مجلة الرسالة/العدد 290/مؤلف ثائر وموسيقار نابغ
→ التاريخ السياسي | مجلة الرسالة - العدد 290 مؤلف ثائر وموسيقار نابغ [[مؤلف:|]] |
الشتاء ← |
بتاريخ: 23 - 01 - 1939 |
مكسيم جوركي
يهدم الحكم القيصري
مبلغ تأثير أديب شعبي في حياة أمته
للأستاذ محمد لطفي جمعة
منذ بضعة أشهر، قضى في الستين من عمره شاليابين الممثل الروسي الأشهر، وكان أخلص أصدقاء جوركي، وقسيمَ حياته في شبابه وكهولته، ولجوركي فضل تحويله من نزعته الأرستقراطية إلى المذهب الاشتراكي. وخلف شاليابين فيما خلف ذكريات مخطوطة ورسائل منثورة تولى بعض أصدقائه نشرها في مجلة (العهد الجديد). ويمكن لمن يطالع هذه المذكرات والمقولات والقصاصات التي نشرت بعد طيها، أن يجدَ في أدب جوركي وفن شاليابين أدلة قوية على تأثير الأدب في حياة الأمم، وعلى تدخل الفنون والمواهب العقلية في كل ثورة طارئة على المجتمع. وهذا يذكرنا بما كان لسقراط وأفلاطون وسوفوكليس وأوريبيديس في اليونان، ولفيرجيل وإيبكتيت وسنيكا في الرومان، وفولتير وروسو في فرنسا، وإديسون وديفو وهيوم وبوكل وبنتام وكارليل في إنجلترا، وتورجنيف وجوجول ودوستيوفسكي وتولستوي وجوركي في روسيا
زعم بعض الدعاة أن جوركي نقم على صديقه القديم لينين بعض طرائق تفكيره ووسائل حكمه، وأنه غادر روسيا غاضباً ولم يعد إليها إلا بعد موت لينين؛ ولكن هذا النبأ كاذب، فإنهما عاشا وتعاشرا وافترقا على أصفى الود؛ وإنما أراد لينين بسفر جوركي إلى الخارج أن يكون بمثابة السفير العقلي ليفيد الروس من مجده الثابت في أذهان غرب أوربا، بينا هو كاتب عالمي يقوي جانب لينين بانضمامه ويعتز به. وقد ثبت من الوثائق التي أظهرها شاليابين أن كتب جوركي كانت تطبع وتنشر بالملايين في حقول روسيا وسهولها وبيوتها ومدارسها ومصانعها ومعاهدها أثناء غيبته في أوربا الغربية، تلك الغيبة التي عللوها بالجفوة بينه وبين لينين. ولو كان جوركي غاضباً أو مغضوباً عليه لم يكن ليستمتع بهذه الشهرة النادرة فقد أخرجت مطابع لينيجراد وموسكو وساراتوف ونيجسي نوفجورود سنتي 1924 و 1925 أكثر من أربعة ملايين نسخة من كتبه (المتشردون وكونولو وماريا المجدلية وتوماس جودوريف). وقد حبب جوركي إلى قلوب قرائه استقلاله في الأدب وغيرته على تكوينه الذاتي فقد أدب نفسه وربى عقله ولم يكن له أستاذ غير نفسه. لم يكن أناتول فرانس أول كاتب عظيم طلق اسمه، وخلعه وقذف به وتبرأ منه لثقله وعدم انسجامه وهو (تيبو) اسم سيئ الرنين في الأذن الفرنسية المرهفة الحس، وكذلك كان اسم جوركي مكسيموفتش بنشكوف، فاختصر الاسم ودفن اللقب وأحل محله جوركي ومعناه (ذو الغضاضة أو المرارة) وقد روى جوركي تاريخ أهله وترجمة حاله في طفولته وشبابه في رواية توماس جورديف. وإنه لشبيه بكل العظماء في اليتم، فكان يتيماً لطيماً، لفظه بيت الأسرة وتلقفته حوانيت المعلمين، وأركان الشوارع وسفائن الملاحة على نهر فولجا السحري الذي كرر ذكره في كتبه وخلَّد صور الحياة على ضفافه في قصصه الأولى، ومعظم أشخاصها من المفاليك والصعاليك والمنبوذين والمحاويج الذين علقوا بالنهر من قريب أو من بعيد. وتمتاز تلك القصص بالصدق لأنها مغمورة بالبؤس والضراء وخشونة الحياة وشظف العيش والإرغام على الصبر وتحمل المكاره التي حفت بها الدنيا. وتلقي التعليم الأول على يَد طاهٍ كان في بداية أمره من رجال الحرب، ثم وقف أمام الكانون يعد الطعام.
