الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 29/القصص

مجلة الرسالة/العدد 29/القصص

مجلة الرسالة - العدد 29
القصص
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 01 - 1934


نشيد الكرنك

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

لقد كانت أياماً مليئة بالحياة. جادها الغيث إذا الغيث همى

جلسنا بعد سير طويل عند مدخل البهو ذي الأعمدة، واخذ بعض الرفقة ينطقون أوتار المزهر والكمان والقانون فترتفع مقاطعها المتآلفة المتناسقة بأحسن الأنغام وأطيب الألحان ثم تجاوبت الأصداء العجيبة من نواحي ذلك البهو الفسيح، فإذا الجو له يطن بأمواج مختلفة القوة من أصوات عذبة ساحرة، واستلقيت على مسافة من الجمع إذ كنت من أكثرهم تعبا، ولكن وان عزبت عن الضجة والصخب لم تفتني نفحات الموسيقى الحلوة وقد صفاها البعد ونقاها

وفيما أنا كذلك إذا بي وقد تمثل ذلك الهيكل منذ كان في شبابه، ورونقه، وقد قامت فيه الأعمدة باسقة تحمل تيجانها النيلوفرية وتكسوها النقوش البديعة الذهبية، وفي مداخلها المسلات النحيلة الرشيقة تلمع رؤوسها النحاسية في ضوء الشمس المائلة إلى الغروب، ثم تمثلت منظر الهيكل يوم عيد عظيم وقد ازدحم بالكهنة يصطفون للقاء فرعون وهم ينشدون نشيد الترحيب والتكريم، حتى إذا ما اقبل خروا إلى الأذقان ركعاً لابن الآلهة وسليل حوريس. فخيل إلي وأنا وسط هذه التأملات إن ذلك الصوت المنبعث إلى آذاني من موسيقى أصدقائي هو صوت هؤلاء الكهنة يتردد بين جدران المعبد القائم الجديد. وغرقت في خيالي وإذا بي وقد لف الظلام ما حولي. وإذا بي أرى من خلال الظلام عالماً سحرياً عجيباً ينشر من بين هذه الأطلال الهرمة:

رأيت (فرعون) مقبلاً يحمل في يداه عصا مذهبة وعلى رأسها تاج تحف به من أسفله الحية الملكية.

فخر الوقوف ساجدين وتعالت في جنبات المعبد أصداء موسيقى بديعة بالنشيد الملكي وألقى في روعي إن معناه

لاح حورماخيس يملأ الأرض بأنوار الصباح

يا ابن اوزيريس روحك الأقدس من روح بتاح وكان (فرعون) نحيل الجسم قصير العود تعلو وجهه الأسمر صفرة كصفرة النرجس الذابلة. ولما رأيته وتبينت ملامحه لم املك نفسي إن صحت صيحة مكتومة هائلة. (أتعرف توت عنخ آمون؟) إذا كان صاحب الصورة التي ألفنا رؤيتها منذ كشف المقبرة المشهورة.

وقد كان المنظر الذي حولي يدعوني إلى الخشوع والرهبة. غير إني مع ذلك وجدت من نفسي كبراً أن اسجد لمخلوق، فلم اسجد مع الساجدين، وكنت أخشى أن يمسني من ذلك سوء. غير إني تعجبت إذ رأيت الحاضرين لم يزعجهم ذلك بل كأنهم لم يلحظوا شيئا.

فتجرأت وقمت أسير وراء موكب الملك بين صفوة المتقربين وهامات رجال الجيش وكبار الكهنة.

وسار (فرعون) في سبيل مرسومة إلى أن بلغ قدس الأقداس خلال الأغصان الملتفة والأوراق المتعانقة المتراقصة. كأنها الرقراق من جدول يجري بعد الترويق، أو النسيم يسري من تعدد المسارب والثنيات، فكانت إذا بلغتني تتوارد هينة مصقولة فتخلف عنه القواد وسجدوا إيذانا بالوقوف عند حد الحرم الممنوع، ولكني دخلت وراء الموكب ولم يبقى فيه إلا الملك والكاهن الأعظم وبعض كبار الكهنة يحملون في أيديهم هدايا الملك إلى إله طيبة الأعظم (آمون). فلما أن بلغوا المذبح وضعوا ما بأيديهم وانحنوا إجلالا، ثم وضعوا البخور في المجامر وعلا صوتهم بنشيد قدس الأقداس:

