مجلة الرسالة/العدد 289/تطورات العصر الحديث
→ السلام | مجلة الرسالة - العدد 289 تطورات العصر الحديث [[مؤلف:|]] |
على هامش الفلسفة ← |
بتاريخ: 16 - 01 - 1939 |
في الخلق السياسي
للأستاذ محمد لطفي جمعة
نشرت مجلة أوربا التي يشرف على تحريرها الأستاذ رومان رولان أشهر كتاب فرنسا المقيم في بلدة نيوفيل على شاطئ بحيرة ليمان بسويسرا، دراسة مستوفاة عن حوادث السياسة التي استجدت في أوربا بعد ظهور الفاشية والنازية، وألم فيها ببحث جليل عن حياة هتلر وموسوليني بقلم كاتبة أسراره سنيورينا ليندا رينا لدي وهي التي خدمته بضع سنين، فآثرنا تلخيصها لمجلة الرسالة التي يعد دخولها في عامها السابع فتحاً جديداً في العلم والأدب والثقافة العصرية
(ل. ج)
في تاريخ الأمم وأخلاقها ساعات حاسمة ومواقع فاصلة فتتميز عن الأخرى وتفضلها بالطريقة التي تقابل بها صروف الدهر في تلك الساعات وهاتيك المواقع. ومثلها في ذلك مثل الأفراد لدى الملمات والشدائد، فترى أمة يهولها الاعتداء الأجنبي عليها ويفت في عضدها ويضعف من نخوتها وينهك من إرادتها، وما تزال تنحط وتتهالك وتنحل عناصرها حتى تتوارى وتهلك. وهذه عاجزة عن الكفاح في سبيل الوجود وهي أمة كتب عليها الفناء. ولا فرق في ذلك بين أمة قديمة أو أخرى حديثة، عريقة أو طارئة، متدينة بدين منزل أو وثنية، شرقية كانت أو غربية. وهناك أمة تزداد قوة كلما تعرضت للآلام، وتنمو فيها الفضائل الدفاعية والهجومية كلما اعتدى عليها الأغيار أو قبض على خناقها الغرباء والغرماء. تتيقظ فيها فكرة المجد كلما حاقت بها الأخطار، وتدب فيها حيوية جديدة كلما حاول عدوها إدناءها من الموت، وتسري في أعضائها دماء جديدة وتجري في أعوادها أمواه الحياة
لا نريد أن نعرض للنظامين النازي والفاشي بخير أو بشر، لأننا لا نريد أن ننزل بهذا البحث إلى مستوى الجدل، فإننا نحب أبداً أن نحلق فوق الحوادث الراهنة وإن كنا نحترم السياسة ونقدرها. ولكننا نعلم أنها كثيرة المزالق، ومواطن التحليل فيها تدني من الخطأ الذي قد لا يغتفر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النظام الفاشي الذي ابتكره السن بنيتو موسوليني المعروف في العالم باسم دوتشي أي الزعيم، وتبع آثاره هيرادولف هيتلر المعروف في العالم باسم فوهرر أي الزعيم أيضاً، قد أثبت وجوده وقدرته على الحياة فقدم بذلك البرهان التاريخي الذي لا بقاء لنظام اجتماعي أو سياسي بدونه، كما قدمت حكومة السوفيت برهانها منذ سنة 1917 إلى يومنا هذا. وفوق هذا قد أثبت هذا النظام والقائمون به أنه أدى لوطنهم خدمة جلَّى وقضى على شرور كثيرة وجلب خيراً وفيراً ودلَّ بذلك على أنه النظام الصالح للوطن الإيطالي، نظام المستبد المحب للخير وقد أثنى عليه كل من شهده وجنى شيئاً من ثماره داخل إيطاليا. وقد قلب إيطاليا رأساً على عقب، وقال بعض محبذيه إنه جعل من بلادهم جنة على الأرض، وإن الذين زاروا إيطاليا قبل تفشيه يكادون لا يتعرفونها بعد انتشاره