الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 29/الجمال الطبيعي والفني

مجلة الرسالة/العدد 29/الجمال الطبيعي والفني

مجلة الرسالة - العدد 29
الجمال الطبيعي والفني
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 01 - 1934


للأديب الإنجليزي كلاتون بروك

-

عن كتابه (مقالات في الفن

للطبيعة جمالها وللفن جماله، وقد بذلت مساع كثيرة لإيضاح الفرق بين الجمال الفني والجمال الطبيعي؛ لكن نظرية (سيجنرجروس كثيرة الأنصار اليوم، وهي تقول: (إن الطبيعة تمد الفنان بالمواد الأولية فقط، وان الشعور بجمال الطبيعة هو مبدأ التدرج الفني، وان عقل الفنان موجد الترتيب والتناسب في الطبيعة المهوشة، وان الناس جميعهم قادرون على إيجاد هذا الترتيب ولكن بدرجة محدودة. أما الفنان فيظهر هما اكثر جمالا وكمالا، الفنان قوي الإحساس يستطيع أن يصنع الجمال الذي يحسه، الاحساس جزء من الصنعة).

ويقول جروس: (إذا كان الفنان يصنع جمال الطبيعة بشعوره به، وإذا كان من الممكن أن يتولد هذا الجمال بعمل عقله، يكون جمال الطبيعة حينئذ من نفس الجمال الذي يظهر في فنه، ثم إذ ظهر لنا أن فن الفنان يختلف عن جمال الطبيعة فما ذلك إلا لأننا أنفسنا لم ننظر جمال الطبيعة كما نظره الفنان. ولأننا لم نحول كل التهويش إلى ترتيب. واعلم إن هذا الاختلاف بين عمل الفن وعمل الطبيعة ليس اختلاف نوع بل اختلاف قدر، وانه لا اختلاف في الحقيقة بين جمال الطبيعة وجمال الفن لا في النوع ولا في القدر. إن ما يصنعه الفنان يرى، وما يراه يصنعه، كل الجمال فني، وان حديثك عن جمال طبيعي حديث خرافات).

رغما عن (جروس) وكل حذقه وما في نظريته المتطرفة من حق لا يمكن أن نعتقد أننا نصنع الجمال حينما نراه، وان الفنان يصنعه حينما يحسه، ولن نعتقد إن الجمال الذي يصنعه هو من نفس طبيعة الجمال الذي شعر به، ولا هوـ مثلنا ـ يقدر الجمال الذي يحسه حق قدره لأنه يعلم إن لابد له من صنعه، وانه شئ مستقل عن نفسه. الفن ليس اكثر من تأثر عقل الفنان

بجمال الطبيعة، وعلى قدر ما في العمل الفني من عاطفة وإحساس يكون ما فيه من جمال.

إذا عرف الفنان إن الجمال الذي يحسه هو نتاج عقله، لا يستطيع بعدها أن يقدره حق قدره، وانه إذا تمسك بنظرية (جروس) خرج عن كونه فناناً واصبح ذا صفة أخرى ; لا شئ يقتل الفن مثل الجري وراء إيجاد جمال من نفس طبيعة الجمال الذي نراه في الطبيعة. نشاهد في جمال الطبيعة في الإتقان، وأنها كذلك غاية في الإتقان ; لأنه لا يوجد في الحقيقة ثمة صنعة، الأشياء الطبيعية لم تصنع وإنما ولدت، اعمل الفنالتي صنعت والأشياء التي ولدت، ثم بين جمال هذه وجمال تلك.

لابد وان يظهر في كل من الأعمال الفنية جهد الصنعة ونقصها وخشونتها، وان هذا الجهد والنقص والخشونة إنما هو في الحقيقة روح جمال الأعمال الفنية وانه هو الذي يميزها من جمال الطبيعة، وحالما يمتنع الناس عن فهم ذلك ويستخفون هذا الجهد والنقص والخشونة، تراهم على الغالب لا يظفرون حين يطلبون من الفن الجمال الطبيعي بغير جمال ميت.

