الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 29/من طرائف الشعر

مجلة الرسالة/العدد 29/من طرائف الشعر

بتاريخ: 22 - 01 - 1934


النشيد!

للشاعر الوجداني علي محمود طه

عندما ظلَّلني الوادي مساء ... كان طيفٌ في الدجى يجلس قربي

في يديه زهرةٌ تقطر ماء ... سَمِعَتْ أذني بها أنَّاتِ قلبي!

قلت من أنتَ؟ فلباني مُجيبا ... نحن يا صاحِ غريبان هنا!

قد نزلتُ السهلَ والليلَ الرهيبا ... حيث ترعاني وأرعاك أنا!!

قلت يا طيفُ أثرت النفس شكا ... كيف أقبلت وقلْ لي من دعاكا؟

قال أشفقتُ من الليل عليكا ... فتتبعتُ إلى الوادي خطاكا!

ودنا مني وغنَّاني النشيدا ... فعرفت الصوت واللحن الشجيا

هوَ حبِّي هام في الليلِ شريداً ... مثلما هِمْتُ لنلقاك سويَّا!

وتعانقنا وأجهشنا أنيناً ... وانطلقنا في حديثٍ وشجونْ

ودَنا الموعدُ فاهتجنا حنينا ... وتنظرناكَ والليلُ عيونْ

أقْبَلَ الليلُ فأقبَلَ مَوهنا ... والتمس مجلسَنَا تحت الظلالِ

وافِنِي نصدحْ بألحان المنى ... ونعُبُّ الكأسَ من خمر الخيال

أقبِل الليلةَ وانظر واسمعِ ... كلُّ ما في الكونِ يشدو بمزاركْ

جِئتُ بالأحلامِ والذكرى معي ... وجلسنا في الدجى رهن انتظاركْ

سترى يا حسنُ ما أعددتُه ... لك من ذخرٍ وحسن ومتاعْ

هو قلبي في الهوى ذوبتهُ ... لك في رفَّاف لحنٍ وشعاعْ

وهو شعرٌ صَوَّرَتْ ألوانه ... بهجةَ الفجر وأحزانَ الشفقْ

ونشيدٌ مَثَّلَت ألحانهُ ... همساتِ النَّجم في أذن الغَسق

ذاك قلبي عارياً بين يديك ... أخذتْه منك روعاتُ الإله

فتأملْه دماً في راحتيك ... وذَماءً منكَ يستوحي الحياه

باكيَ الأحلامِ محزونَ المنى ... ضاحك الآلام بسَّامَ الجراح

لم يكن إلاَّ تقيَّا مؤمناً ... بالذي أغرى بحبيكَ الطماح يتمنى فيكَ لو يفنى كما ... يتفانى الغيمُ في البحر العُباب

أو يُلاشي فيك حياً مثلما ... يتلاشى في الضحى ومض الشهاب

زهرةٌ اطلعها فردوسُ حبك ... استمدت نورَها من ناظريك

خفقت أوراقُها في ظلِّ قربك ... وسرت أنفاسُها من شفتيك

هي من حسنكَ تحيا وتمون ... فاحمها يا حسنُ إعصارَ المنون

أولِها الدفَء من الصدر الحنون ... أو فهبها النورَ من هذي العيون

دمعُها الأنداءُ والعطر الشَّجا ... وصدى أناتها همسُ النسيم

فاحبُها منكَ الربيعَ المرتجى ... تصدح الأيامُ باللحن الرخيم

لو أمكنتني فرصة!

ريان من ماء الحياة ... وسرها في وجنتيه

كالجدول المفتون في ... وشى الرياض أنبيه

غنَّى بلحن مسكر ... وبلابل الوادي لديه

لا يرتوي منه الظما ... ء ولا ترى طيراً عليه

ومن العجائب أن ترى ... ناراً تشب بوجنتيه

فتثير نيراناً بقلبي ... كلما أرنو إليه

لو أمكنتني فرصة ... أطفأتها من شفتيه

شرق الأردن

حسني فرير

إبليس

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

أسرفتَ يا إبليس في الوسواس ... فأعوذ منك بربِّ هذا الناسِ

أغويتني من بعد ما استدرجتني ... مستحوذاً حتى على أنفاسي

حسَّنت في عيني الشرور فجئتها ... وضممتُ أرجاساً على أرجاسِ ونفذت في أعماق قلبي فاتحا ... حتى ملكت منافذ الإحساس

فتعاورتني للشكوك وساوس ... سودٌ وعافت مجلس جُلاّسي

أفرغت قلبي من رِضى يقينه ... وملأت بالشكّ المبرّح راسي

من بعد ما جرَّعتني مر الأسى ... أترعت بالمصل المخدر كأسي

إبليس ما أشركتني في صفقة ... إلا قضيت عليَّ بالإفلاس

إبليسُ أنت وليُّ كل ذوي الهوى ... إبليس انك في الولاية قاس

لم يبقى مما كان لي قبلاً سوى ... ثوب كخائبة المُنى أدراس

تُلقِي العداوةَ موغراً بين الورى ... فتثير أجناسا على أجناس

لو اعتقدتَ بهم شعوراً في الردى ... لتبعتَهم تغوى إلى الأرماس

تُذكي الحروب وأنت فيها سالم ... مما يضر بالنفس الأحلاس

أتعستَ أقواماً لتسعد غيرهم ... والشر كل الشر في الإتعاس

كوخٌ حقيرٌ ثم قصرٌ شاهقٌ ... ومآتمُ في جانب الأعراس

لا تسترح وأنت عنهم في غنًى ... حتى توسوس في صدور الناس

مالي سوى دمعٍ يفيض ندامةً ... ما سوف أكتبه على القرطاس

ذكريات في الجزيرة

للأستاذ الحاج محمد الهراوي

لي في الجزيرة ذكريات كلما ... خطرت تهز من الحنين فؤادي

فلقد لبست الغيّ في شرخ الصبا ... ومضيت طوع مراده ومرادي

وشربت من كأس الهوى وأبحته ... وعصيت فيه رويتي وسدادي

أيام انعم بالشباب وبالمنى ... ولقاء من أهوى على ميعاد

نلهو ونمرح، والهوى ما بيننا ... نجوى يراوح بيننا ويغادي

تتحدث العينان في لحظيهما ... عما يحز الشوق في الأكباد

متجاذبين ما حديث صبابة ... ولذيذ وصل بعد طول بعاد

متبادلين على الشراب ونقله ... قبلات شوق في عناق وداد فوق الغدير وبين أزهار الربى ... في ظل غصن الدوحة المياد

نخشى النسيم تشي بنا خطرات ... إن مر بالعذال والحساد

مستأثرين نغار من عبث الصبا ... ونخاف جامحة الزمان العادي

متعانقين نهيم في وادي الكرى ... متيقظين على الحمام الشادي

متساقيين من الرضاب، وانه ... خمر الهوى في غيه المتمادي

تمضي بنا الساعات لا ندري لها ... كيف انقضت في يقظتي ورقاد

فدع الهوى العذري بعد زمانهم ... ما مر من زمن فغير معاد

جمح الشباب وما ثنيت عنانه ... وجرى، وما من وازع أو هاد

فإذا الغواية موبقات كلها ... تأتي على الأرواح والأجساد

فغسلت بالحج المبارك حويتي ... ورجعت حين رجعت في الزهاد

ولقد مررت على الجزيرة لا كلما ... عهدته في غي مع الوراد

فإذا بها وكأنها حجت معي ... أو أننا عدنا معاً لرشاد