وطلب جوركي العلم في قازان والتمس العيش في مخبز وباع الفاكهة الفجة والناضجة في الأسواق. ويرجع إلى هذا العهد تلقين جوركي مبادئ الثورة الاجتماعية عن رجال ونساء كانوا يتخذون أزياء غير أزيائهم ويندسون في ثنايا المجتمع ليدعوا إلى الإصلاح. فيكون أحدهم أستاذاً في الجامعة أو طبيباً أو مهندساً ولا يأنف أن يستخفي في مباذل خباز أو عَجَّان أو خزاَّف. وقد عرض لجوركي أثناء تلك الفترة ألوان من المِحَن كاحتقار المثل العليا التي يخلقها الخيال - قصة (عشرون رجلاً وامرأة) - وسهولة الاتصال بالنساء واقتراف الجرائم في سبيل سد الرمق ومقاومة الجوع ولو بالقوت الضروري، وامتزاج الميول الجنسية بالحاجة المادية، وعجز الفاقة والشهوة عن خنق المواهب الكامنة في نفوس النوابغ والتي تظهر لأسباب طارئة تفِهة. فإن جوركي وهو في أشد حالات الضنك وأحط درك الاجتماع، كان مشتغلاً بحاضر العالم ومستقبله ومنابع الخير والشر في المجتمع ووجوب خدمة الإنسانية بأسرع ما يستطيع وبكل ما يملك من عقل وخلق وإرادة. كان جائعاً طريداً معدماً مدقعاً، ولكنه كان مفكراً وثائراً وحائراً، فلم يقف جوعه في طريق عقله، لأنه كان يشعر بامتلائه بما قرأ وما رأي وما سمع، وكان يبغض من أعماق قلبه منظر الآلام وأخبار الشقاء وترديد أنَّات التوجع، لأن حسه المرهف لم يطق تحملها، فما باله بالسخرية تصدر عن القوي من الضعيف والحاكم من المحكوم، والغني من الفقير، وبالاعتداء والتعذيب وإهراق الدماء. كان إذا قضت عليه الأحوال برؤية لون ما ألوان الأسى يحزن ثم يغضب ثم يثور، فإذا لم يجد من يشفي غليله انهال على نفسه ضرباً كنا يضرب الفلاح حماره. وقد أضرت به الفاقة فتعلق بأهداب الموت، ولكنه اتصل بتولستوي عن طريق كتبه وتلاميذه. وأخذ يكتب في نصف العقد الثالث حوالي سنة 1893 فاكتشفه كورلنكو فتبناه وأعانه. وكورلنكور من أكبر كتاب روسيا، غير أنه راح فريسة قسيس روسي خبيث حبب إليه الآخرة وقبح له الأدب والفن فأحرق مخطوطاته في باريس إرضاء لرجل الدين الذي تكشف عن جاسوس قيصري دسته عليه الحكومة لتسلب شعوره وتتركه لعبة في أيدي رجال الخفية. بيد أن جوركي أدرك كورلنكو قبل أن يصيبه الخبال فجنى من ثمار نبوغه وترسم خطاه في التحرر من قيود البيان وتبع المدرسة الجديدة التي تجعل للمعاني المكان الأول من ذهن الكاتب. وفتح له كورلنكو مغاليق الصحافة الأدبية. فأشتهر كتابه الأول في ختام الثلاثين من عمره ولم يكف عن التأليف والنشر بعد ذلك ثلاثين عاماً. ولم يخلع مكسيم جوركي ثياب الفلاحين ولم يبدل من طريقة عيشتهم. وكان وجهه بتقاطيعه وتقاسيمه الموجيكية يسحبه إلى الفطرة الروسية سحباً. ولا عجب ولا غرابة فقد كان جزءاً من تلك الخليقة الموسكوفية والسليقة السلافية أشبه الرجال بليو تولستوي. يقول شاليابين: (إلى تلك الفترة ترجع تلك اللوحة الزيتية العجيبة التي أنتجتها مواهب صديقه ريبين، فقد صور جوركي في بذلة فلاح مديد القامة بارز الوجنتين صغير الذقن قصير الأنف غزير الشعر أشعث المظهر. . . تمثالاً حياً وصورة ناطقة لفتى الريف الروسي في أذكى هيأته وأنبلها. فلله در ريبين الذي خلد ببراعته صورة صاحبه. وكان تسلق جوركي سلم الصيت سريعاً. وقد بَذَّ في صعوده الأمجاد من أمثال تولستوي وجوجول وتورغنيف. وتعليل ذلك أنه نال من نفوس الشعب، فأحبه وعطف عليه، ووثق من مقاصده، وكأنه رآه يخلق ويصنع على عين أمته فلم يكن شيء من حياته خافياً. وكانت الأفئدة مستعدة لتسلم هذا الأثر، ولا سيما أفئدة العمال والصناع الذين ما زجهم جوركي وخالطهم واتصل بهم وعمل على تحريرهم من قيود الفقر والظلم القيصري، ولم يخجل من ذكر حوادث