في إثر كل مباراة، فيوزع الجوائز السنية على الفائزين (الكتاب الثالث والعشرين).
وقارئ الإلياذة يتولاه العجب وتأخذه الدهشة لبراعة هوميروس الأعمى في الوصف. . . فكأس نسطور في الكتاب الحادي عشر، ودرع هكتور في الكتاب السادس، والنقوش الأخاذة التي حفرت في درع أخيل، والستر الأزرق الجميل في قصر ألكينوس، وشروق الشمس وغروبها، وتكاثف الضباب، والنقع المثار فوق المعمعة. . . كل هذه آيات من الوصف الدقيق الذي يشهد لهوميروس بملكة فنية قوية تتجلى في أكثر أنحاء منظومته، وتربك المترجم خاصة حتى يستعصي عليه أن يساير هوميروس، ملك الشعراء، الذي تراه فيما ينظم مصوراً ورساماً وقائد جيوش وإلهاً وسحاباً وبرقاً ورعداً وحداداً. . ثم جزاراً وشواءً. . . ثم راهباً وواعظاً وما شئت من فنون الحياة التي لا حصر لها. . .
لقد يتهم الإنسان لغته وهو يترجم هوميروس. . . فهو لا يدري كيف ينقل كلامه وهو يصف الرجل يتل الشاة ثم يذبحها ثم يسلخها ثم (يوضّبها!) ثم يشعل النار ثم يؤججها ثم ينثر فيها من أعواد الند والرند والصندل ثم يلقي فيها بالقراميد ثم يقطع اللحم ثم ينتشر القُتار (رائحة اللحم المشوي). . . ثم. . . ثم. . .
حقاً إن في كتب فقه اللغة ما يعين المترجم على كل هذا، لكن المترجم يغازل الذوق العام للقراء وهو ينقل آثار الأعاجم، وهو إذا قسا على هذا الذوق أعرض عنه، ولم يلتفت إليه، وذوق القراء عندنا ذوق كسول لا يجب أن يُرهق بما حُشد في كتب فقه اللغة، لأن أكثر ما في هذه الكتب حوشي وقد هجر استعماله، والمترجم لا يستعمله إلا إذا ضاقت به الحيل، ولم يستطع أن ينحت من الكلمات الحديثة السائغة ما ينزل برداً وسلاماً على القراء.
وبعد فأي الملحمتين أثرت في نهضة الأدب المسرحي اليوناني أكثر من الأخرى، الإلياذة، أم الأوديسة؟
لقد أشرنا إلى ما قيل من أن هوميروس قد نظم الإلياذة للرجل، كما نظم الأوديسة للمرأة. الإلياذة التي تفيض بذكر الحروب ووصف المعامع ومقادير الأبطال في أولئك جميعاً، والأوديسة التي هي قضية زوجة وفية غاب عنها زوجها حتى ظن أنه غير آيب وحتى طمع فيها كل طامع، لأنها تفردت بين نساء زمانها بالحسن الذي لا يغيره مرور الأيام ولا ينال منه تطاول الزمان.
نظم هوميروس الإلياذة لتكون مثالاً للرجال يحتذونه. . . إذ ينبغي أن يكون الرجال شجعاناً. ينبغي أن تثور فيهم النخوة إذا تعرض رجل نذل مثل باريس لامرأة أحد منهم بسوء فيقوموا كرجل واحد ويجتمعوا من كل حدب وصوب ليردعوا من نالهم بالأذى في أعراضهم، ولو شبوها ضراماً، وَصَلَوْها أعواماً. . .
ونظم هوميروس الأوديسة للنساء مثالاً رائعاً من الوفاء يحتذينه. . . إذ ينبغي أن يكون النساء وفيات لأزواجهن فلا يفرطن في أعراضهن، ولا يستسلمن للمقادير إذا عارضت شرفهن. لقد غاب أودسيوس زمناً طويلاً، واجتمع عشاق بنلوب في قصره يراودون زوجه ويأكلون زاده ويهينون ولده، ومع ذلك فلم تضعف بنلوب، بل احتالت للطاغين العتاة، وصابرت، وضربت بعضهم ببعض حتى آب زوجها فحصد شوكتهم واستأصل شأفتهم.
