مجلة الرسالة/العدد 291/رسالة العلم
→ ذكريات | مجلة الرسالة - العدد 291 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 30 - 01 - 1939 |
إثبات نظرية التطور
للأستاذ عصام الدين حفني ناصف
البراهين على صحة نظرية التطور كثيرة لا يحصرها العد، فحيثما أرسل الإنسان الذي وعى هذه النظرية بطرفه في عالمي الحيوان والنبات، وجد شواهد توضح ما بين مختلف الكائنات الحية من صلة القربى. وقد اخترنا هنا أمثلة قليلة تتعلق بحيوانات مألوفة، نراها مما يسهل فهمه وتجدر معرفته
من علم ترتيب الكائنات
وصف العلماء إلى الآن ما يربى على 500. 000 حيوان حي و 200. 000 نبات و 100. 000 متحجر ينفرد كل منها بصفة من الصفات. وهم يقسمونها إلى أقسام مختلفة المراتب، فنوع الثعلب ونوع الذئب ونوع الكلب تابعة كلها لجنس الكلب، وهذا تابع العائلة الكلبية من فصيلة آكلات اللحوم، وهذه تابعة لتربية ذوات الثدي وهي تابعة لقبيلة ذوات الفقار
وليس تحديد الأنواع من الأمور السهلة، فبعض العلماء يعتبر بعض المجموعات أنواعاً جديدة في حين يعتبرها علماء آخرون مجرد (تنوعات) ونحن نلتقي بالتنوعات دائماً حين نبحث آلاف النماذج من أحد الأنواع الحيوانية أو النباتية، وهذه القدرة على التنوع من أهم خصائص الأحياء فهي تيسر لها ملاءمة البيئة المحيطة بها، وذلك يتيح لها أن تتطور وترتقي من حيث بناء الجسم وقدرته على العمل
وعلم ترتيب الكائنات ينطق بصحة نظرة التطور (1) لأن الوفرة الهائلة في عدد الكائنات الحية التي يمكن على الدوام إثبات وجود أشكال انتقالية بينها، تسير كلها ببطء طريق التحول والتغيير (2) ولأن (النوع) لا يمكن تحديده تحديداً تاماً، فلا بد أن يكون شيئاً متغيراً
من علم الحفريات
تتكون طبقات الأحجار الرسوبية في وضع أفقي، ويكون أسفلها أقدمها عمراً، وتحتوي ك طبقة على حيوانات ونباتات دفنت فيها في العصر الذي تكونت فيه تلك الطبقة، وقد وجد إن الحفريات التي دفنت في طبقة قديمة العهد تكون أبسط في تكوينها وتركيبها من حفريات الطبقات التي هي أحدث منها عهدا. من الأمور الهامة أننا نجد حفريات كل سلسلة من سلاسل الأنواع الحيوانية على النحو الذي كنا نتصورها عليه قبل أن نعثر بها وذلك ما حدث مثلاً في ما يتعلق بقدم الحصان، فقد تعودنا أن نجد معظم الحيوانات الثديية الراقية ذات خمس أصابع فإذا أختلف الأمر عن ذلك في الحصان، ألزمتنا نظرية التطور بافتراض أن أصابع أسلافه كانت خمسا فبقيت منها واحدة وضمرت الأربع الأخرى، ونحن نميز في قدم الحصان الحالي إصبعاً واحدة ونجد في الخيل المتحجرة في عهد البليوسين أن قدمها ذات 3 أصابع وفي الخيل المتحجرة قبل ذلك في عهد الميوسين أنها ذات 4 أصابع وفي المتحجرة في عهد الأيوسين أنها ذات 5 أصابع
من علم التشريح المقارن
يرينا التشريح المقارن ذلك التشابه العظيم بين جسم الإنسان وأجسام باقي الحيوان وفي مقدمتها (الشبيهة بالإنسان) وهي الشيمبانزي (البعام) والجوريلا (الغول) والأورانج أو أوتان (إنسان الغابة) والجيبون. ويقابل التشريح المقارن بين الأعضاء في مختلف الأنواع الحيوانية فيثبت ما بينها من أوجه الشبه سواء فيما يختص بالشكل الخارجي أو الوظيفة. فإذا نظرنا إلى جناح الخفاش وذراع الحفر عند الخلد وذراع الإنسان وجدناها متشابه تشابهاً عظيما في تركيب عظامها رغم تباين وظائفها، وما ذلك إلا لأن هذه الحيوانات متسلسلة من أصل واحد
