الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 289/من ذكريات لندن

مجلة الرسالة/العدد 289/من ذكريات لندن

بتاريخ: 16 - 01 - 1939


غريب

للأستاذ عمر الدسوقي

ولت شهور الصيف مسرعة وأذن مؤذن الواجب والدرس فلبيت كما لبى رجال يرجون حسن الثواب، وغادرت فرنسا والجسم هزيل، والفؤاد عليل، والذاكرة تغص بصور من الحياة ذات ألوان. طفقت الباخرة تسير باسم الله مجريها ومرساها صوب (نيوهيفن) وما كادت تغادر المرفأ حتى هبت العاصفة، ففتحت أبواب السماء بماء منهمر، وأعتم الجو، وزأرت الريح وزمجرت، وعبثت بالسفينة كما يعبث الوليد بخذروفه، وعادت لا تستقر على حال من القلق، يجور بها الملاح طوراً ويهتدي؛ تعلو فكأنها على قمة جبل، وتهبط فكأنها بين طيات الأخاديد، والأمواج تلطمها من غير شفقة ولا رحمة، وتدفعها بعنف ذات اليمين وذات اليسار وكأنها جبار يصب جام غضبه على صبي لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً، اللهم إلا البكاء والعويل؛ فكنت ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من دوار البحر في ألم مرير؛ وصراخ النساء يشق عنان السماء، ونحيب الأطفال يصدع الصخور الصماء؛ ولو كان للطبيعة الصاخبة قلب لرق ولان؛ وأنى لها وقد أطلقت لشياطينها العنان فأذاقونا العذاب الهون، أربع ساعات وكأنها أربعة قرون

وبعد لأي رست السفينة على الشاطئ الشمالي من بحر (المانش) وتنفست كما تنفس الناس الصعداء، ووطئت قدماي الأرض، وأخذت أتلمسها بيدي لأرى أثابتة هي أم متحركة؛ ونجوت بعدما يئست من النجاة، نجوت بعد أن كنت أصارع الداء والقيء، والدوار والإعصار. نجوت بعد أن هتفت باسم أهلي فرداً فرداً، والشقة بعيدة بيننا، وليث المنية فاغر فاه، والناس من حولي في شغل لكل منهم شأن يغنيه

تحرك القطار صوب لندن، فأوجست منه في بادئ الأمر خيفة، إذ كنت لا أزال حديث عهد بالسفينة القلقة، بيد أن الطمأنينة أخذت تتسرب إلى الفؤاد شيئاً فشيئاً حتى برحته الهواجس، وغادره الوجل

ها. . . قد وصلنا إلى لندن!

لست غريباً عنك أيتها المدينة العظيمة! كنت آتيك من قبل زائراً، وهأنذا آتيك مستقيماً مستوطناً، فرحبي بالمهاجر الغريب، وابتسمي له، لعله ينسى عذاب الغربة، وقسوة البحر، وألم المرض. لن تضيقي به ذرعاً وهو فرد من تسعة ملايين، فأكرمي وفادته، واطردي وحشته، لعله يذكرك يوماً بالثناء، ويعرف لك هذه اليد البيضاء، وهو بين أهله وذويه

كنت أحدث نفسي بهذا، والسيارة تقلني إلى بيت كنت أعرج إليه كلما مررت بلندن؛ ووقفت السيارة، وطرقت الباب فخرجت ربة البيت، ونظرت إلي فأنكرتني. رأت جسماً هزيلاً قد أنهكته العلل، ووجهاً شاحباً قد لفحته الشمس فعادت سمرته مخيفة رهيبة، وسمعت لساناً متلعثماً ينبئ عن نفس مضطربة وفكر تعب، فحملقت وترددت في الكلام ثم قالت:

- آسفة يا سيدي فكل غرف المنزل مشغولة

- ألا تعرفين بيتاً آخر أقضي فيه الليل، فأنا على ما ترين، أحوج ما أكون إلى الراحة

فأشارت إلى بيت جارتها، فحييتها وانصرفت شاكراً. ثم طرقت باب الجارة وسألتها في أدب ولطف، فاعتذرت

