مجلة الرسالة/العدد 288/قصة الرافعي العاشق
→ قلت لنفسي. . . | مجلة الرسالة - العدد 288 قصة الرافعي العاشق [[مؤلف:|]] |
للتاريخ السياسي ← |
بتاريخ: 09 - 01 - 1939 |
تعقيب
للأستاذ محمد سعيد العريان
. . . هذه قصة الرافعي وفلانة، كما رواها لي، وكما يعرفها كثير من خاصته. وإني لأعلم أن كثيراً ممن يعرفونها ويعرفونه سيدهشون إذ يقرءون قصة هذا الحب، وسيتناولونها بالريبة والشك. وسيقول قائل، وسيدعى مدع، وسيحاول محاول أن يفلسف ويعلل؛ ولا عليَّ من كل أولئك ما دمت أروي القصة التي أعرفها، والتي كان لها في حياة الرافعي الأدبية تأثير أيُّ تأثير يُرَدُّ إليه أكثر أدبه من بعد. وحسبه أنه كان الوحي الذي استمد منه الرافعي فلسفة الحب والجمال في كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان. والسحاب الأحمر، وأوراق الورد. وحسبي أنني قدمت الوسيلة لمن يريد أن يدرس هذه الكتب الثلاثة على أسلوب من العلم جديد!
على أني مسئول أن أبرئ نفسي أمام قدس الحق؛ فأعترف هنا بأن ما رويت من هذه القصة كان مصدره الرافعي نفسه؛ مما حدثني به وحدّث أصحابه، أو مما جاء في رسائل أصحابه إليه ممن كانوا يعرفون قصته؛ وما بي شك فيما روى من هذا الحديث؛ فما جربت عليه الكذب، ولا كان هناك ما يدعوه إلى الاختراع والتزيد كما يزعم من يزعم؛ ولكنها حقيقة أُثبتها للتاريخ، لعل باحثاً مدققاً يوفَّق في غد إلى إثبات ما أعجز اليوم عن التعليل له.
على أن الرافعي قد أقرأني رسالة أو رسالتين بخط (فلانة) إليه؛ وهما وإن لم تدلا دلالة صريحة على حقيقة ما رويت من قصة هذا الحب. لا تنفيانها كذلك، بل لعلهما أقرب إلى الإثبات منهما إلى النفي؛ والحذر طبيعة المرأة.
ثم إن الرافعي لم يخصّني وحدي برواية هذه الحادثة؛ فإن عشرات من الأدباء في مصر قد سمعوها منه؛ ومنهم من يعرف (فلانة) معرفة الرأي والنظر، ومنهم من كان يغشى مجلسها لا يتخلف عنه مرة؛ ومنهم من كان الرافعي يقصد بالحديث إليه أن يكون بريداً بينهما ينقل إليها حديثة شفةً إلى شفة. وفي الناس بُرُدٌ إن لم تزُد على ما سمعتْ من حديث الحب لم تنقص منه شيئاً! فلو أن الرافعي كان يتزيّد فيما روى لي ولأصحابي من حديث هذا الحب لخشي مغبّة أمره؛ وإن (فلانة) يومئذ ذات جاه وسلطان! وثمة برهان آخر لا يتناوله الشك؛ هو رسالة من رسائلها نقلها الرافعي من كتاب من كتبها المعروفة لا أسميه، إلى كتابه أوراق الورد؛ يزعم أنها رسالة منها إليه في كتاب، جواباً على رسالة بعث بها إليها - وكانت هذه بعضَ وسائلهما في المراسلة كما رويتُ من قبل - وأوراق الورد معروف مشهور، وكتابها معروف مشهور كذلك. ومما لا يحتمل الشك أن تكون (فلانة) لم تقرأ هذه الرسالة في كتاب الرافعي ولم ينبهها أحد إليها. وأبعد من الشك أن تكون قد قرأت هذه الرسالة المنشورة قبل ذلك في كتاب يحمل اسمها ثم لم تفهم ما يعنيه الرافعي؛ ولا شيء وراء ذلك إلا أن تكون قرأتْ، وفهمتْ، وسكتتْ؛ ولا شيء بعدُ إلا أن يكون بينهما شيء يؤيد ما رواه الرافعي من قصة هذا الحب. . .!
على أن اعتراضات ثلاثة توجَّهتْ إلي ما رويت من هذه القصة لا بد من التنبيه إليها: أما أحدها فمن الأستاذ الأديب جورج إبراهيم؛ فهو ينكر عليّ أن أستند إلى هذه الرواية، ويروي لي أنه صحب الرافعي في أولى زياراته لفلانة، وشهد ما كان من تأثر الرافعي وانفعاله وجذْبته؛ ولكنه إلى ذلك ينكر أن يكون بين الرافعي وفلانة صلة بعد هذه الزَّورة، ويصحح ما رويته عن الرافعي - وكان من سامعيه - بأنه حبٌّ من طَرَف واحد، اختلطت فيه مذاهب الفكر ومذاهب النظر فشُبِّه للرافعي ما شُبِّه؛ فما يحكيه هو صورة ما في نفسه لا صورة ما كان في الحقيقة!
فالرافعي عند الأستاذ جورج إبراهيم لم يكذب ولكنه أخطأ التقدير والنظر. وعندنا أن عدم علم الأستاذ جورج بأن صلةً ما كانت بين الرافعي وفلانة بعد الزَّورة الأولى، لا ينفي أن هذه الصلة كانت حقيقةً ولم يعلم بها؛ فحديثه من ثَمّ لا ينفي شيئاً ولا يثبته، ويبقى بعد ذلك ما يستنبط من الرأي على هامش القصة.
