مجلة الرسالة/العدد 292/دعيني أنام!
→ من ذكريات لندن | مجلة الرسالة - العدد 292 دعيني أنام! [[مؤلف:|]] |
أسطورة. . .! ← |
بتاريخ: 06 - 02 - 1939 |
للأستاذ محمد سعيد العريان
دعيني أنام!
إن عينيّ لم تذوقا طعم الكرى منذ بعيد!
سنوات وسنوات، وأنا دائب السًري في هذه الطريق أفتش عن نفسي فلا أجد نفسي، وأنشد سعادتي فلا أجد إلا شِقْوة النفس وظمأ الروح وقلق الضمير! والطريق لا تنتهي إلى غاية، والعثرات تتكاءد السالك في كل منعرج وكل ثنية!
دعيني أنام!
فهل رأيت السعادة إلا حلماً هنيئاً يتخايل للنفس في لحظة ناعسةٍ ضرب النومُ على آذانها في ليلٍ مطبق؟
ما أجمل هذه الفراشة تتواثب في مطارفها الموشَّاة على أعين الناس! ولكن هيهات أن تنالها يد! كم جهدت جهدي في اللحاق بها فما بلغتْ. . .!
دعيني أنام! لعلي أن أنالها في سِنةٍ حالمةٍ تبلغ بي مالا مَبلغ إليه في يقظة الحياة!
دعيني، دعيني. . .! إنني وجدت نفسي هنا، وطالما نشدت نفسي فما وجدتها. . .!
إن بي حنيناً إلى هذا الفراش الدافئ بعد طول السُري وجهد السهر وكدّ الطريق!
افتحي عينيك يا عزيزتي على حقائق هذا الوجود ثم خبِّرني. . . ذكِّريني ما كان من ماضيَّ، فقد أَنسانيه ما ترادف عليّ من أحداث الزمان!
هل تذكرين يا عزيزتي تلك الأيام البعيدة، يوم كنا وليس لنا ماضٍ نأسَى عليه، ولا مستقبلٌ نتطلّع إليه، والدنيا تدور بالناس في حلقتها المفرغة وتدور بنا، فما يعنينا شيء من الدنيا ومن الناس، وما نشعر من الزمان إلا باليوم الذي نعيش فيه، هو كلٌّ تاريخنا في الحياة لا ماضيَ لَه ولا آت. . .؟
ذلك زمان كان فما له من معاد!
مَن كنتُ أنا عند الناس يومئذ ومن كنت؟
هل كنا يومئذ إلا فتاة وفتى قد ألفّ الحبّ بين قلبيهما! فما يُريان في الطريق إلا ذراعاً إلى ذراع، وخطوة إلى خطوة، وقلباً يعطف على قلب، وروحاً تهفو إلى روح، وعلى الشفاه همسات تُخافت بها، وفي العيون نظرات تتناجى. والناس تنظر إلينا فما يهمنا شيء من نظرات الناس ولا من حديث الناس؛ لأننا كنا يومئذ نعيش في أنفسنا بعيدين عن دنيا الناس. . .
هل تذكرين. . .؟
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة. . . وكنا صغيرين. . .!
وجلسنا ذات يوم في حديقة على الشاطئ. . . وكانت يدك بين يديّ وقد أطرق كلانا، وتراءى لنا في لحظةُ حلم رائع سعيد تجاوز بنا الزمان والمكان إلى حيث لم يكن لنا عهد، يظلنا سقف واحد في دويرة تجمعنا وتجمع لنا ما تفرق من أحلام الشباب. . . وظلت في إطراقك وظللتُ، نتناجى ونتبادل الأفكار صامتين؛ فما كانت بي حاجة لأحدِّثك عما في نفسي ولا كانت بك حاجة؛ وتفاهمنا على صمت. . . ونظرتُ في عينيك ونظرتِ، فتضرُّمَتْ وجنتاكِ من حياء، وأحسستُ يدك تختلج بين يديّ. . .
ونهضنا صامتين فأوصلتك إلى دارك وعدتُ وحيداً إلى داري وأنا أفكر. . .