وقيامه وتسلطه، لأنه صبغ كل شيء بصبغته التي أساسها النظام المطلق والآمن المطلق والأمانة المطلقة، ولكن هذا النظام العجيب الذي وحد كلمة الأمة وجعلها كرجل واحد وأخضعها لرجل واحد وعلق سائر آمالها برجل واحد، قد حكم عليه ذووه بأنه نظام قومي، حتى خطب الدوتشي نفسه فقال (إن الفاشية بضاعة لا تصلح للتصدير، ولا تضمن أرباحها خارج حدود إيطاليا) ولا نعلم إن كان قال هذا القول تواضعاً أو حثاً للأمم على الاقتداء به، ولكن وجب علينا أن نصدقه لأن رب الدار أدرى بما فيها. وإن كان هذا النظام قد انتحله هيتلر بتحوير كبير وطبقه في بلاده حتى بذ التلميذ أستاذه. ولم نسمع بصاحب مذهب سياسي أو اجتماعي قبل الدوتشي يحجر على مذهبه ويحرم عليه الخروج من كسر بيته، بل تعود أصحاب المذاهب أن ينسبوا إليها الصلاحية المطلقة والقدرة والنجاح في كل زمان ومكان؛ وإذن لابد أن يكون سنيور موسوليني قد ذكر هذا الرأي عن مذهبه لحكمة خفيت عن سامعيها في حينه. وإلا فكيف كان اغتباطه بالنازية واتحادهما وابتكارهما محور برلين وروما، ثم تشجيع فرانكو في وطنه حتى ذاق الأسبان بأس بعض وخربت بلادهم حتى صارت يبابا باسم مناصرة الفكرة الفاشية النازية. وأظن بعض الناقدين ألمعوا في كتبهم فقالوا أنه نظام يعلق الأمة بأهداب رجل بعينه، فإن شاخ أو مرض أو مات تعطلت الإدارة الحكومية وتلكأت في انتظار ظهور خير خلف لخير سلف، في حين أن الواجب يقضي بأن تكون القوانين العامة والخاصة هي الأداة الصالحة للحكم بدون اعتبار الأشخاص. ومهما يكن حكم المستقبل على الفاشية فإن الكثرة من الكتاب الموالين لها أجمعت على نفعها في مسقط رأسها وخالفتها القلة المدركة من خصومها. ومنهم من أُوذي وهاجر باختياره أو نُفِي مرغماً؛ ومنهم من ألف كتباً صوب فيها سهام نقده إلى الفاشية. وإن يكن في المظاهر ما يوهم بأن النازية الألمانية تقليد للفاشية الإيطالية، فلا يصح القول بأن الهتلرية نوع من الفاشية أو تقليد لها، وإن كانت تشبهها في تفرد رجل واحد بالسلطة. ولكن الذي يفرق بينهما هو أن الأولى قامت باسم الإصلاح الداخلي ونصرة ذوي رؤوس الأموال ومقاومة الاشتراكية ومطاردة العمال الذين احتلوا المصانع الإيطالية في سنة 1922 وقدم زعيمها فروض طاعته للملك وجامل الكنيسة الكاثوليكية وانضوى تحت لوائهما. أما النازية الهتلرية فاشتراكية وطنية دينها عظمة دوتيشلاند ومجدها في غلبة الرايخ الثالث، وقامت باسم حماية الوطن من الاعتداء الأجنبي والخلاص من قيود معاهدة فرساي وتنفيذ خطط بسمارك القديمة، من التوسع في أوربا والشرق وتحطيم الشيوعية. وإذن قامت الهتلرية لتكون وسيلة لها غاية تخالف غاية الفاشية. دع عنك الاختلاف في أخلاق الأمتين وتاريخهما وعناصر حياتهما. وكلتاهما قد هضمت حقوق الفرد وجعلت الدولة هدفاً أسمى وإن كان في ذلك تأخير (المواطن) والتضحية به، مما يختلف عن المدى الذي وصلت إليه الحضارة الحديثة في تفكيرها وسياستها ومجموع مبادئها، ولاسيما عند الشعوب الإنجلوسكسونية والتيوتونية