أأمون بارك سليل العلا ... ومن فيه يجري دم الاقدسين

ولكنهم وقفوا حيث انتهى بهم السير، ودخل الملك وحده إلى الحرم الأقدس يتبعه الكاهن الأعظم، فترددت قليلا ثم عاودتني الجرأة فسرت وراء الملك إلى قلب ذلك المكان المحرم، ولكني عجبت إذ لم يمنعني أحد ولم تلتفت إلي عين. ولقد راعني الأمر وهالني مخافة أن أكون أقدمت على انتهاك حرمة جزاء الاعتداء عليها الهلاك. فقد كنت اعرف إن ذاك الحرم لا يحل دخوله إلا للملك ولرئيس الكهنة، وان الموت هو العقاب لمن يدخله من غيرهما. غير إني مع ذلك لم الو على شيء، بل سرت قدماً وسط الظلام الدامس الذي لا تضيء فيه إلا ذبالة ضئيلة في زجاجة حمراء لا يكاد الإنسان يتبين فيها إلا أشباحاً كأنها الظلال المتحركة.

ولما صار الملك هناك وحده مع الكاهن، أقول وحده لان كل الأدلة تدل على انه لم يلحظ وجودي - استلقى على مقعد استلقاء المجهد السقيم وان أنة المتوجع المكلوم.

وسمعت صوت الكاهن الهادئ يخترق ذلك الظلام بنبرات خفية متزنة ولست اذكر ألفاظه ولكني كنت افهم ما اسمع بإلهام عجيب: قال (أي بني! شملتك رحمة آمون).

فصاح الملك صيحة مكبوتة (أيها الشيخ! نحن هنا وحدنا)

فقال الكاهن (اعرف ذلك ولهذا اطلب لك رحمة آمون)

فقال الملك بالصيحة ذاتها (ليتني كنت لا اعرف! ليتني كنت أستطيع أن اصدق!)

فقال الكاهن (أي بني! انك لا زلت شاباً وقد يغتفر للشاب أن يشك أحياناً)

فصاح الملك (اشك؟ إنني لا اشك. إنما انطق عن عقيدة. فلماذا يكون لتمثال مصنوع من الذهب في قلبي من الاحترام؟)

فقال الكاهن بلهجة مرة (ولكنك ملك. وان كنت لا تستطيع أن تصدق فعليك أن تصدق.)

فقال الملك محتدا (ماذا اصدق؟ هل اصدق إن آمون اله يرحم، أو جبار ينتقم؟ نحن هنا وحدنا فلا بأس أن تقول الحقيقة مجردة. ليس آمون هو الذي يتطلب مني الإيمان والخضوع بل هو (آي) الكاهن الأعظم وليس هو آمون الذي يرضى أن يسخط بل هم الكهنة الذين يحملون رمزه ويقومون على سدانة تمثاله الأخرس. هم كهنة آمون اللذين يطلبون مني الخضوع والعبادة) فقال الكاهن بهدوء (ثم ماذا؟) فقال الملك (ومع ذلك فقد كنت صريحا مع نفسي ورضيت بتغيير اسمي من (توت عنخ آتون) إلى (توت عنخ آمون) فتركت الإله الواحد القادر وآمنت بإله مزيف وأنا عالم بأنني إنما أؤمن بإله مزيف ولكي اضلل وأزيف.

فقاطعه الكاهن وقد بلغ الغضب على هدوءه وسخريته المرة قائلا:

(حسبك يا ساكاي) فصاح الملك (ساكاي!)

فأجاب (آي) (نعم ساكاي. انك لا تمت إلى الملوك إلا بصلة النسب والاعتقاد. وقد بطل ذلك الاعتقاد الفاسد في إلهك (آتون) منذ مات ذلك المجرم الذي كان يحكم في (آختاتون) وأما علاقة النسب فمن السهل البحث عن علاقة أقوى منها واجدر بالملك)

وعند ذلك لاح شبح الملك وهو ينهض غاضباً ويرفع رأسه متحدياً. ولكنه لم يقل كلمة واحدة بل بقى واقفاً وصدره يزدحم بأنفاسه. ونهض الكاهن كذلك ووقف أمامه واستمر في قوله، وكان في حماسته يحرك رأسه ولحيته الطويلة بشي من العنف ويرفع رأسه عالياً مع ما في ظهره من انحناء الشيخوخة: قال (لا تغضب من الحق.) وان شئت أن تغضب ففكر في العاقبة قبل أن تخطو في سبيلك خطوة واحدة. إنني أحذر. إنني انذر. والبلاد كما ترى في اشد حالات الاضطراب والفوضى وقد صارت كالنسر المجرد من ريشه أو الأسد الذي قلمت أظافره).