ينظر معظم الناس إلى الحوت باعتباره ضرباً من السمك، وذلك لإقامته في الماء ولشكله الوشعي (المغزلي) ولوجود زعانف الصدر والذنب، ولكن تشريح الزعنفتين الأماميتين يرينا في كل منهما هيكلاً عظيماً يشبه مثيله في الطرف الأمامي من الحيوانات الثديية الأخرى. أما الزعنفة الذنبية فيدعمها محور عظمي هو نهاية العمود الفقري. ولبعض أنواع الحيتان زيادة عما تقدم زعنفة ظهرية بيد أنها خالية من أية دعامة عظمية، ولا إيضاح لهذا التباين في بناء الزعانف المختلفة في الحوت الواحد، ولهذا التعقد في بناء هيكل الزعنفة الصدرية إلا أن الحوت متسلسل من حيوان بري كان يستعمل طرفيه الأماميين في المشي ثم تطور بتطور معيشته من برية إلى بحرية. وهنالك إثباتات أخرى تؤيد أن الحوت حيوان ثديّ متسلسل من أصل بري، وهي كونه يتناول الأوكسجين اللازم لحياته برئتيه من الهواء لا بالخياشيم من الماء، وكونه من ذوات الدم الحار فلا تنخفض حرارة جسمه - كالأسماك - بانخفاض حرارة الماء الذي يعيش فيه، وكون أنثاه تلد صغارها تامة التكوين وترضعها.
من علم الأجنة
يجتاز كل حيوان في نموه من خلية البيضة حتى يكتمل سلسلة من التغيرات المحتومة، ويمر بسلسلة من الأشكال المختلفة، هي إعادة موجزة للسلسلة الطويلة من الأشكال التي اجتازها أسلاف هذا الحيوان أي أصول نوعه منذ أقدم أزمنه الخلق العضوي حتى الوقت الحالي
فالحوت - مثلاً - يمتاز في كبره بعد اشتمال جسمه على الشعر والأسنان والعنق والطرفين الخلفيين، ولكن هذه الأعضاء توجد في جنينه، وذلك ما يشير إلى تسلسله من أصل ثدي له هذه الأعضاء
كذلك يحوي جسم الجنين الإنساني أعضاء عدة لا إيضاح له إلا أنها موروثة عن الأسلاف الحيوانية، فهو مغطى بشعر كثيف يذكرنا بفروة القرد، وقد يبقى الثوب الشعري جنيني في أحوال مرضية شاذة عند من يسمونه بالإنسان الكلبي. وللجنين الإنساني ذنب واضح، وله في كل ناحية خمس مجموعات من غدد لبنية، وذلك ما يدل على أن العضو اللبني - كما هو الحال عند الحيوانات الثديية الدنيئة - ولم يكن في الأصل زوجاً واحداً فقط
من علم الانتشار الجغرافي
تُقدم لنا الجغرافي الحيوانية كثيراً من الحقائق الناطقة بصحة نظرية التطور. فمن ذلك أن المناطق والأقاليم المنعزلة عن غيرها تحوي أنواعاً حيوانية خاصة بها لا توجد في سواها. ولئن كانت حيوانات أمريكا الشمالية شبيهة بحيوانات شمال آسيا وشمال أوربا فإن لحيوانات أمريكا الجنوبية (أعني التي كانت بها قبل أن يستعمرها الجنس الأبيض) صفات ومميزات خاصة بها نتجت من نمو تلك الحيوانات في عزلة وعدم اختلاطها بحيوانات أمريكا الشمالية. وذلك لأن أمريكا الوسطى كانت في عصر الميوسين مغمورة بالماء، فلم يكن ثمة وجود لذلك المعبر الأرضي الذي أنبثق بعد ذلك فوق اليمِّ فأصبح يصل بين الأمريكتين. ومما يؤيد هذا التفسير وجود بعض الأسماك والقواقع مشتركة في المحيطين شرقي أمريكا الوسطى وغربيها مع أنه لا يوجد نوع من الأسماك والقواقع مشترك في شرق أمريكا الجنوبية وغربها
ومما يلفت النظر تلك الجزائر التي طلعت في المحيط بعمل براكين تحت الماء مثل جزيرة سانت هيلانة (وتبعد 1800 كيلو متر عن أفريقيا) فهي خالية تماما من الحيوانات الفقرية البرية والطيور البرية، وبها من الطيور البحرية نوع واحد من النورز له قرابة بالأنواع الأفريقية، وبها أنواع من الخنافس ذات الخرطوم وهي الأنواع التي تعيش هي ويرقاتها وعذاراها على الخشب وفي داخله. وفي ذلك ما يبين أنها انتقلت إلى تلك الجزيرة النائية محمولة على أخشاب طافية. ولو كانت حيوانات تلك الجزيرة قد خلقت على حدة لما كان هنالك سبب مفهوم لإيثارها بالأنواع ذوات الخرطوم من الخنافس.