وإذن لا تكون الهتلرية وليدة الفاشية ولا شقيقتها الصغرى، لأن الهتلرية ثمرة التاريخ الحربي والسياسي في ألمانيا، وخلاصة نوع من الفلسفة الروحية أو التصوف السياسي منشأه مجامع ميونيخ السرية التي بدأت أثناء الحرب. أما الفاشية ففكرة مبتكرة قامت في ذهن رجل واحد نتيجة لإدمانه قراءة كتابين: (وعود الزواج) لماتزوني وكتاب الأمير لنيكولا ماكيافيلي. وقد صدق حسبانه أنه يصلح شعبه بتنفيذها ووجد معونة كبرى من الأسرة المالكة ومن أصحاب المصانع والكنيسة، وتشجيعاً من الشبان الطامحين إلى الحلول محل كهول السواس وشيوخها، وكانوا إذ ذاك متلهفين على القوت والمجد، وكان بعضهم يرقبون المنقذ المنتظر يظهر فجأة في أفق الوطن وكان إذ ذاك خالياً في تلك الفترة من العظماء القادرين على حمل أعباء الزعامة. فوقع اختيار الحظ على موسوليني. كان بنيتو موسوليني في أول أمره صحفياً اشتراكيا متطرفاً، يحرر في مجلة (أنانتي) إلى الأمام، لسان حال الحزب الاشتراكي وزعيمه فيرو أحد أساتذة الجامعة. ولما أعلنت الحرب ساهم في أوائلها، ثم لم ترقه فهاجر إلى سويسرا حيث ذاق مرارة الفاقة والتسكع، وعاد إلى وطنه يجرر أذيال الخيبة فحدث له ما حدث لاسكند كيرنسكي في بطرسبرج سنة 1917. غير أن الفرق بينهما أنه استمر ونجح حيث تردد كيرنسكي فخاب. فهو ابن ثورة اقتصادية قلب ظهر المجن لحزبه في اللحظة الأخيرة.
ولا يفوتنا أن أوربا أصبحت بعد الحرب مباشرة نهباً بين الدكتاتوريين فظهر من طرازهم بريمودي رفيرا في أسبانيا، وبانجالوس في اليونان، وبلودوسكي في بولونيا، وتحدثوا عن دكتاتورية مزمعة في فرنسا ورشحوا لها أندريه تارديو الذي كان رئيس وزارتها. ففي ظلال هذه الدكتاتوريات وفي مثار النقع الذي طاف بالأجواء قامت الفاشية وأضافت إلى قميصها الأسود درع الدكتاتورية الفولاذي.
وتضافرت بعض الظروف التي لم تكن في الحسبان وهي نتيجة الحالة السياسية العامة في أوربا فجعلت لإيطاليا وألمانيا مكانة توشك أن تضع في يدها ميزان السياسة الدولية، ولاسيما بعد فوزهما الأخير. وتراخت إنجلترا وفرنسا في تأييد نفوذهما لانشغالهما بالمسائل الداخلية. وجدت في الشرق حرب الصين وتفوق اليابان فانضمت إليها ألمانيا نكاية في روسيا. ورجعت أوربا في غير وعي إلى سياسة الاتفاقات السرية. ولعل التناطح بين الشعوب ليس إلا تطاولاً بين الزعماء ومظهراً لقوة إرادتهم ودليلاً على رغبتهم في الفوز والانتصار على مزاحميهم في ميادين المجد وعلو الصيت وضخامة الشهرة. ولدى كل أمة من الأمم مؤثرات وعوامل فكرية تؤثر في نفوس بنيها ولا تكون الزعامة الصحيحة إلا لمن يعرف استعمال هذه المؤثرات والعوامل التي تتحكم في النفوس؛ فإذا ما اهتدى الزعيم أو المرشح للزعامة إلى تلك العوامل تمكن بسهولة من جمع الأفكار وتوحيد الإرادات الفردية حول فكرته الخاصة وإرادته. وهيهات أن ينجح الزعيم ما لم يكن مفتوناً بالفكرة التي صار داعياً إليها