مجلة الرسالة/العدد 291/التاريخ في سبر أبطاله
→ على هامش الفلسفة | مجلة الرسالة - العدد 291 التاريخ في سبر أبطاله [[مؤلف:|]] |
رسالة المرأة ← |
بتاريخ: 30 - 01 - 1939 |
محمد شريف باشا
كان شريف في عصره رجلا اجتمعت فيه الرجال وكانت
مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال
للأستاذ محمود الخفيف
ساقت الأقدار ولاية العهد لإسماعيل فاستبشر الناس وارتقبوا عهد هذا الأمير الذي ذاع من صفاته فيهم ما حببه إليهم، وكانوا قد علموا أنه من ذوي النباهة والحزم وبخاصة في شؤون المال! ولم يطل ترقب الناس، فقد آل إليه الأمر عام 1863 م وراحت مصر تستقبل طوراً من أطوار تاريخها، نحار أشد الحيرة ماذا نسميه وبأي الصفات ننعته. . طوراً كان غريباً حقاً، تترك غرابته العقول في دهشة شديدة وتكلف من يريد الإنصاف في درسه عسراً شديداً
ما برحت فرنسا وإنجلترا تراقبان الحوادث في وادي النيل؛ أما فرنسا فكانت لا تني تعمل على أن تزيد نفوذها الأدبي في مصر، ذلك النفوذ الذي وضعت أساسه حملتها في هذه البلاد والذي ما فتئ يتزايد ويعظم في عهد محمد على، وهاهو ذا في عهد إسماعيل قد بلغ غايته حينما اتصل في عهده البحران واستطاع ديلسبس أن يجري بينهما تلك القناة التي سوف تغير مجرى تاريخ هذا الوادي. . وأما إنجلترا فكانت على سياستها تحول دون ظهور قوة في مصر، وقد استراحت من محمد على وراحت اليوم تقف في وجه حفيده وتحرص على أن يظل خاضعاً للخليفة، ولما التقى البحران أصبح همها متجهاً إلى السيطرة على مصر لتسيطر على القناة
وكان شريف من رجال هذا الطور في الصف الأول ولكن كان ذلك من الوجهة الرسمية فحسب، فلقد لبث من عمره سنين لا تحس مصر شيئاً مما ظهر له من خطر في أواخر ذلك العهد. . . شهدت مصر في هذا الطور جلائل الأعمال ومظاهر الاستقلال، كما شهدت عوامل البلى وعناصر الانحلال. شهدت يد التعمير تبعث الحياة والنشاط والقوة في العاصمة وعلى صفحة الوادي؛ وشهدت يد التخريب تهوي بمعولها في غير هوادة أو رحمة فتزلزل البنيان وتقوض الأركان. شهدت العظمة الشامخة والثروة الباذخة وشهدت الذلة المستخذية والفقر المستكين؛ شهدت نوازع الاستبداد وشهدت دوافع الحرية؛ شهدت مواقف البطولة والصدق؛ وشهدت مخازي الدس والبهتان. . . شهدت مصر ذلك كله وشهدت زيادة عليه مثل ما تشهد الفريسة تجمعت عليها الذئاب وأوهنها طول الدفاع والجلاد
أراد إسماعيل أن يسبق عصره فيما يطلب من أوجه الكمال، فلن يجمل بمصر وهو واليها أن تكون قطعة من أفريقيا، ولا أن تكون جزءاً من تركيا، ولن يهدأ له بال حتى تنتسب مصر إلى أوربا، وحتى تحطم الأصفاد وتطرح عن عنقها نير الاستعباد
لم يمض من عهد هذا الأمير الفذ اثنا عشر عاماً حتى غمر مصر فيض من الإصلاح، وتهيأ لها من أسباب الرقي ما لم يكن ليتهيأ مثله في أقل من قرن إذا سارت الأمور سيرها العادي. . . ففي تلك الفترة الوجيزة وصل بين البحرين وشقت الترع الطويلة تحمل إلى أنحاء الوادي من مياه النهر وغرينه ما يدرأ عنها رمال الصحراء. ومدت سكك الحديد وأسلاك البرق، ونظم البريد ومهدت السبل وعقدت الجسور، وأصلحت الموانئ وأقيمت المنائر، وشيدت المصانع وافتتحت دور العلم للبنين والبنات وعني بالمتحف
وفي تلك الفترة تقلص نفوذ السلطان، وأحاطت بوالي مصر مظاهر السيادة فلقب بالخديو وسمح له بمنح الالقاب، وأطلقت يده فأصلح القضاء وأدخل على النظام الإداري كثيراً من الإصلاح وفي تلك الفترة سارت القاهرة تستبدل حياة بحياة، ومظهراً بمظهر، فتتخلص ما وسعها الجهد من أفريقيا ولا تني تقترب من أوروبا، وراح الخديو العظيم ينشر فيها من مظاهر همته ما جعل أعماله في هذا المضمار من عجائب القرن التاسع عشر، وما برحت القاهرة طول عهده غاصة (بالمونة والأحجار) تلك التي كانت هوى الخديو ومسرة فؤاده
ولكن إسماعيل وا أسفاه أنفق في سبيل ذلك المجد ما زاد على خمسين مليوناً من الجنيهات لم يكن لديه منها شيء يذكر. . . ولذلك لم يلبث أن رأى مصر التي أراد أن تكون قطعة من أوربا تساق على رغمه لأن تكون ملكاً لأوربا! فمن أوربا استدانت تلك الملايين؛ ولما عجزت عن دفع دينها كانت رهينة لذلك الدين.
