مجلة الرسالة/العدد 292/القصص
→ الأستاذ محمد عبد الوهاب | مجلة الرسالة - العدد 292 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 06 - 02 - 1939 |
من مآسي التاريخ
مصرع الدون كارلوس
للأديب محمد محمد مصطفى
قال الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه (تاريخ المؤامرات السياسية)
(. . . ما أفاضت سيرة من سير القصور في القرن السادس عشر على دولة الخيال والشعر قدر ما أفاضت سيرة الدون كارلوس، وما تبعت قصة إلى النفس من روعة وكآبة قدر ما تبعث أساطير هذه القصة العجيبة
وأي سيرة أدعي للروعة والوحشة من سيرة ملك يقضي بالموت على ولده لمؤامرة قيل إنه دبرها لقتله. ثم يذهب في بطشه إلى حد تنفيذ هذا الحكم
هذا ما يحفظ التاريخ من سيرة فيليب الثاني ملك أسبانيا وولده الدون كارلوس)
فوجئ الأمير بتحية صدرت إليه من خلفه، فاتجه ببصره إلى مصدر الصوت فرأى صديقه الأمين الكونت (أجمونت). . . فقل اضطرابه قليلاً وسأل الكونت:
- أتبعك جواسيس الملك الليلة يا كونت؟
فابتسم هذا في خبث وأجاب:
- أبداً يا مولاي، فقد ألحت صورة الخمر على أعينهم فرنق بها الكرى فدلفت إلى جناحك من الباب الخلفي بعد أن تخطيت الأهوال في اجتياز الحدود سراً. . .
- أبخير أتيت؟
- فأجاب والابتسامة لا تفارق شفتيه:
- بكل خير
- ثم أخرج الكونت منة ثنايا ثوبه ورقة نشرها أمام ولي العهد، وجعل يمر عليها بإصبعه هامساً للأمير:
- بين شعاف هذه الجبال يا مولاي ستمكن قواتي، فإذا ما جن الليل انضمت إليها قوات أمير أورانج تتبعها قوات الكونت هورن. وعلى سموك اجتياز الحدود سراً مساء منتصف مايو القادم لتعودوا على رأس هذه الجيوش إلى أسبانيا لتثل بها عرش هذا الشيخ الذي لم يتورع الليلة عن الزواج بطفلة في سن حفيدته
- وحمل الدون كارلوس آماله وأحلامه، ومضى بها إلى حديقة القصر الملكي يرسل بين الحين والحين صفيراً خافتاً حتى عثر بين الخمائل على دوحة استذرى بها حتى لا يناله برد الليل إن غلبه النوم تحتها
وتسربت خيوط الفجر من ثوب الليل، ولما يغمض لعروس الملك جفن، وتشعر الفتاة لرؤية عريسها الشيخ الذي يغط إلى جانبها بهم يجثم على روحها، فتتسلل مارقة إلى حديقة القصر الملكي، وتسير بين رياضه على غير هدى. . .
سارت بين الخمائل تناجي النجوم وقلبها الغض يخفق في عالم مجهول. ثم أفلتت منها صرخة خافتة إذ رأت أمامها شاباً كأنما قد تثاءبت عنه الأرض
- ترى بعثت روعة هذا الفجر في نفسك الاكتئاب أيها الشاب؟
- وي. . . من أنت. . . ومن أي فردوس فررت يا فتاة؟
فيشرق الابتسام على ثغر الفتاة وتقول للشاب الماثل أمامها في سذاجة الطفولة ومرحها:
- الملكة. . . ومن أنت؟ فيقف الدون كارلوس في تؤدة ويشخص ببصره إلى الصبية يعبث الهواء بشفوف نومها فيبرز الصغيران، ويظهر تقاسيم وجهها الفتان، ويتمتم الشاب في خفوت:
- عروس أبي. . . أقصد الملك. . . وإلى أين؟
- إلى الفجر وسحره
ويأسى الأمير لهذا الجمال الذي سيذوق في ظل والده الشيخ ويدرك من حديثها نقاء سريرتها فيدرج بها على العشب النضير هْوناً. . . يتسامران فتجرده من قلبه ولبه، ويأخذها بشبابه وحبه، ويبدو لها وجه الشيخ بلحيته المرسلة كأنه شيطان مريد، وتنظر إلى ولي عهده فتدخل من عينيه الجميلتين إلى جنة الحب، ويخفق له قلبها الغض المتعطش إلى الغرام. . .