حتى تستولي عليه استيلاء لا يرى معه إلا الفكرة التي ينادي بها؛ وبدون هذا الإيحاء الذاتي لا يمكنه أن ينجح في التأثير في أذهان الجماهير، لأنه لا شيء يحرك همتها مثل مظهر الأيمان الذي يبدو على شخص الزعيم. وإن يكن بعض الزعماء أو قادة الفكر ليسوا من النوابغ في صدق الآراء وصحة النظر، إلا أنهم من أهل الهمة وذوي الإقدام. والفرق بين الفيلسوف والزعيم أن الفيلسوف كثير التأمل، والتأمل يؤدي إلى الشك، والشك ينتهي بصاحبه إلى السكون دون الحركة، لأن الحركة لا تصدر إلا عن تصميم الإرادة وهو ثمرة اليقين؛ أما الزعيم فلا يتأمل لأنه لا يشك، وحينئذ لا يركن إلى السكون؛ وإذن تكون قوة الإرادة للزعيم أنفع من سلامة الرأي وصدق النظر وحسن التبصر في العواقب، ولكن الذي يفقده الزعماء من تلك الناحية تعوضه عليهم قوة اعتقادهم في سلطانهم على الجموع وتلك الجموع لا تصغي إلا لذوي الإرادة النافذة الذين يتسلط عليهم العقل الباطن ويملك زمامهم. فإذا ما أصبح صوت الزعيم مسموعاً من جماعة، اندمجت إرادتها في إرادة الزعيم وتناست شخصيتها والتفت حول الزعيم ذي الإرادة المتحدة. يسألون عن الطغيان والجبروت والاستبداد كيف نمت في البيئات الدكتاتورية والزعامة في أول أمرها لا تحتاج إلى الاستبداد أو الطغيان، والمشاهد أن الذين قاموا بأدوار الطغاة أفراد من المؤمنين الضعفاء الذين ليس لهم حول ولا طول سوى العقيدة والإيمان. فإذا ما وصل الزعيم إلى غايته احتاج حتماً إلى الاستبداد ليستبقيها.
ويعتمد الزعماء من هذا الطراز في تبليغ دعوتهم على الكلام والخطابة والكتابة، وزعماء العالم اشتهروا بالفصاحة وقوة التأثير في الجماهير. وعمدتهم على تكرار جوامع الكلم لترسخ في أذهان سامعيها. وإذا رجعنا إلى خطب زعماء الفاشية والنازية فلا نجد إلا نفس المعاني أفرغت في قوالب شتى لعلمهم بغريزتهم وإدراكهم الباطني أن التكرار يترك أثراً عميقاً في أذهان الخاصة والعامة على السواء. فالزعيم حاذق في حفر فكرته في أذهان أتباعه. وتبدأ الأفكار في الطبقات النازلة ثم ترتقي إلى الطبقات الوسطى فالعليا مثل انتشار أفكار الثورة الفرنسية وارتقائها من طبقات الشعب إلى الوزراء والعلماء. وكذلك الأديان فإنها تنتشر أولاً عند المظلومين والمحاويج والمحرومين والمعوزين إلى استعادة الكرامة والحقوق، وهذا سر انتشار النصرانية والبوذية بين الضعفاء والفقراء. وقد سادت الاشتراكية أولاً طبقات العمال حتى وصلت إلى العظماء فصار منهم اشتراكيون متطرفون. وكان عدد الذين دخلوا في زمرة الإسلام من الأغنياء والكبراء محدوداً ثم أقبل عليه كل فقراء الجزيرة العربية وعاصمتها الوثنية (مكة) لأنه كان في أول أمره دين مساواة فاستظلوا بسلطانه. وقد أدت الأحوال الطارئة في أوربا، وضعف الحكومات في بعض الممالك بعد الحرب وسقوط العروش وتزعزع الثقة في الآراء القديمة، إلى حلول بعض الزعماء محل السلطات الحاكمة ومحو تلك السلطات وتلاشيها في أشخاصهم
محمد لطفي جمعة