وأخذت السيارة مرة ثانية تعدو بي في شوارع لندن، وكلما رأيت فندقاً استوقفت السائق، وذهبت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى وأسأل في تردد وهيبة عن غرفة شاغرة أقضي بها سواد الليل، وأريح جسمي المتهدم وعقلي المنهوك، وفي كل مرة أجاب بأن الفندق غاص بالزوار، وأعود أدراجي إلى السيارة لأواصل البحث ولسان حالي يقول: وافق حظاً من سعى بجد. بيد أن لندن لاحت حينذاك وكأنها صحراء مقفرة، أخب فيها بين رمال ونجاد وصخور ووهاد، أو كأني بمدينة قد عفت وأتت عليها يد البلى والحدثان، أو كأني لا أزال على ظهر السفينة أطلب النجاة بين الماء والسماء

آه يا لندن. . .! ما هكذا حسبتك، أحقاً لا يوجد فيك سرير لغريب يشكو المرض ويطلب الراحة، وأنت عروس الإمبراطورية العظيمة وأكبر مدن العالم؟

ليت شعري ما للقوم كلما رأوني ازوروا عني ورفضوا سؤلي، بعضهم في أدب وبعضهم في قحة؟ وهل أقضي الليل هكذا أجوب الشوارع والطرقات؟

أين مصر؟ أين مصر؟

وأخيراً تشجعت وطرقت باب أحد الفنادق، فخرجت سيدة عوان، ينم وجهها عن شيء من كرم النفس والأريحية، فسألتها: أعندك غرفة شاغرة يا سيدتي؟

- آسفة

- أنا كما ترين مريض متعب من سفر مضن شاق، وقد قضيت وقتاً غير قصير أبحث عن غرفة فلم أوفق، فإذا كان عندك مكان آوي إليه كنتِ أهلاً لشكر عميم، وأجر مضاعف

- آسفة يا سيدي

- لابد من المبيت هنا مهما يكن الأمر

وأخرجت متاعي من السيارة، ونقدت السائق أجره وقد أربى على الجنيه، والسيدة تتعجب من تصرفي

- اسمحي لي يا سيدتي فلم أعد أقوى على مواصلة البحث

- ولكن. . .

- ولكن ماذا؟

- الفندق خاص بالإنجليز ولا نقبل فيه أجنبياً ولا سيما إذا كان أسمر البشرة

وهنا ثارت ثائرتي، وللمصري نفس عزيزة تأبى أن تهان، وبه كبرياء تلهب نار غضبه إذا مست كرامته، ولاسيما إذا كان ببلد غريب، وقد سمعت مراراً بمعاملة الإنجليز لسمر الوجوه، ولكني لم أجرب هذه القسوة من قبل، وكنت حين يجليني أصحاب الفنادق ألتمس العلل والمعاذير، ولم يخطر ببالي قط أنهم يرفضون لأني (رجل ملون). أما وقد سمعت هذه الكلمات، فلم يعد هناك ريب في اكتناه السر الذي تحيرت في كشف طلاسمه منذ ساعة، وخاطبتها بصوت تنم نبراته عن ثورة نفسية عنيفة وكرامة مهانة

- إنك لاشك مخطئة يا سيدتي، فأنا لست زنجياً ولا هندياً، ولا نوبياً ولا حبشياً، بل إني مصري، تجري في عروقي أنبل الدماء، وحسبك أن تعرفي أننا من أرقى الشعوب مدنية وحضارة قديماً وحديثاً، ولن أقبل من مخلوق مهما تكن سطوته ومكانته، أن يلحقني بهؤلاء الذين ينظر إليهم بعين الازدراء والامتهان، ويعدهم دونه في الذكاء والمدنية. على أنني لست في مقام جدال، فسأقضي هنا ليلتي، ولك أن تخبري رجال الشرطة إذا شئت، ولاسيما إذا كان عذرك هو ما سمعت

ولجت الباب دون أن ألتفت إليها، وطلبت من الخادم أن تدخل متاعي، ولحقتني السيدة دهشة حيرى وقالت:

- مهلاً حتى أريك غرفتك، وحذار أن تظن بي شراً، فأنا براء من هذه العقيدة، ولكني أحرص على راحة عملائي، ومنهم من يعارض أشد المعارضة لوجود رجل ملون في الفندق، ويهدد بالرحيل، وتشويه سمعة المنزل، وأكثرهم في ذلك لجاجاً وغلواً ضابط متقاعد، رأى الشرق عن كثب، ودأب على ذكر نقائصه، وعورات أهله، وأنهم ليسوا إلا همجاً لم يشرق عليهم نور المدينة بعد، وأن سكناهم معنا مدعاة لتعكير صفو حياتنا وهنائها إذ لكل إنسان عادة لا يستريح إلا لها. أما أنا فمن أصل فرنسي، وفي ديارنا لا يعيرون هذه الفروق الجنسية اهتماماً، بيد أني مضطرة لمجاراتهم، مادمت قد اخترت هذه البلاد موطناً لي، واخترتهم عملاء لفندقي، فلعلك مقتنع بفكرتي. وحين أسمح لك بالمبيت هاهنا لا أرجو إلا شيئاً واحداً، هو أن تتحاشى رؤية هذا الضابط، وسأرسل طعام الفطور بغرفتك.

- شكراً لك يا سيدتي، غير أنك أثرت في نفسي شعوراً ليس من السهل علي إهماله، ألا وهو محادثة هذا الضابط.

- ليس إلى ذلك من سبيل.

- سنرى.

وانطلقت إلى غرفتي أشد ما أكون تعباً وإعياءً، ولم أكد أنتهي من خلع ثيابي، والاستلقاء على السرير حتى أتت السيدة بكوب من اللبن، وقالت في رفق:

- إنك مريض، ولعلك بحاجة إلى دواء، فهل لي أن أقوم بأية خدمة؟

- شكراً يا سيدتي، فالدواء عندي، وسأتناوله بعد هنيهة، عمي مساءً، وسأراك غداً.

فكرت ملياً فيما رأيت وسمعت، ثم غلبني الإعياء فنمت، وما إن لاحت تباشير الصباح حتى نهضت، وأنا أحسن من البارحة حالاً، وأهدأ بالاً، غير أن النعرة القومية عاودتني، فأذكرتني مأساة أمس، وأن واجبي هو تبديد هذه الأوهام والأباطيل من عقول هؤلاء المرضى بحمى الغطرسة والكبرياء، وإقامة الدليل لهم على أن المصري، وإن تكن السياسة قد جارت في حكمها عليه، إلا أنه أبي ذكيٌ ليس من اليسير أن يسكت عن ثأر في ميدان الكرامة، أو يصمت عيا في ميدان الدفاع عن القومية. فلبيت نداء حسي وشعوري، وارتديت ثيابي على عجل وأسرعت إلى غرفة الطعام، والقوم لا يزالون نياماً، وأخذت ألهو بقراءة جريدة حتى مضى بعض الوقت، فأخذوا يغدون ويحيون، دهشين، متعجبين، وأنا أرد تحيتهم في برود مصطنع يخفي تحته نفساً ثائرة على هذا الجهل بمنازل الناس وقيمهم، وعلى هذا النفاق والرياء.

وأخيراً دخل الضابط ورد تحية الجلوس، وأجال في الغرفة نظره فلمحني، وظننت بادئ ذي بدء أن وجهه سيتجهم وأنه سيتمتم ويدمدم، ويثور ويفور، ولكنه حيا ببرود وجلس، فجلست تجاهه على الخوان، وأخذنا نتناول طعام الفطور في صمت، وكأننا في مأتم، وهممت بالحديث مراراً غير أن الرهبة عقدت لساني فلم أنبس ببنت شفة. وبعد لأي سنحت الفرصة، فقدمت ربة الدار، ووزعت على الجميع تحاياها وابتساماتها، ولم تظهر امتعاضاً لوجودي بل سألتني كيف قضيت ليلي؟

- على خير يا سيدتي، شكراً. إني ليسرني أن أتعرف بجندينا الذي ذكرته أمس، فهل تتكرمين بتقديمي له؟

- بكباشي سمث. صديقنا هذا من مصر، وقد حدثته عنك أمس، وأنك زرت بلاده، وعرفت أهلها وحدثتنا طويلاً عنهم.

فأجاب الضابط في فتور.

- هذا حسن، وأومأ إليَّ برأسه، فقلت:

- إني ليسرني أن أتشرف بمعرفتك يا سيدي، ولقد أنبئت أن لك رأياً خاصاً في الشرق والشرقيين، يحملك على الأنفة والترفع عن مخالطتهم، ولو سمحت وبينت لي هذا الرأي لكنت لك من الشاكرين.

