مجلة الرسالة/العدد 292/دراسات في الأدب
→ أسطورة. . .! | مجلة الرسالة - العدد 292 دراسات في الأدب [[مؤلف:|]] |
استطلاع صحفي ← |
بتاريخ: 06 - 02 - 1939 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
موضوع الأدب
الإنسان إما أن يبين عن حقائق خارجة عن نفسه لا يصلها بخياله ولا يصبغها بعاطفته، وإما أن يعّبر عن حقائق امتزج بها الخيال ولَّونتها العاطفة، أو عن خيالات مخترعة ليست صورة من حقائق العالم
إذا قال الجغرافي في وصف أرض: فيها أدوية عميقة بين جبال عالية، فقد أبان عن حقيقة رآها أو سمعها؛ لم يصلها بالعاطفة فيبيّن إعجابه بها أو خوفه منها أو انبساطه أو انقباضه لمرآها أو ما تخيله حين شاهدها
وإذا قال كاتب في وصف هذه الأرض: (تهولك بها أدوية عميقة تطلّ عليها جبال شامخة عاتية يحلق الطرف دون ذراها).
فقد أبان عن الحقيقة مشوبة بما شعر هو به من رهبة وما تخيّل من إطلال الجبال على الأدوية وتحليق البصر دون قممها
وكذلك يقول الجغرافي: (صحراء منبسطة مستوية طرقها متشابهة، شديدة الحر، كثيرة الرياح) فينقل إلى السامع صورة الصحراء لم تغيرها عاطفته، ولم يزد عليها خياله
ويقول الشاعر في وصف هذه الصحراء:
ومَجٌهل كاطِّراد السيف محتجز ... عن الإدلاّء مسجور الصياخيد
تمشي الرياح به حسري مولَّهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
موقف المتن لا تمضي السبيل به ... إلا التخلل ريثا بعد تجهيد
فتراه قد أفاض على الصورة الطبيعية ألواناً من شعوره وتخيله
وانظر الفرق بين فلكيّ يتكلم عن الشمس طلوعِها وغروبها ودورتها السنوية، وعن القمر ومنازله، والنجوم وحبكها؛ يصف الحقيقة كما هي على قدر إدراكه، وبين من يقول - مثلا -:
منع البقاَء تقلبُ الشمس ... وطلوُعها من حيث لا تمسي
وطلوُعها حمراَء صافية ... وغروبها صفراء كالو وقول الآخر:
مخبأة أمَّا إذا الليل جَنّها ... فتخفى وأما بالنهار فتظهر
وقد انشقَّ عنها ساطع الفجر فانجلى ... دجى الليل وإنجاب الحجاب المستّر
والْبِس عُرض الأفق لوناً كأنه ... على الأفق الشرقيّ ثوب معصفر. الخ
وقول ابن الرومي:
إذا رنْقت شمسُ الأصيل ونفَّضت ... على الأفق الغربيّ ورسا مُذعذَعا
وودْعت الدنيا لتقضيَ نحبها ... وشول باقي عمرها وتشعشعا
ولاحظت النُّوار وهي مريضة ... وقد وضعت خدَّا على الأرض اضرعا. الخ
الفلكي يصف حوادث لا صلة لها بقلب الإنسان وخياله. والشعراء يصفون شعر الإنسان بفنائه على مر الزمان، ويتخيلون في طلوع الشمس وغروبها صوراً تخلع على الشمس شعور الإنسان وعاطفته.
تمثل نفسك تقرأ نظرية هندسية أو معادلة جبرية ثم تمثلها تقرأ قصيدة لشاعر نابغة أو خطبة لخطيب عظيم؛ إنك حين تقرأ الهندسة أو الجبر لا تفرح ولا تحزن، ولا تغضب ولا ترضى، ولا تخاف ولا تأمن، ولا تضحك ولا تبكي. ولكنك حين تقرأ القصيدة أو الخطبة لا تخلو نفسك من بعض هذه المعاني أو ما يشبهما.
