مجلة الرسالة/العدد 291/المتنبي وسر عظمته
→ الأدب والمدرسة | مجلة الرسالة - العدد 291 المتنبي وسر عظمته [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 30 - 01 - 1939 |
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
إذا قرأ القارئ قول المتنبي:
وخِلة في جَلِيسٍ ألتقيه بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوَهنِ
وكِلمةٍ في طريقٍ خفت أعرابها ... فيهتَديَ لي فلم أقدر على اللحن
كم مخلص وعُلًي في خوض مهلكة ... وقتلة قُرِنَتْ بالذم في الجبن
لا يُعْجبَنَّ مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفيناً جودة الكفن
أحس بما تدعو الحياة إليه من تقيد النفس بقيود التجانس حتى ولو كان فيها قهر أنبل عواطفها ونوازعها، وأحس بالمعركة التي تدور في النفس بين نزعاتها من رضاء وإباءٍ وتسليم وثورة، والتذ مشاركته الشاعر في تلك المعركة النفسية حتى ولو كانت المشاركة بالعقل الباطن والقراءة بالعقل الظاهر. وهو يحس هذا الإحساس إذا قرأ قوله:
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاء تضوي به الأجسام
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجةٌ لا جئ إليها اللئام
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميِّتٍ إِيلام
وهو أيضاً يضع نفسه موضع نفس الشاعر في تلك الرحلة النفسية التي يلتذها بالقراءة إذا قرأ قوله:
وما أنا منهمُ بالعيش فيهمْ ... ولكنْ معدن الذهب الرغام
خليلك أنت لا مَن قلت خِلِّي ... وإِن كثر التجمُّل والكلام
ويزداد اعتداد المتنبي بنفسه، فلا يزداد القارئ إلا لذة ببيانه عندما يقرأ قوله:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
عِشْ عزيزاً أو متْ وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
واطلب العز في لظى ودع الذ ... ل ولو كان في جنان الخلود
أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود وكذلك عندما يقرأ قوله:
ومِن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بِيَ جاهل
ويجهل أني مالك الأرض مُعسرٌ ... وأني على ظهر السماكين راجل
تحقر عندي همتي كلَّ مطلب ... ويقصر في عيني المدى المتطاول
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغث أن تغث المآكل
والبيت الأول يدل على تفكير طويل في أنواع جهل النفوس بالنفوس، وهو موضوع عميق كعمق الحياة، ومجاهل أعماق النفس والحياة كمجاهل أعماق المحيط. وكذلك إذا قرأ أبيات المتنبي التي يخاطب بها أسد الفراديس ويدعوها فيها إلى محالفته، سار القارئ في رحلة نفسية خيالية في عالم البيان الشعري، حيث يود الشاعر أن يؤلف الوحش وأن تألفه، كما حدثوا عن الشنفري الشاعر. وإذا قرأ القارئ قول المتنبي:
عدُوِّي كل شيء فيكِ حتى ... لخلت الأُكم موغورة الصدور
فلو أني حُسدْتُ على نفيسٍ ... لجدْتُ به لذي الجد العثُورِ
ولكني حُسِدْتُ على حياتي ... وما خير الحياة بلا سرور
كان قد بلغ من تلك الرحلة النفسية قفراً موحشاً تختلط فيه الحقيقة بالخيال في نفس بلغت من النفرة من الناس والشك فيهم مبلغاً يجعلها تشك في الجماد، وتخاله موغر الصدر كالناس، وهذه حالة حقيقية في النفس، وإن اختلطت فيها الحقيقة بالخيال، وهي من الحالات النفسية التي يجيد المتنبي وصفها كما قال:
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت ... على عينيه حتى يرى صدقها كذباً
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صباً
ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنباً
ويتبع القارئ الشاعر في رحلة التجارب النفسية حيث يقول:
فلا تَنْلكَ الليالي إن أيِدِيَها ... إذا ضربن كسرْنَ النبع بالغرَب
ولا يُعنَّ عدواً أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخرب
وإن سررْن بمحبوب فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجب
وربما احتسب الإنسان غايتها ... وفاجأته بأمر غير محتسبِ وما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أَرَبٌ إلا إلى أَرَبِ
والبيت الأخير يعبر عن سر التعلق بالحياة؛ فليس سر التعلق بها لسعادتها وكمال مسراتها، بل قد يتعلق بها أشد التعلق من قلت مسراته فيها، وإنما يكون الحرص عليها كلما وجد المرء سبيلاً لنشدان المطالب والمآرب حتى ولو لم يسعد بها. فالحرص على الحياة موجود ما دام المرء ينتشي فيها بالسعي والطلب، وإن لم يُؤَدِّ السعي إلى فوز وسعادة. ويستمر القارئ متابعاً للمتنبي في رحلته النفسية في عالم التجارب وآلامها كما في القصيدة التي يقول في مطلعها: (كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً). ويعاود وصفها في القصيدة التي مطلعها: (أود من الأيام ما لا توده) وفي القصيدة التي مطلعها: (فراق ومن فارقت غير مذمم) والتي يقول فيها:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدَّقَ ما يعتاده من توهم
وعادي مُحبِّيهِ بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم
ويعاود وصف آلامه وآماله وخيبته وتجاربه في قصيدة: (بما التعلل لا أهل ولا وطن). وفي قصيدة: (أغالب فيك الشوق والشوق أغلب). وفي قصيدة: (صحب الناس قبلنا ذا الزمانا). وهو يحس فيها بضآلة مطالب الحياة بالرغم من إقبال نفسه عليها فيقول:
ومراد النفوس أصغر من أَن ... تتَعادَى فيه وأَنْ تَتفانى
كل ما لم يكن من الصعب في الأن ... فس سهل فيها إذا هو كانا
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن تكون جبانا
وتراه يصف كيف أن نفسه قد تُقهرُ على التخلق بصفات الحياة من مداهنة وشك، فيقول:
ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
إلى أن يقول:
ولم أَرَ في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
ويعود إلى وصف ما علمته الحياة من سوء الظن فيقول:
توهم القومُ أن العجز قرّبنا ... وفي التوهم ما يدعو إلى التهم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإِن كانوا ذوي رحم هوَّن على بصر ما شق منظرهُ ... فإنما يقظات العين كالحلم
ولا تشك إلى خلقٍ فتُشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ثم هو بالرغم من شكواه يعرف أن للمعالي التي ينشدها ثمناً لا بد أن يؤديه فيقول:
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
ويعلم أنه من العبث أن يُعَنِّي المرء نفسه وأن تُعَنِّيه إذا لم تدرك ما تَمَنَّتْ فيسلى نفسه ويسلي القارئ معه بقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ويعلم أن الظلم في النفوس صفة عامة إذا خفيت فإنما تخفى لسبب فيقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
والذل يظهر في الذليل مودة ... وأود منه لمن يود الأرقم
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وهذه الحكم العديدة وأمثالها في شعر المتنبي ليست من الشعر التعليمي أو الوعظي الذي يصنعه المرء وهو ناعم البال قرير العين بارد العاطفة وهو جالس إلى مكتبه يتأمل فيما تصف به الكتب والدفاتر أوجه الحياة وأخلاق النفوس فيها، ولكنه تأمل المختبر المجرب، فهو شعر التأمل الذي تغري به العاطفة لا شعر التأمل الذي يغري به العقل في دعته أو مباذله أو عند مباهاته بالعلم ومفاخرته بالعرفان، فهو شعر حكمة يُبصِّرُ الشاعر فيها نفسه ويذكِّرها كي تتحمل الحياة بمعرفتها الحياة، وتتحمل الناس بمعرفتها أخلاق الناس. ومن كان شديد الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها كالمتنبي كان في حاجة إلى هذه التبصرة والتذكرة بسبب ما يجشم الشاعر نفسه من معاناة الحياة والناس معاناة فوق معاناة القنوع التي لابد منها. فهذا الاعتداد بالنفس بما يفيض به من حنكة وخبرة وأنغام وبيان وآلام وآمال، هو سر نبوغ المتنبي وسر شهرته وتعلق الناس بشعره كما ذكرنا، وهو سر قوة شعره. وهذه القوة هي فيض يغمر كل باب من أبواب شعره من مدح أو وصف أو عتاب أو رثاء. ومن أجل ذلك تبدو حكمة الحنكة في شعره مختلطة بالمدح أو العتاب أو الوصف أو الذم، ففي قصيدته التي يصف فيها الأسد ويقول:
في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا ويستجمع كل معاني الوصف الرائعة، إذ تراه يورد الحكمة كما في قوله:
أَنفُ الكريم من الدنيئة تارك ... في عينه العدد الكثير قليلا
وفي قصيدة أخرى بينما هو يمدح الممدوح إذ تراه يقول:
إلْفُ هذا الهواء أوقع في الأن ... فسِ إن الحِمَام مُرُّ المذاق
وفي قصيدة أخرى يقول:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعِلَلِ
وفي قصيدة أخرى من قصائد المدح يقول:
إنا لَفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
فأصبح منتهى ما يطمع فيه الطامع في خير الناس أن يحصل على خيرهم السلبي، أي امتناعهم عن الشر كأنما الامتناع عن العمل عمل يشكرون عليه. وكذلك يورد الحكمة في قصائد المدح الأخرى مثل قصيدة (لكل امرئٍ من دهره ما تعودا) التي يقول فيها:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وأن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وكذلك يصنع في قصيدة (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) وقصيدة (الرأي قبل شجاعة الشجعان). فقيمة مدحه ليست في المغالاة المرذولة كما في بعض قوله وإن اشتهر بها، ولكن قيمته فيما يخالطه من حنكة وخبرة إما بالأخلاق والحياة عامة، وإما بالصفات المرغوب فيها التي يود كل ممدوح أن تنسب إليه. وكذلك يورد الحكمة في قصائد الاستعطاف أو التوفيق أو العتاب كقصيدة (إن يكن صبر ذي الرزيئة فضلاً) وقصيدة (حسم الصلح ما اشتهته الأعادي) وقصيدة العتاب الرائعة الفخمة التي يعنف فيها في عتاب سيف الدولة تارة وتارة يبلغ غاية الرقة كما في قوله فيها:
إن كان سَرَّ كمُ ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ
ويورد الحكمة أيضاً في قصيدة (بغيرك راعياً عبث الذئاب)
فيمدح ويستعطف ويورد الحكمة، وفيها يقول:
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارِمِهِ العقابُ
وكم ذنب مُوَلِّدُهُ دلال ... وكم بُعْدٍ مُوَلِّدُهُ اقترابُ
ويورد الحكمة أيضاً في قصائد الرثاء والتعزية وله فيها قصائد شائعة مثل رثائه لعمة عضد الدولة ورثائه سيف الدولة وأخته ومملوكه يماك ورثاء المتنبي لجدته ورثائه لأبي شجاع فاتك، وفي رثاء عمه عضد الدولة يقول:
يموت راعي الضأنِ في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمرهِ ... وزاد في ألأمن على سربه
وفي رثاء أم سيف الدولة يقول:
وصرتُ إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
وفي رثاء مملوك سيف الدولة يقول:
وأوفى حياة الغابرين لصاحب ... حياة امرئ خانته بعد مشيبِ
إذا استقبلتْ نفسُ الكريمِ مصابَهُ ... بخبث ثَنَتْ فاستدبرتْهُ بطيبِ
وفي رثاء جدته الرائع يصف ما لاقاه في سبيل تجشيم نفسه عظام المساعي فتزداد لذة القارئ في قراءته. والمتنبي إذا أراد الوصف أجاد كما في وصف الأسد وكما في وصف شِعب بوان ونباتة الذي يقول فيه وهو من أبدع الوصف:
مغاني الشِعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
ويصف الخيل كما في قوله (وما الخيل إلا كالصديق قليلة. الخ) ويصف الحروب. وليس إقلاله من وصف مظاهر الكون والطبيعة من عجز، بل لأن بصر بصيرته كان موجهاً إلى دخائل نفسه ونفوس الناس وأخلاقهم في الحياة أكثر مما كان موجهاً إلى مظاهر المرئيات وله في الغزل بالرغم من ذلك أشياء تستجاد وتستحب مثل قوله:
زَوِّدِينا مِنْ حْسن وجهك مادا ... م فحسن الوجوه حالٌ تحول
وصلينا نَصِلْكِ في هذه الدن ... يا فان المقام فيها قليل
وقوله:
إذا كان شم الروح أدنى إليكمُ ... فلا برحتني روضةٌ وقبولُ
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقة ونحول
فسحر شعر المتنبي هو سحر جاذبية الشخصية المعتدة بنفسها وسحر ما تختبره من الحياة.