فالإلياذة خشنة كخشونة الرجال، والأوديسة لطيفة رقيقة فيها كثير جداً من رقة النساء. . . وهي رقة جعلت صمويل بطلر الأديب الإنجليزي العظيم يؤمن بأن هوميروس لم ينظم الأوديسة ولم يعرفها ولا تمت إليه بسبب، وبأنها من نظم فتاة من جزيرة صقلية استطاعت أن تدرس هوميروس والميثولوجيا اليونانية دراسة هادئة ثم فرغت لنظم الأوديسة فأتمت عملها في سهولة وفي يسر، وأخرجت هذه الدرة الفريدة التي تسمو في كثير من فصولها إلى ذروة الإلياذة.
لشد ما يدهش المرء لهذه الفكرة الغريبة التي قذف بها منطق بطلر! إن كثيراً من القرائن يؤيد هذا الرأي، بيد أننا لا نميل كثيراً إلى الأخذ به لأن الأخذ به شرود خطير مبالغ فيه عن حيز الأدب اليوناني القديم، وقليل من الاستقراء في المآسي التي ألفت بعد هوميروس تهدم رأي بطلر وآراء الذين تشككوا في صحة نسبة الأوديسة إلى هوميروس، فثلاثية إسخيلوس (الأورستية) مثلاً والتي تتركب من مآسيه أجاممنون وحاملات الكئوس والأيومينيدز قد أشير إليها في الأوديسة (الكتاب الحادي عشر) إذ يقص أوديسيوس على ألكينوس الملك رحلته إلى هيدز (الدار الآخرة) وما تحدث إليه به الكاهن تيرزياس عن أوبة أجاممنون، وما حدث له من الغيلة على يدي زوجته كليتمنسترا وعشيقها إيجستوس ثم ما كان من ثأر الفتى أودست لأبيه وقتله أمه. . . الخ.
فهذه الثلاثية التي أخذها إسخيلوس من الأوديسة وقدمها للمسرح تنقض وحدها دعوى الأديب بطلر، لأن الفتاة الصقلية التي يزعم أنها نظمت الأوديسة لم تكن قد وجدت بعد.
وقد جاء سوفوكلس فوضع مسرحيات كثيرة معظمها مفقود بكل أسف متخذاً موضوعاتها من صميم الأوديسة، ومما وصل إلينا من أسمائها تلك المسرحية الجميلة المسماة نوزيكا، وقد أخذ فكرتها من الكتاب السادس، وهي المسرحية التي يُروى أن سوفوكلس نفسه قد قام فيها بتمثيل دور الفتاة نوزيكا ابنة الملك ألكينوس حينما ذهبت إلى شاطئ البحر في سرب من وصيفاتها لغسل أثواب عرسها وتنشرها في الشمس فوق أغصان أشجار الغابة التي كان أوديسيوس مختبئاً فيها بعد نجاته من الغرق.
وهناك أدلة كثيرة تهدم ما رآه بطلر خطأ في نسبة الأوديسة إلى مؤلف غير هوميروس ولم أعثر في الكتب التي درست فيها ملك الشعراء من يوافق الأديب الإنجليزي على وجهة نظره هذه.
والذي يقرأ مآسي اليونانيين القديمة يلاحظ أن الشعراء قد عنوا بالإلياذة أكثر مما عنوا بالأوديسة، فأخذوا من الأولى أضعاف ما أخذوا من الثانية. وقد لا يكون بعيداً أن إسخيلوس قد أخذ من الإلياذة ستين مأساة على أقل تقدير من الثمانين التي ألفها والتي قال فيها إنها فتات من موائد هوميروس الغنية. . . وكذلك أخذ سوفوكلس مادة مآسيه في أكثر ما وضع للمسرح.