أين كان شريف حين أخذت مصر في سياسة الاستدانة؛ وكيف فاته وهو الأريب الحاذق ما كانت تبيت إنجلترا من غدر لاقتناص مصر؟ أو لم ير أنها كانت تقيم من أموالها حول الوالي شباكا أحكمت نسجها يد المكر، وبالغت في سترها الرؤوس الماهرة والقلوب الغادرة؟
كان شريف ناظراً للخارجية كما سلف أن ذكرنا، فلما تم لإسماعيل الأمر أضاف إليه نظارة الداخلية، فهو يعرف شريفا معرفة خبرة ووثوق إذ كان له زميلا في الدراسة؛ وبقي شريف يدير المنصبين متمتعا بثقة إسماعيل وعطفه، خليقا بما نال منه من تكريم، وأي تكريم. كان أعظم يومئذ من أن يقيمه الوالي نائبا عنه حينما رحل إلى الآستانة عام 1865 وما كان إسماعيل ليفعل ذلك لولا أنه كان يرى شريفا أكثر الناس ولاء له
على أن شريفا لم يك يملك غير النصح في عصر كذلك العصر وتلقاء رجل كإسماعيل تناهى إليه السلطان والبأس حتى ليستنكف أن يذعن للخليفة، فيسعى ما وسعه السعي لتطلق يده في شؤون مصر كلها وبخاصة في عقد القروض
ولكن هل نصح شريف لإسماعيل كما كان خليقا أن يفعل؟ لو أنه فعل ذلك لجاء ذكره فيما جاء من أخبار ذلك العهد الذي كثرت فيه الأقوال. ومهما يكن من الأمر فقد ظل شريف فيما اختير له من المناصب لا يعارض ولا يغضب فيستقيل. . . وتلك مسألة أخرى نعدها على شريف ونأخذه بها. . .
بيد أننا من جهة أخرى نعود فنذكر أن مبدأ المسئولية الوزارية لم يكن قد قام في مصر بعد؛ فإسماعيل هو وحده المسؤول عن حكم مصر وسياسة مصر، وما على نظاره إلا أن ينفذوا ما يأمرهم به دون أن يكون لهم فيه رأي أو تكون عليهم من جرائه تبعة؛ ولم يك ثمة فرق بين جيب إسماعيل وخزينة مصر، ولذلك كانت سلطته المالية أعظم من سلطته الإدارية إن صح أن كان بين السلطتين تفاوت. . .
هذا كله حق لا سبيل إلى إنكاره، ومن أجله يخف وزر شريف وتقل ملامته، ولكنه لن يعفى من ذلك الوزر إلا أن نميل فنتحيز أو أن نذكر بعض ما بذله شريف من جهود جبارة في ما بعد في مقاومة نفوذ إسماعيل ومحاربة طغيان الأجانب فيحملنا ذلك على تناسي موقفه في تلك الفترة التي غلب على طبعه فيها الهدوء والرضى. . . على أننا لا نسيغ هذا ولا تطاوعنا النفس على ذلك.