ولا نعني بسحر الاعتداد بالنفس أن الناس لا يقاومونه. هم يقومونه بكل وسيلة في أول الأمر، وبعضهم يظل يقاومه حتى مع التأثر به. بل إن بعضهم تدل شدة مقاومتهم له على شدة التأثر به. ففي بعض سجايا النفوس قد يظهر التأثر بالإنسان، أو بالشيء بمظهر المقاومة. ولعل أظهر هذه الظاهرة في العلاقات الزوجية، ولكنها موجودة في جميع علاقات الناس بعضهم ببعض، وقد لا تكون المقاومة دليلاً على التأثر. بل قد تكون دليلاً على قلة التأثر أو انتفائه. ولعل الظاهرة أساسها واحد في الحالتين، وأساسها هو: دفاع كل نفس في الحياة عن كيانها ومميزاتها وخصائصها؛ وكلما كان تأثرها بخصائص غيرها وكيانه أعظم، كانت المقاومة ألزم في بعض الحالات وفي بعض النفوس، إما صيانة للبقية من استقلالها، وإما لكي تعذر نفسها لدى نفسها في استسلامها لسحر الاعتداد بالنفس سراً بمقاومة جهراً فترتاح إلى هذا العذر وتحسب أنها قد صانت به كرامة استقلالها. ولكن إذا كان الاعتداد بالنفس عظيماً، وكان مقروناً بقوة العبقرية أو البيان والفصاحة أو الخلابة أو العصبية المناصرة له تمكن على الزمن من تحويل الشيء الكثير من المقاومة إلى إعجاب، كالإعجاب الذي ناله من النفوس التي ناصرته من أول الأمر بسبب لذتها في الاستسلام أو لذتها في رؤية اعتدادها بنفسها مقدساً في شخص عظيم. وتغلب الاعتداد بالنفس على المقاومة يكون شبيهاً بتغلب النعاس على اليقظة. وقد لاقى المتنبي أشد المقاومة، ولكن شدة اعتداده بنفسه تمكنت من تحويل المقاومة على مر الزمن إلى إعجاب كثير
لقد كنا في عهد الصغر إذا قرأنا للمتنبي قوله:
من لو رآني ماءً مات من ظمأ ... ولو عرضتُ له في النوم لم ينم
تخيلناه مخلوقاً من مخلوقات الخيال في القصص الخرافية. وفخره العريض في هذا البيت وفي أمثاله كان من خواطر العظمة التي رآها لنفسه، ولكنا لم نشأ أن نعد كل أقواله في القتال وإراقة الدماء من قبيل خواطر السوء التي تمر بخاطر كل إنسان، لأن الرجل كان محارباً فعَّالاً كما كان متخيلاً قوَّالاً. وإذا صدقت قصة مقتله التي قيل فيها إنه فر طالباً النجاة ممن أغاروا عليه حتى ذكرَهُ مذكرٌ بقوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وذكره بأن من يقول هذا القول لا بد أن يكون فعله كقوله، فعاد للقتال حتى قُتلَ
أقول إذا صدقت هذه القصة: كان الاعتداد بالنفس الذي قتل، هو الاعتداد بالنفس الذي خلدَ عظمته وزادها. وهو أيضاً كذلك وإن لم تصدق هذه القصة عبد الرحمن شكري