فعاد الملك إلى مقعده وأن أنة أخرى اعمق من الأولى واشد مرارة ثم استمر الكاهن فقال:

(ومع ذلك فأسمع قصة قصيرة قد تكون مغنية عن قول كثير. إننا نحتفل اليوم بعيد اختيار آمون لجد زوجتك الملكية، الملك تحوتمس الثالث. ولقد كان ذلك الملك العظيم كما تعرف غير مرشح للملك لانه ابن محظية لا تجري في أمه دماء الآلهة. ولكن آمون رضى عنه ومال إليه في أول دورة، ووقف أمامه في يوم احتفال كهذا. فاظهر بذلك ارتياحه إليه وصار المُلك من ذلك اليوم اليه، فتنحى أبوه عن الملك وتنحى أخوه بل لقد تنحت أخته نفسها وهي التي تجري في عروقها دماء الآلهة. أتعرف هذا؟)

فتمتم توت عنخ قائلا (نعم. اعرفه) فقال الكاهن (وإذاً فلك الخيار. سأقول اليوم كلمتي إذا ما خرجنا من هنا على مسمع من رجال الدولة والكهنة والأمراء. وإذا شئت فارفض ما أقول)

قال هذا ثم نهض رافعا رأسه واتبعه الملك الصغير مطأطئ الرأس حزيناً ولما مر (توت عنخ) على مقربة مني وقعت على وجهه شعاعة من ضوء الذبالة فإذا على وجنته دمعة تترقرق وتلمع في الضوء الخافت.

ولما بلغ الكاهن الأعظم مكان المحراب عرج عليه لكي يؤدي فرضاً من الفروض المرسومة وألقى بعض البخور في المجامر المتقدة ثم سار وراء الملك حتى بلغا الفناء الفسيح في وسط الهيكل، وكان هناك الحشد الحافل من أهل الدولة والكهنة والقواد والأمراء فخروا جميعا للأذقان سجداً يتلقون الملك والكاهن الأعظم، ثم جلس الملك على عرش منصوب في الصدر، وقام الكاهن الأعظم فألقى كلمة قصيرة قال فيها:

(أيها القواد العظام والأمراء الكرام! لقد دخل الملك العظيم ابن الآلهة إلى قدس الأقداس وتجلت له أسرار آمون وظهر من إيمانه وبره ما جعل الإله العظيم يتجلى له. ولكن تجلى آمون للملك العظيم. فالشكر لامون)

فسجد الجميع، مرة أخرى وقام الملك سائرا نحو الكاهن الأعظم وكانت خطاه مترددة مضطربة. ثم قال بصوت مختنق متهدج (المجد لآمون) فعلت عند ذلك ضجة من الجمع الخاشع كأنها ضجة التهليل والتسبيح.

وارتفع صوت الكهنة بنشيد الملك: (لاح حودماخيس، يملأ الأرض بأنوار الصباح) ثم حمل الكهنة تمثال آمون الذهبي وداروا به حول الفناء أمام الحضور حتى أتوا أمام عرش الملك فوقفوا واقبل التمثال محمولاً على الأعناق لكي يبارك الملك المحبوب المؤمن.

لقد تجلى آمون (لتوت عنخ) ورضى عنه لما في قلبه من الإيمان، وقام الملك بعد ذلك يتعثر في مشيته وقد زاد وجهه شحوبا على شحوبه وغارت عيناه وترددت فيهما قطرات تكاد تعيشهما. وعند ذلك علا صوت الكهنة مرة أخرى بنشيد

(أآمون بارك سليل العلا)

فتجاوبت به الأصداء بين جدران المعبد وتماوجت نغماته وكان بعضها يفنى كما تفنى الموجة إذا اتسعت دائرتها وبلغت مداها وتجددت من أعقابها موجة أخرى لا تلبث أن تبلغ مداها.

وعند ذلك انجلى الظلام وأسفر المنظر فإذا بإخواني ينشدون نشيدهم على آلات الكمان والعود والقانون. وإذا بي لا زلت منتحيا منهم ناحية راقدا على جانب حجر مكتوب الصفحات.

محمد فريد أبو حديد