ماضيه واختلاطه أحياناً بالنساء البائسات في حوانيت أو مخازن أو خرائب مهجورة أو على شواطئ البحر وضفاف الأنهار. لأن هذا الذي سمَّاه (الفريسيون) وصغار البورجوازين سقوطا، لم يكن إلا تسامياً عن طريق الألم فكان أحياناً يفكر في حظ الإنسان ومستقبل الحضارة ويحدث نفسه بإحداث أعظم أثر في المجتمع، وهو لاصق إلى فتاة مسكينة تُعد منبوذة في حكم النظام الاجتماعي. وكان شاليابين ولينين من الأصدقاء الذين اتصلوا به في أوربا الغربية حين نزْح إليها منذ ثلاثين عاماً. وعندما حكمت محكمة بطرسبرج على جوركي بالسجن لاشتراكه في مظاهرة البوب جابون احتج تولستوي بخطاب مفتوح إلى القيصر وانضم إليه مفكرون فرنسيون وإنجليز. ونشر في ضحى هذا القرن ذكريات طفولته تقليداً لتولستوي الذي فعل ذلك وكان كلاهما مخلصاً في وصف هذه الفترة من حياته. وكان صدر جوركي ضعيفاً فألزمه الأطباء جزيرة كابري فقصد إليها ولم يكن له زوج وأولاد يرعونه، فإن حياته الأولى في ظلال الشقوة والقلق والفلاكة عدلت به عن اتباع طريق العادة. ولعل تعففه عن النساء في أواسط عمره مكَّن له من مقاومة داء الصدر الوبيل الذي أصيب به في أوائل شبابه، فنفض عن كاهليه غبار المرض في جو تلك الجزيرة الصاحية الضاحكة ذات الألوان البهيجة والظلال الوارفة والأشجار الملتفة والأشعة البنفسجية. وفي كابري زاره الأدباء والعلماء والزعماء ولا سيما لينين الذي كان يهرع إلى تلك الجزيرة ليتخذ منها مغنى وملهى وموضعاً للتفكير والتدبير. ولم يكن جوركي خصم الشيوعية من اللحظة الأولى، ولكنه لم يكن لها باختياره، لأن الشعب تعلق بكتبه، وأعجب بأدبه، فطلب إليه لينين أن يرأس تحرير جريدته فأجاب سؤلهَ. ففاز به لينين ولشد ما كان إعجابه بهذا الفوز، لأن جوركي كان الكاتب الكبير المخضرم، وهو الوحيد بين من عطفوا على الثورة. وكانت تعوقه عن التمادي في نصرتها عقبة عقلية ونفسانية، وهي أنه بنشأته وغريزته يعين الفرد، ويعززه ويعمل على تنميته وتعظيمه والإعجاب به، والثورة الشيوعية تود لو تمحو شخصية الفرد ليندمج في المجموع ويسخر له. وفي هذا المذهب ابتلاع لمبادئ الفلسفة الاجتماعية التي سرت إلى سريرة جوركي وسرائر أساتذته وأصدقائه. ولكن الشيوعيين اعتقدوا أنهم في حاجة إلى كاتب فحل واسم ضخم وثائر عنيف، يقف كالطود وينصب كالعلم ليلتف حوله أولاده وتلاميذه، فلم يبخل جوركي على وطنه بهذه النعمة، وقد روى لي (شليابين هو المتكلم): أن ستالين قال له يوماً في موسكو:
- ما عليك يا ابن مكسيموفتش العزيز!
أليس هذا النظام الذي يحارب الفقر والجهل والمرض وينتزع الشعب المقهور من براثن الفاقة، ويعد مستقبلاً سعيداً لملايين المساكين الذين طال تعذيبهم، وكتبك كلها ناطقة بالحنان عليهم
أترانا نبالغ أحياناً ونطلب المزيد؟ فأعرض عنا قليلاً قليلاً، ولكن لا تتخل عنا. نحن أقرب الناس إليك في سوق هذه الحياة الدنيا (كذا)، ولا أهل لك غيرنا لو تأملت. أما أنا فستجدني أطوع لك من لينين، أي من بنانك. فأنا أعلم أنه كان يحبك حباً جماً، ولا يخيب لك رجاء، وحسنا فعل. . .
فقلت له: ولكنني في حاجة إلى الراحة. فقد بقيت أكتب وأكتب منذ ثلاثين عاماً وأكثر. أما آن لي أن أستريح؟
قال لي: لكن قلمك اخترق قلوب الشعب، فلا يحلو لهم غير الذي تصوغ من درر الفن الرفيع. إن تعلق الشعب بك بعد أن مات تولستوي وتشيكوف، وبعد أَن فرأندرييف أشد من تعلقك بشليابين لحبك موسيقاه وتفانيك في أنغامه
وسألت جوركي في هذا فقال لي: أنا أحبك لذاتك. أنت شيطان الموسيقى الأكبر، ولكن الموسيقى التي تجذبني هي التي سمعتها على ضفاف نهر الفولجا أو في سفائن تمخر أمواهه
محمد لطفي جمعة