وإذا قال طبيب: (إن مرض كذا منتشر في كل بلد) فهذا خبر لا يعبر عن شيء من عوطف الطبيب بل يخبر عما هو كائن، ولكن أبا العلاء المعري حين قال:
ما خص مصراً وبأوحدها ... بل كائن في كل أرض وبأ
أنبأنا اللب بلقيا الردى ... فالغوث من صحة ذاك النبأ
أراد أن يبين عما يحيط بالإنسان من الآفات ويعرب عن خوف الإنسان وحزنه في هذه الحياة، وإنما ذكر عموم الوباء وسيلة إلى الإبانة عن آلامه ومخاوفه
وهكذا يستطيع الناظر في هذا الموضوع أن يوالي الأمثلة في غير عسر.
كل ما أبان عن عاطفة أو خيال صلح أن يكون موضوع للأدب؛ وهو مادة الأديب يؤلف منها أدبه. ولكن من هذا البيان ما هو شائع بين الناس يشترك فيه الخاصة والعامة والصغار والكبار، فهذا لا يعد في الأدب وإن اتصل بالعاطفة والخيال؛ فلابد من سمو الإدراك، وجودة التصوير. لابد من الصنعة أو الفن.
لا يعد الإنسان مصوراً حتى يجيد التصوير، ولا يعد نجاراً كل من نجر خشبة أو دق مسماراً بل لابد أن تكون له صنعة لا يستطيعها كل من حاولها. كذلك ليس كل من عبّر عن عاطفة أديباً. لا! حتى يكون في بيانه إدراك يرفعه عن العامية ولابتذال، وصنعة تميزه عن الدهماء وتميزه باسم الكاتب أو الشاعر أو الخطيب الخ - حتى يأتي بكلام معجب يحس فيه سامعه أو قارئه إدراكاً قيماً، وتصويراً بارعاً كما تُرى صنعة نجار فيُعرف أنها عمل لا يستطيعه كل من وجد الخشب وآلات النجارة.
الحزن - مثلا - عاطفة تبين بالوجوم والصياح، والأنين والبكاء والعبارة المعتادة، والقصيدة. وكل هذه الدلالات تبين عن العاطفة ولكن لا يعد من الأدب إلا القصيدة.
وكذلك الأمور النفسية الملونة بألوان النفس تملأ كلام العامة والخاصة ولكنها لا تحسب أدبا حتى ترتقي إلى مستوى الفن وفي هذا درجات تتوالى إلى حد الإعجاز.
الفرق بين الأدب والعلم
يتبين مما تقدم أن قضايا العلوم المحضة ليست مادة للأدب؛ فإذا قلنا: زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، أو الخط المستقيم أقصر خط بين نقطتين، أو حاصل ضرب خارج القسمة في المقسوم عليه يساوي المقسوم، أو هذا الدواء ينفع لهذا المرض الخ فهي قضايا علمية ليست من موضوع الأدب في شيء
ليست هذه القضايا من الأدب ولكن يجوز أن تدخل فيه لتكون مقدمة لغيرها أو للتشبيه بها أو نحو ذلك كما قال المعري:
طرق العلا مجهولة فكأنها ... صم العدائد مالها أجذار
وقوله:
الخلق من أربع مجمعة ... ماء ونار وتربة وهوا
والكتب العلمية ليست من مباحث الأدب إلا أن ينظر الأديب إلى حسن البيان فيها والترتيب والتقسيم ووضوح الألفاظ فيجوز للفن أن يتناولها من هذه الناحية
فإذا اتحدَت المسائل في كتب علمية واختلفت أساليبها فقيل هذا الكتاب واضح العبارة، صحيح الألفاظ جيد الأسلوب فهذا تقدير موصول بالفن يجعل الكتاب من هذه الناحية ذا صلة بالأدب. ويستخلص من اختلاف موضوعي العلم والأدب هذه الفروق بينهما:
1 - الأدب مرجعه نفس الإنسان، والعلم مرجعه الطبيعة
2 - فمقياس الأدب صدق التصوير لما في النفس خطأ أم صواباً، ومقياس العلم صدق الإدراك للحقائق الواقعة دون نظر إلى أثرها في النفس.