والواقع أن هذه الفترة من حياة شريف فترة سكون لا يتفق وما جبلت عليه نفسه من شجاعة شهد له بها حتى خصومه، فهل كان مرد ذلك إلى ما كان من إذعان مصر نفسها واستسلامها؟
يخيل إلى أن ذلك أقرب إلى الصواب. فلقد كان الرأي العام في ذلك الوقت أعني مدى الاثني عشر عاماً الأولى من حكم إسماعيل لا يزال في مرحلة تكوينه، ولذلك لم يكن للشعب نفوذ إلى جانب نفوذ إسماعيل وجاهه، فمجلس شورى النواب الذي أنشأه الوالي والذي أولاه شريف حظاً كبيراً من عنايته ونشاطه، كان لا يملك حق محاسبة الحكومة؛ وكانت البلاد محرومة من الصحافة الوطنية، خالية من الأحزاب السياسية؛ وكان المتعلمون من المصريين منصرفين إلى المناصب الحكومية يتقدمون بالزلفى إلى إسماعيل وحكومته.
ولقد أدى الانتخاب لمجلس الشورى إلى حرمان المجلس من هذا العنصر ولو أنهم أرادوا أن يتجهوا إليه. . .
وعلى ذلك فلو أن شريفاً تحرك حركة قومية في ذلك الوقت لما هزت حركته النفوس، كما راحت تهزها حركاته فيما بعد حين أفاق الرأي العام على تدخل الأجانب في شئون مصر، وحين ظهرت فيه عناصر لم تكن موجودة من قبل، كدعوة جمال الدين التي أومضت في ظلمات ذلك العصر، وكظهور الصحافة واهتمام المتعلمين بقضية البلاد المالية، وغير ذلك من أسباب البعث والنهوض. . .
عندئذ آن لشريف أن يخطو، فكأنما كان قبل خطواته الوطنية في مرحلة الإرهاص، شأنه في ذلك شأن كثير من الزعماء من قبله ومن بعده. وما أعظم الشبه في ذلك بين سعد وشريف! فهذا سعد جبار هذا الوادي وزعيم أبطاله ومفخرة أجياله، ظل في الفترة الأولى من حياته ساكناً لولا ما كان من آثار قلمه ونفثات روحه. فلما سارت الحوادث سيرها، وتهيأت البلاد لانتفاضة تنفس عنها بعض ما بها تلفتت القلوب ودارت الأعين فلم تستقر إلا عليه كأنما ألهمت ذلك إلهاماً؟. . . وإنك لترى من أوجه الشبه غير هذا كثيراً بين سعد وشريف فيما نقص من سيرته
كان لابد للمسألة المالية أن تنتهي إلى من انتهت إليه ما تدخل الأجانب في شؤون مصر الداخلية، ولكن هذا التدخل لم يكن شرا كله كما اعتاد المؤرخون أن يصوروه، وحسبنا مما انطوى عليه من عناصر أن قد استيقظت على ضجيجه وصخبه مصر، فانبعثت القومية المصرية ومضت تنفض عن كاهلها غبار القرون على صورة أروع وأقوى مما تبدي في ثورتها على نابليون وكليبر، ومما ظهر من آمالها ومشيئتها يوم ذهب أبناؤها وعلى رأسهم عمر مكرم والشرقاوي يلبسون محمد على الكرك والقفطان دون أن يرجعوا فيما فعلوا إلى السلطان. . .
تراكمت الديون على مصر حتى أنها لم تكن تقل عن تسعين مليوناً من الجنيهات في عام 1875 م. فمن ديون سائرة كانت في ذاتها أبلغ ما نال الخديو من معاني الغبن، إلى ديون ثابتة فيها أوضح معاني الشره وأقبحها من جانب الدائنين، إلى قروض داخلية لجأ إليها (المفتش) ذلك الذي قام على شؤون مصر المالية، فكان في ذاته عبئاً فوق أثقالها التي ناءت بها، ومن تلك القروض الدالة على شدة الارتباك والخلل دينا المقابلة والرزنامة. . .
عندئذ تحركت إنجلترا نحو هدفها، وكانت أولى حركاتها في هذا المضمار شراء نصيب مصر من أسهم القناة، اشتراه دزرائيلي رئيس وزرائها بثمن بخس! ولم يرده عن ذلك عطلة البرلمان يوم إذ. وكيف يفوت دزرائيلي وهو الذي يعرف الفرص ويعرف كيف يقتنصها، كيف يفوت ذلك الداهية أمر كهذا الأمر يجعل مركز بلاده في القناة كمركز فرنسا أو أعظم، ويصحح خطأ وقعت فيه إنجلترا ألا وهو استهانتها بالمشروع أول الأمر ظناً منها أنه لن يتم، ثم تراخيها عن شراء الأسهم بعد ذلك رغبة في إحباطه
ولكن مصر بعد بيع أسهما لا تزال في حاجة إلى المال لتدفع به بعض ما جره عليها المال من وبال. وأنى لها المال بعد ذلك كله؟ وأية دولة تمد إليها يدها؟ إذا فالتفكر مصر في الإصلاح ثم فالتفكر إنجلترا في اصطياد الفريسة!