وفي غفلة من الدهر كانا يختلسان اللقاء على الربى وبين الخمائل، فهي لا تعرف السعادة إلا في قلب الفتى الحبيب، وهو قد تدله بها فلا يعدل بقبلاتها المسكرة ما في بطون الأرض وعلى سطحها من أذخار وكنوز. . .
وينظر الملك إلى طول لبثها في الحديقة فيرتاب ويحوطها بعيونه فتنتقل إليه الأخبار. . .
وعلى إحدى الربى وقف الملك مستتراً يرى العاشقين الصغيرين وكيف ينهلان السعادة ويستمتع إلى وسوسة قبلاتهما الناعمة فيحرق الأرم ويستجمع ما تبخر من صبره ويولي عنهما هامساً بينه وبين نفسه:
- ليكن هذا بينهما لقاء الوداع ويتأوه من أعماق نفسه ويهتف:
أما وقد بليت أيضاً بحبها فستعيش هذه الفتاة لأن قلبي يريد لها الحياة. . . أما هذا الوغد. . . وهدد بقبضته في الهواء ومضى لسبيله في طريق القصر
وراح ولي العهد يستعرض أصدقاءه ليختار من بينهم من يمده بخيل يرحل عليها خفية إلى الحدود، فيقع اختياره على مدير البريد. . .
ويشفق مدير البريد أن ينكشف أمره فتناله يد الملك، فينقل إليه رغبة الأمير. . .
ويأمر الملك بالقبض على ولده وإيداعه السجن، فتضبط أسلحته ونقوده وأوراقه التي دلت على مشروع محاولة استيلائه على الأراضي السفلى ودحر الملك ثم الجلوس على عرش أسبانيا. فأبلغ الملك الحادث إلى الجهات الكبرى وانتدب محكمة عليا برياسته المحاكمة ولده
كان سجن الأمير غراماً على نفس الملكة فطوت جوانحها على حرق حبه، وأضحت ذاهلة وانية ترى القصر كأنه قطعة من الجحيم، وعزفت عن الطعام حتى رق جلدها وشحب لونها ولقد تتحامل على نفسها التطوف بمجالس غرامها وأعشاش حبها تدب في رفق كأنما قد حطمت قواها السنون، فإذا جلست في مكان ضمهما يوماً خيل إليها أنه إلى جانبها يضمها ويحنو عليها فتخشى أن يكون ذلك وهماً فتتحسسه بيديها فلا تقع على شيء فتقف فزعة وتحوم حول نفسها وتسقط صارخة:
- يا كارل. . .
فتردد جوانب القصر صيحتها:
- يا كارل. . .
وكان صفاء عينيها الجميلتين وتدلهما ينمان عما تكابده من حر الحب وبالغ الوجد
وينظر الملك إليها فيراها متلفة آيسة وقد أطفأ الحزن بريق عينيها فين هدم لها قلبه انهداما ويسألها عن سر وجومها واكتئابها فتنفجر باكية وتجثو عند قدميه.
ويعلم الملك أنه الحب فيستضحك حتى تبدو نواجذه ويمسك بيديها الصغيرتين لينهضها فتأبى إلا أن يسمع لشكاتها. . .
- خير. أأستنزل لك من السماء نجما تقرين به عيناً يا طفلتي الحبيبة؟
- أتقسم على طاعتي فيما أرجوه منك.
- لك هذا.
- أن تطلق سراح ولدك.
- فأربد وجه الملك وعبست أساريره وأشاح عنها قائلاً:
- أشغفك حباً ذلك الولد الغر؟
- حباً ملك عليّ نفسي
- فلم لا تدفعين هذا الحب عن قلبك وهو لم يزل بعد وليداً؟
- إنه ولد عاتياً قوياً
- فلن أفرج عنه إذاً أبداً. وسأجعل من جسده للطيور طعاماً شهياً. . .