وقريب مما يرويه الأستاذ جورج، ما تستنبطه جريدة المكشوف في بيروت، في حديث تناولت به بعض ما نشرنا من قصة حب الرافعي.
وتعقيب ثان توجه به صديقنا فؤاد صروف - محرر المقتطف - على ما رويناه، قال:
(لقد سمعت هذه القصة من الرافعي كما رويتَها؛ فما أشك في صحة ما تكتب، ولكني أسأل: هل كانت (فلانة) تبادل الرافعي الحب؟. . .
(هاك خبراً يدعوك معي إلى هذا السؤال: (في يناير من سنة 1934 (أو سنة 1935) دعتني فلانة إلى مقابلتها؛ فلما شخصتُ إليها رأيت في وجهها لوناً من الغضب فدفعتْ إليّ رسالتين من رسائل الحب بعث بهما الرافعي إليها لأرى رأيي فيهما؛ ثم قالت: ماذا تراني أفعل لأذود عن نفسي؟ أتراني أتقدم في ذلك إلى القضاء؟
قال الأستاذ صروف: (فاعتصمت بالصمت من لا ونعم، وتركت لها أن تستشير غيري؛ ولست أدري ما كان بعد ذلك!)
قلت: وهذه رواية جديرة بأن تذكر - ومعذرة من ذكرها إلى الأستاذ صروف - على أنها لا تدل على شيء في هذا المقام أكثر من أن فلانة لم يكن يروقها في سنة 1934 أن يتحبّب إليها الرافعي؛ فماذا كان أمره وأمرها معه قبل ذلك بعشر سنين؟
أيكون لهاتين الرسالتين اللتين يتحدث عنهما الأستاذ صروف - صلة بما كان في نفس الرافعي من يقين بأنه سوف يلقى فلانة ليصل ما انقطع من حبال الود بعد عشر سنين من يوم القطيعة)
أعني: هل حاول الرافعي - بعد عشر سنين من القطيعة - أن يعيد ما كان بهاتين الرسالتين فلم يصادف قلباً يستجيب لدعائه؟
على أن هذا الخبر - أيضاً - لا ينفي شيئاً ولا يثبته؛ ولكنه يفتح باباً إلى الاستنباط والرأي
ولكنه مما لا شك فيه أن الرافعي لم يكن يعلم شيئاً عن وقع هاتين الرسالتين في نفس صاحبته؛ ولا أحسبها صنعت شيئاً يدل الرافعي على مبلغ استيائها من هاتين الرسالتين، وإلا لما ظل يتعلق بالأمل في لقائها إلى شتاء سنة 1935، وكنت معه لما همّ بزيارتها.
وثمة اعتراض ثالث يعترضه الدكتور زكي مبارك؛ وما كان لي أن أثبته هنا لولا أن أثبته هو في كتاب من كتبه نشره على الناس منذ قريب، ولولا أن أشار إليه في مقالات نشرها في مصر وفي العراق وفي بيروت!
والدكتور زكي مبارك أديب مشهور، ولكن آفته - ولكل أديب آفة - أنه يدسّ أنفه فيما يعنيه وما لا يعنيه؛ وهو قد شاء أن يحشر نفسه في هذه القصة التي لا يهمه منها إلا أن يعلن للناس - والإعلان عن نفسه بعض خصائصه الأدبية - أنه كان يجلس إلى (فلانة) جنباً لجنب في الجامعة المصرية بضع سنين! وليس يهمنا أن يجلس الدكتور زكي مبارك جنباً لجنب إلى فلانة أو إلى نساء الأرض جميعاً - كما يريد أن يتعالم عنه الناس في أكثر ما يكتب - ولكنه يزعم أن ما كتبنا عما كان بين الرافعي وفلانة ليس من الحقيقة في شيء، لأنه كان يجلس مع فلانة جنباً إلى جنب في الجامعة بضع سنين فلم تحدثه يوماً أن حباً كان بينها وبين الرافعي. . . . . . . . .!!
فمن شاء أن يقرأ مثلاً للحجة الواضحة في أدب الدكتور زكي مبارك، فليقرأ هذه الحجة البالغة؛ على شرط أن يكون مؤمناً بأن الدكتور زكي مبارك لا يجلس إلى (فلاناتٍ) ولا يجلس إليه (فلاناتُ) إلا ليحدثنه عما كان لهن من جولات في ميادين الحب ويسألنه عن الرأي والمعونة!
وليدع القارئ بعد ذلك حديث الدكتور عن العري والعراة، وعن (الأديب العريان. . .) الذي روى هذه القصة
وعفا الله عن أهل الأدب!
هذا كل ما تلقيت من اعتراض المعترضين، من أهل الأدب أو من أهل الدعوى؛ وعلى أي الوجوه انتهى رأي الأدباء في تحقيق هذه القصة، فإنه مما لا شك فيه أن الرافعي كان يحب (فلانة)؛ وهذا حسبي؛ فما يعنيني من هذا التاريخ إلا إثبات المؤثرات التي كانت تعمل في نفس الرافعي فتلهمه الشعر والبيان؛ أما هي وما كان منها وحقيقة عواطفها، فشيء يتصل بتاريخها هي بعد عمر مديد!
محمد سعيد العريان