طلب الخديو موظفاً إنجليزيّاً يدرس لها شؤون مالها ويصلح ما يراه من أوجه الخلل؛ فتلكأت إنجلترا لأنها عن دهاء وجشع تحب أن تتدخل ولكنها لا تحب أن تفتح أعين غيرها
وجاء الموظف ولكنه زود من جانب حكومته بأوامر، فعليه أن يدرس وعليه فوق ذلك أن يحقق ويدقق ثم يرفع تقريراً عما رأى؟ وما لهاذا أراده إسماعيل فما كان يريد والي مصر إلا أن يكون هذا الموظف معيناً له في إصلاح مالية البلاد
ورفع (كيف) التقرير إلى حكومته وجاء دور دزرائيلي فأعلن البرلمان الإنجليزي في غير تردد ولا استحياء أنه يرغب عن نشر التقرير لأن الخديو رجاه في ذلك. ولعمر الحق ما رجاه الخديو ولا أشار إلى ذلك من قريب ولا من بعيد. . .
ذعر الدائنون، وهبطت أسهم مصر كما يقول رجال المال، وتلقى الخديو الصدمة العنيفة ممن أمل على يديهم الإصلاح وقال في مرارة وغيظ: (لقد احتفروا لي قبري) وهي كلمة موجعة جامعة، فبعد هذا التصريح من جانب دزرائيلي سيكون الطوفان. وما كان في تقرير كيف إلا أن مصر (تشكو مما ينتشر في الشرق من أمراض منها الجهل والإسراف والاختلاس والإهمال والتبذير وأنها تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعاً، وعلى مشروعات نافعة ولكنها تنطوي على الخطأ). بل لقد ذكر كيف في عبارة صريحة: (إن مصر تستطيع أن تدفع ما عليها من الديون إذا أحسنت إدارة البلاد). ولكن للسياسة مطامعها وأغراضها ولها من أجل ذلك أساليبها التي كثيراً ما تسخر مما تواضع عليه أغرار الناس من قواعد الخلق والاستقامة!
لم تستطع مصر أن تفلت من دائنيها فكان لابد من إذعانها لمراقبة مندوبيهم وتألف في مصر (صندوق الدين العام) فكان حكومة صغيرة من الأجانب داخل حكومتها؛ ثم وافق الخديو مكرها على تعيين مراقبين أجنبيين أحدهما إنجليزي للدخل والآخر فرنسي للصرف، وعين تبعا لهذين موظفين من الأجانب برواتب ضخمة؛ وعني الخديو حقا بالإصلاح يومئذ ولكن يد الغدر كانت من ورائه تبعث الارتباك وتنصب الشباك
وقبل الخديو فيما قبل على رغمه تأليف لجنة من الأجانب سميت (لجنة التحقيق العامة) جعل على رأسها دلسيبس ومنحت سلطة واسعة غير محدودة، فما كادت تعمل حتى اصطدمت، وكان اصطدامها في بدء عهدها لسوء حظها بالرجل الذي يتحفز ويتحين الفرصة ليثب.
ومن يكون ذلك الرجل في تلك الأيام العصيبة غير شريف؟
استدعته اللجنة ليمثل أمامها لتستفهمه، فتعاظمه الأمر فأبى. فأصرت اللجنة وقد خشيت على هيبتها ونفوذها، ولكنه خشي هو أيضاً على كرامته وكرامة منصبه فأصر كما أصرت. . . أيمثل شريف أمام لجنة من الأجانب؟ ولما لا تنتقل إليه اللجنة وهو العزيز بنزاهته واستقامته، الكبير بشخصه ومنصبه، العظيم بوطنيته وكرامته؟ إذا فليطلق شريف المنصب غير آسف وقد كان ما أراد فاستقال! وهزت البلاد استقالته بما تنطوي عليه من المعاني فلقد كانت وثبة في حينها، كانت غضبة من رجل في أمة عّد بها أمة في رجل؛ وهكذا خطوات أحرار الشمائل وعظماء الأجيال كأنما تجيء على قدر من الأيام فتكون رداً بليغاً على من يزعمون أن عظماء الرجال يدينون بعظمتهم لظروفهم لا لصفاتهم، هذه في مصر هي الظروف، فليت شعري لما لم يظهر غير شريف وقد غضب مع شريف عشرات غيره من الرجال؟
(يتبع)
الخفيف