ويظلم الفضاء في نظر المسكينة وتقول وما تملك نفسها:
- فإذا ما قلت لك إني سأقضي على نفسي وأحملك وزري إن مسته بسوء؟
ففكر الملك ثم فكر. . . وفتقت له أفكاره حيلة
فدنا منها وقد زال أثر العبوس من وجهه قائلاً:
- إنني لم آمر بسجنه يا صغيرتي إلا لدفع بغيه عني، ولئن أطلقته ختر بميثاقه وأعاد المؤامرة بعد أن قتلتها في مهدها
- سيفيد من درسك هذا له عبرة
- أفتجعلين من ذمتك عهداً ألا يعيد الكرة؟
فأبكاها فرط السرور لقرب انتصارها ومدت إليه يدها باسمة
- هذا عهد فرقت لها نفس الشيخ وقال:
- إني أعدك بالحكم ببراءته
- فهزتها نشوة الفرح وطوقت عنقه قائلة: - هل قلت إنك ستبرئه؟
فطرب الملك لعناق فتاته وأعاد القول باسماً: لك هذا
وفي هدأة الفجر تسللت عروس الليل على أطراف قدميها وقلبها يخفق ويدها عليه. . . حتى إذا ما اجتازت الباب السري ركبت عربة كانت تنتظرها خارج القصر وانطلقت بها في مسارب الوادي لتنقلها خفية إلى سجن الحبيب
وما اقتربت الملكة من باب السجن حتى تخلى عنه حراسة، فطوقت سلالم القبو أربعاً أربعاً. . .
وألفت حبيبها الموموق مكباً على نضد عتيق وقد سقط رأسه الجميل على صدره تتناوبه فورات اليأس والحمى؛ فلما رأى الملكة انتعشت نفسه وصاح: إيزا
- كارل
وألقت نفسها بين أحضانه وأهوت بقبلاتها على فمه وشعر الدون كارلوس بأنه في حاجة إلى الحياة عن ذي قبل وأحس أن قوة هرقل قد حلت فيه وأن قوى العالم لن تستطيع إفلاتها من بين يديه ولو تكالبت عليه جميعاً وكان بعضهم لبعض ظهيراً
ولم يخف افترار ثغرة عن عين طفلة الحبيبة ما رسمه الأسى على وجهه وما يلاقيه في غياهب سجنه. فانتشرت نفسها عليه رقة ورحمة وأرسلت من عينيها عبرات حرارا. . .
قال الدون كارلوس:
- لم البكاء يا إيزا وهو يتلف عينيك؟
- ومن أحرى منى بطول البكاء؟
- أنا. . . لهول ما أفكر فيك ولفرط ما عاث الحب في قلبي وأماتني حياً لبعدك بينا يحيا هذا العجوز الحيزبون بين أعطافك ناعماً بجمالك مخفرجاً في ظلك؟
ففاظت عيناها بالدمع فحبس عبراته وكبت عاطفته، ولم تشأ أن تخبره بوعد الملك لها بتبرئته لعدم ثقتها بتنفيذ هذا الود وخشية أن يظن الدون كارلوس أنها خدعته إذا ما حنث الملك بوعده حتى إذا أشرقت غرة الصبح انتزعت نفسها من بين أحضانه وعادت إلى القصر تتأوه قلبها المعذب المفؤود
سيق الأمير إلى قاعة المحاكمة وقد بدا على وجهه الساهم علائم العناء.
فلما رآه الملك عبس في وجهه وبسر. وأخذت عينا الملكة الجميلتان ترسلان الدمع مدرارا فتنضو عن صدرها الجميل ثوبها لتخفيه فيه وتقدم الدون كارلوس تنوء قدماه بحمل جسمه الواني حتى انتهى إلى مقعد أعدله فجلس عليه وأخذ يردد الطرف بين الملك حيناً وأعضاء المحكمة أحياناً فيرى على وجوههم مسحة الجد والاهتمام.