وعرفنا من يؤمئذ أن غداً هو يومٌ من عمر الزمان؛ وما كان يعنينا قبلٌ إلا حاضرنا الذي ننعم به. . .
أما زلت تذكرين يا عزيزتي؟
ولما ضٌرب الحجاب بيننا وقامت دونه التقاليد، تلفت القلب ينظر؛ ولزمت الوحدة أياماً أعرض ذكريات الماضي ولهفت الحاضر وأمل المستقبل فعرفت. . .
. . . عرفت يومئذ أن حقيقة الزمان ليست هي في هذا الحاضر، ولا في الغد المنتظر؛ ولكنها في اليوم الذي مضى ولا سبيل إليه. . . أمس!
حينما يكون معنى الزمان في نفس الحي هو اليوم الذي يعيش فيه وحسب، فهو في حقيقة الحياة ومعنى السعادة؛ فإذا سولت لها الأمانيّ أن يتعجّل أيامه فيتطلّع إلى ما قد يكون في غد، فقد آذنته الدنيا بيوم يٌطْرد فيه من جنة السعادة نادماً أسوان. . . ثم لا تكون إلا الثالثة، حين يتذكر أن له ماضيا كان وطواه الزمن؛ فما هو يومئذ حيٌّ يعيش في حاضره، ولا آملٌ يفكر في مستقبله؛ ولكنه ذكرى بلا رجاء، ولهفة مالها انقضاء!
الحاضر هو الحقيقة، هو السعادة، هو الحياة؛ وما الغد إلا وهمٌ يدعمه خيال الحيّ ليفر إليه من حاضره الذي هو به حيٌّ يسعد بالحياة؛ وما الأمس إلا الجزء الذي مات منا وسبقنا إلى الفناء!
ولكن الزمان على ذلك هو أمس، واليوم، والغد جميعاً: هذه الثلاثة هي حياة الحيّ وعمر الزمان؛ لا سبيل إلى تجاهل ذلك بعد عرفانه!
ليتني لم أعلم! ليتني لم أعلم!
لتني ظللت حياتي أجهل معنى الزمان؛ لا أفكر فيما كان، ولا أتوقع ما يكون، ولا أعرف من عمر الزمان إلا اللحظة التي أعيش فيها!
. . . وتلاقينا مرة على ميعاد. . . هل تذكرين يا عزيزتي؟. . . وجلستُ أقرأ لك فصلاً من كتاب كان معي؛ فتندّت عيناك بالدمع!. . . إنني ما أزال أذكر ذلك كأنه أمس، على أن بيني وبينه عشر سنين!. . . لقد قلتِ لي يومئذٍ كلمة ما زال صداها يرنّ في أذني:
(يا عزيزي! ليس في البشرية كلها من يقدر على خلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها غير الأديب البليغ!)
وقلتِ كلاما آخر لا أذكره، ولكن أثره ما زال يعمل في نفسي؛ فجهدت جهدي لأخلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها. . . ولم أذق طعم الكرى من يومئذٍ. . .!
ليت شعري، هل جاءك - وبيني وبينك حجاب التقاليد - نبأ ما كنت أبذل من أعصابي ومن دمي في سبيل هذه الغاية حرصاً على أن أكون يوم اللقاء كما تريدين أن أكون؟
يا ليت يا عزيزتي، يا ليت!
عشر سنين من عمر الشباب وأنا أُخرج للناس كل يوم جديداً في الأدب، إلا يكن من إلهامك فإنه بسبيل إلى تحقيق أملك!
يترادف الليل والنهار، وتتعاقب الظلمة والنور، وأنا عاكف على دفاتري وأوراقي، أكتب وأفكر جاهداً لأخلق المعجزة التي تهزّ النفس من أعماقها. . .!
تُرى هل بَلَغْت؟
هأنذا على شَرفٍ من الأرض في طريق لا حب، وثمة بارقةٌ تلوح من بعيد. . .