3 - والأدب الإنساني موضوعه الإنسان: سعادته وشقائه في هذا العالم. والعلم يستوي عنده الإنسان والحيوان الأعجم والنبات والجماد. فالطبيعي يبحث في قوانين الطبيعة السارية في هذا العالم والحيويّ يبحث عن قوانين الحياة في الأجسام الحية، والطبيب يشرّح الأجسام ليتبين تركيبها. وهم في هذا البحث يتحرون الحقائق كما هي لا يبالون أن تكون في الإنسان أو في غيره. وأما الانتفاع بنتائج العلوم في إحياء الإنسان أو قتله وإسعاده أو أشقائه، فهو أمر خارج عن موضوع العلم
4 - والآراء والكتب العلمية تترك إذا تبين خطؤها أو كتب ما هو خير منها فلا يرجع إليها إنسان إلا إذا أراد أن يؤرّخ العلم؛ فلا تجد من يقرأ في كتاب هندسة أو حساب قديم وقد كتب ما هو أحسن منه؛ ولكن كتب الدب تتضمن عواطف الإنسان فإيّان اطّلع القارئ فيها وجد عاطفة إنسانية تؤثر في نفسه لا يضيرها الخطأ أو القدم. فنحن نقرأ اليوم شعر هومير وشعر امرئ القيس وغيرهما، ونجد فيه من متعة النفس ما نجده في الشعر الحديث
اختلاف المنشآت الأدبية
قد تبين أن مدار الأدب على العاطفة والخيال والأمور النفسية لا الحقائق الثابتة خارج النفس. وليست كل القطع الأدبية سواء في ذلك، بل تتفاوت قرباً من هذا المركز وبعداً. وادخلها في الأدب أقربها إلى المركز. وفي الأدب موضوعات يقل نصيبها من العاطفة والخيال حتى تنتهي إلى المحيط الذي يفصل الأدب عما سواه، ويكاد يشك القارئ أنها من الأدب
ومن أجل ذلك اختلف النقاد في شعراء من أئمة البيان كأبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلا. قال بعض النقاد: المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري. ويميل بعض النقاد إلى إخراج لزوميات المعري من الشعر. والحق أن دواوين هؤلاء الشعراء جميعاً تحوي أدباً لا علماً، ولكن حظها من العاطفة وعمل الخيال يختلف؛ فتجد البحتري أكثر نصيباً من العاطفة والخيال في جملة شعره؛ وأبو العلاء في لزومياته أقل حظَّاً منهما ولكنه لم يخرج عن دائرة الأدب. وأبو تمام والمتنبي بين عاطفة البحتري وحكمة أبى العلاء
وبهذا يفسر قول القدماء: (أعذب الشعر أكذبه) فالأكذب أدخل في الخيال وأبعد عن الحقيقة. ولكن ينبغي ألا يخدعنا هذا القول؛ فربما نجد الشعر القريب من الحقيقة والبعيد عن الخيال أعذب واحب إلينا من شعر كثر خياله وبعد عن الحقيقة. وقد تبين العاطفة قوية واضحة حيث لا خيال كما يؤثر مرأى الطفل الحزين في رائيه، ويعجب المنظر الجميل شاهده، وليس هناك إلا الحقيقة المؤثرة
انظر قول كثير عزة:
خليليّ! هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
لا تجد فيه مجازاً ولا استعارة ولكنه مثّل لك الشاعر واقفاً على دار عزة وقد خلت منها وهو يطلب إلى صاحبيه أن يعقلا ناقتيهما ليفرغا للبكاء معه. ليس في هذا تخيل ولا صنعة ولكنه يكشف عن عاطفة محزونة ساذجة لها أثرها في نفس الإنسان
وانظر هذه الأبيات:
أقول لصاحبي والعيس تهوي ... بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عَرار نجد ... فما بعد العشية من عَرار
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريّا روضه بعد القنطار
وأهلك إذ يحلَ الحيُّ نجداً ... وأنت على زمانك غيرُ زاري
ليال ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار
إنك تجد في هذا الشعر الطبيعي الصادق الخالي من الكذب والخيال والإغراق من الإبانة عن العاطفة مالا تجد في شعر متكلف قد أعرب فيه الخيال وافتنَّت فيه الصنعة
عبد الوهاب عزام