وقطع الملك رهبة السكون حيث أمر بابتداء المحاكمة فوقف المدعي (البرنس إيفولي) وألقى بياناً مسهباً عن محاولة الدون كارلوس الاعتداء على الذات الملكية بوضعه مشروعاً لاغتيال أبيه ومحاولته انتزاع الأراضي السفلى، واختتم بيانه بطلب إعدامه فتحرك الملك في مقعده قليلاً وقال بصوت هادئ:
- ألديك ما تقوله يا كارلوس؟
فنهض الدون كارلوس متثاقلا وقال بثبات:
إنني لا آنس في وجه أحدكم رأفته ولا رحمة، وكلكم كشقي مقص الفناء، كل يتمم للأخر مهمة القضاء عليّ؛ بيد أنني أود أن أتلقى حكم إعدامي من شفتين غير شفتيك، فهل لي أن أرجو المحكمة أن تنطق مليكتي بهذا الحكم؟
فرد المدعي قائلاً:
- ولكن الملك رأس الدولة ورئيس المحكمة فهتف الدون كارلوس:
- والملكة جسم الدولة فهل تعيش رأس بلا جسم؟ فاشتد غضب الملك وموجدته على ولده وتهامس قليلاً مع الأعضاء، ثم اعتدل في جلسته ونطق بالحكم
ودوى حكم إعدامه في أذن الملكة كهزيم الرعد فاستهولته وهبت عجلانة إلى الدون كارلوس فاحتضنته وأخذت ترسل من عينيها إلى الملك شرراً كالقصر وهتفت صاخبة:
- ألا أيها العجوز الحانث بوعده. . لن تناله بأذى حتى تمر على جثتي. . . فلتأت أنت وحرسك وجندك فإني لكم وصمت الملك قليلاً ثم قال:
- انظروا كيف تدافع الملكة عن عشيقها الفاجر. . . وأشار إلى جنوده فانتزعوه منها حتى إذا بلغوا به السجن ألقوه فيه في انتظار تنفيذ الحكم
وانصرف أعضاء المحاكمة تاركين الملك والملكة وحدهما فجثت إيزا تحت قدميه جثو الراهب في محرابه وأخذت تستعطفه في ذلة وانكسار أن يرد على ولده حياته وأن يقف تنفيذ إعدامه وأعطته موثقاً ألا تلتقي به بعد اليوم إن أجاب سؤلها ولكنها كانت تستدر القطر من الصخر، وتبذر الحب في المهمة القفر. . .
وشدد الملك الرقابة على السجين حتى لا تلقاه الملكة فتدبر لفراره أو تحاول إنقاذه. فتبدلت في عينيها وضاق أمام نظرها فضاء الأرض التي لم تتسع على رحبها لحبيين فعزفت عن الطعام وتساقطت نفسها حسرات عليه
وأومأ الملك إلى طبيب القصر أن ينفذ بنفسه الحكم على أن يبقى شرف الأمير مصوناً وانخلع قلب الملكة لسماعها نبأ إعدامه بجرعة سم دسها إليه الطبيب، فعصفت برأسها نوبة جنون جرت على أثرها حافية القدمين إلى السجن. . . ومنعها حارس الباب فبكت إليه وتوسلت فقال الحارس إن أوامر الملك مشددة. . . فهوت بشفتيها الرقيقتين الناعمتين على قدمي الحارس الموحلتين فتركها تمر وقال:
ليفعل بي الملك ما يشاء
ووجدت جثة الحبيب مسجاة على فراش خشن فأخذت رأسه الجميل بين يديها وشخصت ببصرها إليه فكان في غفوته الأبدية كطائر الأفنان؛ وسكنت حتى لقد خيل لمن رآها أن روحها قد تسللت من جسدها تاركة وجهها على هذه الصورة الجامدة
واختلط عقل الفتاة المسكينة فكانت لا ترى إلا في الطريق لقبره ذاهبة أو عائدة، وأرقت فلم تعد تنام إلا لماما
وهاجها الوجد إليه فجر ذات يوم فقامت إلى قبره بفأس تريد اقتحامه وأخذت تحطم رخامه وتكتشف عنه التراب حتى إذا انفتحت لها فيه فجوة أدخلت فيها يديها ورأسها وأخذت تعالج غطاء ناووسه حتى رفعته فانهال عليها حجر كبير فسقط رأسها الجميل على صدر حبيبها ولفظت آخر أنفاسها.
محمد محمد مصطفى