فألقى على ربة المنزل نظرة كلها تعنيف وتأنيب، ولاح عليه بعض التردد، غير أن بقية الزوار حثوه على الكلام قائلين: دعنا نسمع رأيك، والرد عليه، فطالما حدثتنا عن الشرق أحاديث تقشعر منها جلودنا، ولم تجد بيننا من يدحض رأيك أو يعترضك، وها قد سنحت الفرصة لمعرفة الحق.

فكرر ما قالته ربة البيت ليلة أمس، وزاد أن الشرق لا يصلح إلا وعنانه بيد الغرب، وأن الشرقيين لم يخلقوا للمدينة الأوربية، والأولى بهم الاستمساك بعاداتهم الهمجية، وترك التقليد الأعمى، وأما مسألة الترفع فذلك أن لكل قوم عادة، وليس توافق العادات بالأمر الهين؛ ثم إن مركزنا الأدبي في العالم يقتضي أن نترفع عن الشعوب الملونة، ونشعرهم بمكانتنا التي لا تسامى حتى ندخل في قلوبهم الروع والرهبة، وحتى نعودهم الصغار والذلة. وتلك سياسة رجال الجيش البريطاني في المستعمرات، وإن لم نفعل ذلك تجرأ علينا الأهالي؛ وذهب سلطان الحكم وجلاله.

- آه! الآن عرفت الحقيقة، إذاً لا يوجد هناك تفوق في الذكاء كما لا يوجد تفوق في ميدان الحضارة والاستعداد لتقبلها، ولكن المسألة استعمارية بحتة. إن كان الأمر كذلك، فإني أتنبأ لإمبراطوريتكم بالزوال العاجل. إن هذا الترفع، وهذه الكبرياء تبعد بينكم وبين تفهم نفسيات الشعوب المحكومة، وتجعلها دائماً تشعر بأنكم أجانب، وتملأ قلوبهم قيحاً، وتشحنها غيظاً، وتحرك في نفوسهم نار الثورة الهامدة، فيهبون لطردكم والتنكيل بكم. لم لا تحتذون حذو العرب، وقد أسسوا بنيان ملكهم على قواعد من المساواة والمحبة والإخاء، ولذا تشرب المحكومون تعاليم دينهم ومدينتهم وتعلموا لغتهم، واندمجوا فيهم. لست هنا لأعطيك والحكومة البريطانية درساً في فن الاستعمار، ولكن الاستعمار في رأيي ورأي العقلاء، ليس استعباداً، اللهم إلا في رأيكم أنتم.

- مرحى، مرحى!! هكذا هتف بقية الزوار، ماعدا الضابط الذي وجد فيَّ مجادلاً يكيل له صاعاً بصاع ويقرع الحجة بالحجة. ثم استأنفت الحديث منتهزاً فرصة صمته:

- يخيل إلي أنك لم تعرف المصريين حق المعرفة، وإلا كان حكمك عليهم غير ما سمعت، ليست القضية يا صديقي، قضية تفرقة في الألوان، فهاهي ذي اليابان قد بزتكم في ميدان الصناعة وغزت دياركم بمنتجاتها ومخترعاتها، ولولا عهد الأتراك بمصر، ولولا تدخلكم في شئوننا، لكنا اليوم أمة لها في ميدان العلم والنور شأن رفيع. على أننا لم نيأس بعد، وسوف تسمع اسم مصر يكتب في سجل الخلود بماء من ذهب ونور. ثق تماماً أن المصري يفوقك في الذكاء، وتفوقه في القوة المادية، أما (اللون) فكلنا من آدم، وآدم من تراب، وكتبكم المقدسة على ما أقول شهيد. لست أريد إقناعك، ولكني أرضي كرامتي، وعزة نفسي، وأعطيك درساً في احترام غيرك مهما يكن جنسه ولونه، حتى تخبره، وتعرف خلاله وتفكيره، والآن اسمحوا لي سادتي بالانصراف وأشكركم على كرم وفادتكم

غادرت المنزل واستوقفت سيارة ووضعت بها متاعي، وأخذت أبحث مرة أخرى عن مسكن أقيم فيه وأتفرغ للجهاد في سبيل العلم

آه يا لندن. . . لقد جرعتني نُغَب التهمام أنفاساً، وأريتني ليلة أمس وجهاً عبوساً متجهماً، وأعطيتني درساً لا ينسى. أهكذا يفعل أهلك بالغريب؟

سلوا قراه وهرَّته وكلابه ... وجرَّحوه بأنيابٍ وأضراس

عمر الدسوقي