والإلياذة حقيقة بهذا الالتفات من شعراء اليونان، فهي النهر العظيم الجياش المتدفق الذي تفرعت منه الأوديسة والإلياذة الصغيرة والإلياذت الكثيرة التي ألفها شعراء القرن الثالث قبل الميلاد في كل من أثينا والإسكندرية، والتي لا نستطيع هنا أن نحصرها، بل أن نتكلم عنها.
وليس من شك في أن شخصية أخيل هي أبرع شخصيات الإلياذة. ولا غرو، فقد سمى هوميروس إلياذته (قصيدة غضب أخيل!!). وروح أخيل هي كهرباء الحماسة في الإلياذة من أولها إلى آخرها.
أنظر إليه وقد ذهبت به أمه إلى نهر الخلود تغطه فيه حتى لا ينفذ في جسمه رمح ولا سهم من رماح الحرب أو سهامها لأن لماء هذا النهر ذاك الفعل العجيب! وانظر إليه كيف يبتل جسمه كله ما عدا عقبه. . . ثم يكبر أخيل ويشب ويصبح بطل أبطال اليونان، ثم تكون حروب طروادة فيمضي إليها بخيله ورجاله، ويقتل الأبطال الصناديد، ثم يصوب إليه باريس سهماً من سهامه يقر في العقب التي تبتل بماء نهر الخلود فيكون فيه حتفه!
وانظر إليه يختلف، وأجاممنون من أجل الجارية بريسيز التي هويها أخيل وعلقها قلبه فيرفض أن يغشى المعركة، ويعتزلها وجنوده الميرميدون، فتدور بذلك الدائرة على جيوش اليونان ولا يغنيها أن يكون في صفوفها الأبطال المغاوير أودسيوس وأجاكس وديوميدز ومن إليهم. . . وأنظر إليه يكلمه بتروكلوس في نصرة بني جلدته حين يعز عليه أن يصطلمهم أبطال طروادة فيأذن له، ويضفي عليه درعه العظيمة التي ذهبت أمه فصنعتها له عند فلكان الحداد. . . ويذهب بتروكلوس فيكسر شوكة الطرواديين ويصيبهم القرح على يديه وأيدي الميرميدون جنود أخيل.
وانظر إلى أجاممنون يعتذر إليه ويرد عليه بريسيز ويقسم له أنه لم يطمثها ولم يمسسها بسوء. وانظر إلى أخيل لا يفيء ولا يلين ولا ينهض لحرب الطرواديين، فيغضب الآلهة ويسخط أرباب الأولمب ويخرق الشرائع وقوانين الأخلاق، فتكون النتيجة أن يُقتل بتروكلوس الحبيب العزيز.
وانظر إلى أخيل كيف تسود الدنيا في عينيه حزناً على بتروكلوس فيمضي إلى المعمعة فيصرع أبطال طروادة ويجول فيها ويصول ويزأر ويزمجر ويطويها كالعاصفة. . . ثم انظر إليه يظفر بهكتور قاتل بتروكلوس فيصرعه ويجره خلف عربته ويدور حول طروادة غير موقر قدس الموت ولا حافل بتقاليد السماء.
ثم قف عند أروع مناظر الإلياذة جميعاً: بريام الحزين! والد هكتور! هذا الرجل المحطم يمضي وحده إلى أخيل باكياً ضارعاً متوسلاً، يرجو الرجل الذي قتل أولاده في أن يدع له جثمان هكتور ليشفى بالبكاء عليه جوى نفسه، وليطفئ بتحريقه السعير المضطرم بين جوانحه، فيعصف الحزن بأخيل العظيم، ويعانق الرجل العظيم، ويتبادلان البكاء، ثم يأذن له ببدن ولده. . .
هنا نبل هوميروس، وهنا إنسانيته وسموه، وهنا فرق ما بينه وبين قصاصينا الذين يشتركون مع سامعيهم في السخط على بطل الناحية الثانية.
دريني خشبة