التفاعل الحيوي الكيميائي للدم
إذا تركنا دماً طازجاً في مكان ما، رسبت منه الكرات الدموية والألياف وبقى سائل أصفر هو المصل. ولكل حيوان فقري مصل خاص به من شأنه أن يضر بالكرات الحمراء التي في دماء الأنواع الحيوانية الأخرى. بيد أننا إذا كررنا حقن مقادير صغيرة من مصل دم حصان - مثلاً - في الأوعية الدموية لأرنب، تغير دمه بعد فترة من الزمن فأصبح مصل دمه يؤدي عند وضع قطرات منه في محلول يحوي قليلاً من مصل دم الخيل، إلى تكوين راسب زَغَبي، وهو يحدث الترسيب أيضاً - ولكن بدرجة أضعف، مع دم الحمار، وذلك ما يوضح قرابته به. فإذا حَقنَّا أرنباً بمصل دم إنسان أصبح مصل هذا الأرنب يرسب الدم الإنساني، بيد أنه أيضاً - وبنفس القوة - يرسب دم القردة (الشبيهة بالإنسان)، أما القردة الأخرى فيرسب دماءها بدرجة ضعيفة. وهذه التجربة تبرهن لنا على وجود (صلة الدم) بمعناها اللفظي
الإنسان في ضوء نظرية التطور يتعين علينا من الوجه الفنية المحض أن ندخل الإنسان في نطاق نظرية التطور وقوانينها، فليس الإنسان من حيث العلوم الطبيعية سوى حيوان فقري يمشي قائماً، ومن مميزاته الظاهرة على سائر الحيوانات الثديية القريبة منه أنه يعتمد في سيره على قدميه فقط، وكثير من خصائصه الجسمانية الأخرى موجود في عالم الحيوان وإن لم يكن مجتمعاً بهذا التوافق إلا في الإنسان والإنسان عظيم الشبه بالقردة الراقية إلى حد جعل أحد العلماء يقول: إن الفرق بين أحط الأجناس الإنسانية والقردة (الشبيهة بالإنسان) أقل كثيراً منه بين هذه وأحط القردة
ولئن كان المنظر الخارجي للجوريلا يبعث فينا النفور من تصور صلة قرابة تربطنا بها، فأننا نجد حين نسلخ جلدها أن التشابه بين جسمها وجسم الإنسان لافت للنظر. فكل عظمة ولك عصب وكل عضو من الأعضاء المختلفة موجود عندها في مثل موضعه عند الإنسان. وهي تشبه الإنسان كذلك في كونها بلا ذنب ناتئ خارج الجسم، وبلا انتفاخ في الإلية، وبلا شعر كثيف في الخدين كما تشبهه في بناء عضو التفكير أي المخ، فإن مخها يحوي نفس الأجزاء والأخاديد والتلافيف التي يحويها مخ الإنسان
مستقبل الإنسان
من المرجح جداً أن يستمر الإنسان في التطور مدى أزمنة طويلة جداً، ولكنا لا نستطيع أن نقطع: هل يكون هذا التطور إلى أرقى أم إلى أحطّ؟
لقد اكتظت الأرض بالحياة أحقاباً طويلة دون وجود الإنسان. ومن الممكن أن تبقى حافلة بالحياة ولو انقرض الإنسان؛ فالأرض لم تخلق هي وعالم الأحياء، من أجل الإنسان، ولكن مجده وقوته في كونه يعرف كيف يستغلها ويستخدمها لقضاء أغراضه.
عصام الدين حفني ناصف