وما تزال الفَراشة الجميلة تتواثب في مطارفها الْموَشَّاة، لا تنالها يدي على طول السُّرَي وجهد السَّهَر وكدِّ الطريق. . حَتَّامَ المسير؟ من أنا اليوم عند الناس ومن أنت؟. .
هانحن أولاء التقينا منذ عام يظلّنا سقف واحد في دويرة تجمعنا وتجمع لنا ما تفرق من أحلام الشباب؛ ووجدنا تعبير رؤيانا. ولكن. . . أين أنا؟ وأين أنت؟
ماذا أجدى عليّ هذا الجهد المتواصل عشر سنين أبتذل شبابي وأنفق من دمي في سبيل المجد والشهرة والصيت البعيد!
المجد؟ الشهرة؟ الصوت المسموع؟. . . ما كل أولئك يا عزيزتي في حقيقة الحياة وفي دنيا الناس؟
وا خسارة الصفقة! إن الفراشة الجميلة لا يجتذبها شيء من كل أولئك إنها جميعاً أوهام وأباطيل ليست من السعادة ولا هي سبيلاً إلى السعادة
أين مني نفسي وأين أنتِ مني؟
لقد التقينا يا عزيزتي كما تراءى لنا في أحلام الشباب منذ بضع عشرة سنة، ولكنني لستُ هنا، ولكنكِ لستِ هنا. . .!
إنك أنتِ التي أغريتني بسلوك هذا السبيل منذ سنوات وسنوات فنذرتُ نفسي للفن حتى أبلغ إعجابك، فلا تسأليني بعدُ عن نفسي!
هذا العبوس في وجهك يا عزيزتي ألمٌ إلى آلامٍ على كاهلي. .
حدثيني صريحة: لماذا أنتِ غضبانة؟
أنت تريدينني كما كنتُ منذ بضعة عشرة سنة: فتىً لفتاة لا يشعر شعورَ الحيّ إلا معها؟
أنت تدْعينني لرحلة من مثل ما كان في سالف الأيام ذراعاً إلى ذراع على الطريق؟
أنت تسألينني: متى أراك إلى جانبي كعهد مضى لا يعنيكَ من أمر شيء إلا أن تكون لي وأكون. . .؟
وأنت إلى كل أولئك تريدين لي المجد والشهرة والصيت البعيد؟
لقد أذكرْتِني ما كان من أمري وأمرك يا عزيزتي، وأيقظتِ في نفسي ما كان راقداً من زمان؛ وهجتني إلى ذكرى اللهو والهوى والصبابة وسعادة الحب في سالف الأيام، حين لم يكن في الدنيا غيري وغيرك، ولم يكن الزمان إلا اللحظة التي نعيش فيها لا ماضيَ له ولا آت! ما كان أسعدني بهذا الماضي!
فماذا أجد عليّ ما نلت من دنياي بعد هذا الجهد؟
هاهنا شيء وشيء. فمنذا يهديني بينهما سبيل الرشاد؟
دعيني أنام!
إن عينيّ لم تذوقا طعم الكرى منذ سنوات وسنوات. . .
دعيني دعيني. . . إنني وجدت نفسي هنا. . .!
ما المجد، والشهرة، والصوت المسموع، إلا وهم من الوهم وحيلة من الحيلة لتفسد على السعيد دنياه!
لا تَدْعيني يا عزيزتي بعدُ إلى الجهاد والعمل. إن بي حنيناً إلى الفراش الدافئ بعد طول السري وجهد السهر وكدّ الطريق. . .!
دعيني أنام لعلي أبلغ من السعادة في سِنةٍ حالمةٍ ما لا مبلغ إليه في يقظة الحياة!
بل دعيني يا عزيزتي أستيقظ من ذلك الحُلْم الطويل الذي ضرب على عينيّ بضع عشرة سنة أهذي باسم الفن والأدب والشهرة والجاه والصيت
هذه هي الحياة، هذه هي الدنيا، كل ما عدا ذلك خداع وتلبيس ووهم من الأوهام!
دعيني، دعيني!
(شبرا)
محمد سعيد العريان