يمكننا أن نفهم احسن فهم الفرق بين نوعى الجمال إذا نحن تدبرنا كيف ينسل الجمال في اللغة، هذا الفن الذي نمارسه جميعنا قليلاً أو كثيرا، والذي يصعب فيه الم يكن مستحيلاً تقليد غاية الجمال الطبيعي؛ لا يوجد جمال في جملة: (سينال المعتدين جزائهم) لأنها تؤدي المعنى المراد تماما بلا زيادة ولا نقصان، ويوجد جمال في مثل جملة (ليال سرقناها من الدهر. . .) لان فيها، وان كانت تظهر أيضاً غاية في البساطة، يحاول الشعر إن يقول اكثر بألف مرة مما يستطيع أن يقوله، إن السعي في عمل ما هو خارج عن طاقة الكلمات هو الذي يحمل الجمال إلى الكلمات؛ تلك هي طبيعة الجمال الفني التي بها يتميز من الجمال الطبيعي، الأعمال الفنية هي دائماً وليدة السعي لتمام المستحيل، لإتمام ما يعرفه الفنان انه مستحيل، وانه حينما لا يوجد هذا السعي، حينما يكلف الفنان نفسه عملاً في وسعه اتمامه، عملاً لا يدل على غير المهارة، حينئذ يخرج عن كونه فناناً. يقول (جروس) إن شعورنا بالجمال يتوقف علىقوة إحساسنا بعظمة الأشياء، هذا صحيح؛ غير إن قوة إحساسنا هذه تبقى قوة إحساس غير قادرة على صنع ما تحسه! إن الفن ليس مجرد اتساع طريق الشعور كما يزعم (جروس)، وإنما هو تجربة عمليه لإظهار مقدار شعور رجل الفن. فن الفنان جواب لجمال الطبيعة وعبادة له.

الفن إيضاح حالات خاصة، حالات إعجاب وتقدير، هو التسليم ببعض أشياء اعظم من الإنسان وحيث لا يوجد هذا التسليم يموت الفن.

إن هذا الفرق بين جمال الطبيعة وجمال الفن لا يرى في الجمعية التي تعتقد أنها تستطيع إن ترفع سماء بمهاراتها وعلمها وحكمتها، إن الفن في مثل هذه الجمعية يفقد كل خواص جمالة. إن الرجل الذي يتطلع إلى الكمال في الفن إنما يخدع نفسه إذ الكمال لله وحده، ولا ريب إن من عرف الله حق المعرفة اصبح شبيها به وأمكنه أن يكون الجمال مثله، ولكن أبى للإنسان ذلك، بل إن العجز ليجعله غير قادر على إتمام موضوعاته التي توحي إليه بها معرفته الله، معجبا بسمو لا يد له فيه؛ وهكذا نرى النقص باديا في كل جمال فنى ليس في الفكر فحسب، بل في العمل أيضا، وأنه لنقص يحسبه خيبة وشناعة أولئك الذين يتطلعون إلى مسمى الجمال الطبيعي في الفن والى الواقع رؤيته نظريا لا صنيعاً، مثل هؤلاء.

يفشلون أبداً في العمال الفنية العظيمة لما يعروهم من قنوط وكد وجهد؛ انهم موازين قدرة الإنسان واعترافه بالعجز في إن واحد؛ بيد إن هذا الاعتراف القائم على الصدق والإخلاصإن هو إلا الجمال بعينه، وأن الصفاء ليبدو في جمال الفن أبداً ولكنه صفاء الإذعان لا صفاءالرضى، صفاء القداسة، وليس لصفاء التجمل، إن العظمة غير المحدودة في كل ما يأتي به الفن ليست سوى اثر مهارة يلدها سعي الفنان الدائم ليعمل اكثر مما يستطيع. ليس للفنان أن ينشد مجرد الثناء وتصفيق الاستحسان بل يجب أن يعبد أيضاً وان يبدع ما يقدمه بين يدي عبادته، ذلك خير وأبقى، ليس الرعاة وحدهم الدين تقدموا إلى قبر السيد المسيح بل الحكماء أيضاً جاءوا يحملون إليه كنوزهم، وفن الإنسانية إنما يكون بآثار حكمائها، بل هو عبادة المجوس اكثر الناس بساطة في عبادتهم.

(ايها الحكماء لقد قطعتم كل طرق المعرفة وانتهى بكم المطاف إلى حيرة الراعي؛ ولكنها الحيرة التي لا تذهب بالحكمة) التي عندما تقف حائرة وتتوجه معرفة الإنسان ومهارته وكامل شعوره إلى الإقرار لما هو اعظم من الحكماء أنفسهم يكون ذلك الإقرار هو الفن، له من الجمال ما يفوق جمال الطبيعة القدسي.