مجلة الرسالة/العدد 288/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 288 الكتب [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 09 - 01 - 1939 |
ديوان صبري باشا
تحقيق الأستاذ أحمد الزين
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
في الشعر العربي كثير من الشعراء الذين استبدت بشعرهم عوادي الزمن ومحن الأيام، فضاعت آثارهم في أجواء العصور الحالية، وذهبت دواوينهم بين سمع الأرض وبصرها. ولعل الذي ضاع من الشعر العربي أكثر من الذي بقي. ولعل الأيام لو أسعدتنا ببقاء هذه الثروة كاملة لكان للأدب العربي وجهة غير وجهته، ووضع غير الوضع الذي هو عليه اليوم. وإذا كان للقدماء العذر في ذلك من صعوبة التدوين، وندرة الكتابة، ومشقة الرحلة، فما عذرنا نحن إذا ما فرطنا في آثارنا الطيبة وتركنا نتاج أدبائنا البارزين نهب الضياع، على حين قد أصبح التدوين سهلاً ميسوراً تؤديه الآلات، ويتم بأيسر النفقات! إننا لا شك أمة جاحدة لا تقدر أدبائها، جامدة لا تحترم فنها، قاصرة إذ تفرط في الجميل النافع، بينما يذيع فيها القبيح التافه!
هذا ما كنت أقوله لنفسي إذ يجري على لساني بيت من أبيات صبري باشا السائرة؛ أو أستمع إلى مغن يغرد بأغرودة من أغاريده الخالدة، أو يرتفع صوت في الندى بأسماء الشعراء الذين نهضوا بنا في الأدب، وحفظوا علينا في الشعر كرامة النسب إلى العرب. ولقد كان الأسى يتملكني إذ أرى شعر ذلك الشاعر الممتاز في شاعريته وفي مصريته مشتتاً لا يجمعه ديوان، مهملاً لا يفي بطبعه صديق، مفقوداً لا يهزج به الأبناء ولا يدريه إلا الخاصة من المعمرين. وأخيراً وبعد خمسة عشر عاماً مضت على وفاة الشاعر سمحت الأقدار، ففزع لجمع ديوانه صهره الكريم صاحب العزة حسن رفعت بك، ونهض لتصحيحه وضبطه وشرحه وترتيبه صديقه وملازمه الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين، فكان في ذلك وفاء للشاعر، وتقدير للأدب، وإنصاف للتاريخ، ودفع للعار الذي حق علينا بتفريطنا في حق ذلك الشاعر، وفي حق الأجيال المقبلة!
لقد كان صبري رحمه الله بين معاصريه (أستاذ الشعراء وشيخهم) في الصناعة ومراعاة الدقة في الربط بين المعنى وبين لبوسه من اللفظ، ولكنه كان أنيقاً مترفاً لا يقول إلا بدافع النفس ورغبة القول؛ ثم لم يكن يعنى بتدوين كل ما يقول. ومن ثم لم يبلغ ديوانه في الحجم مبلغ دواوين رصفائه مثل البارودي وشوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب. على أنه قد راد كل أبواب الشعر التي كانت مطروقة في أيامه، فقال في المديح والتهاني والتقاريظ وهي أكثر من ثلث الديوان، وقال في الهجاء وهو لا يتجاوز الصفحتين، وقال في الفكاهات وفي الغزل والذكرى والتشوق وفي ذلك كل عبقرية صبري وشاعريته، وقال في الوصف والاجتماعيات والسياسيات والإلهيات والمراثي والأناشيد، وعلى هذا الوضع جرى الأستاذ الزين في تبويب الديوان. وقد عني بترتيب القصائد في كل باب ترتيباً تاريخياً مع بيان المناسبات والدواعي التي قيلت فيها كل مقطوعة، وهذا في الواقع ترتيب جميل، إذ به نستطيع - كما يقول الدكتور طه - أن نتتبع النشأة الفنية لهذا الشاعر، وأن نتبين ما اختلف على شعره من الأطوار في غير مشقة ولا عناء، وهو من هذه الناحية درس قيّم لنشأة الفن الشعري عند شاعر ممتاز، ومن الخير أن يعرض هذا الدرس على الشباب.
ولا شك أن الأستاذ الزين قد وفّق كل التوفيق في إخراج هذا الديوان الجميل، فضبطه وشرحه على أتم وجه وأكمله. ولقد جهدت أن أحصي شيئاً على صديقنا الزين أغيظه به، فغاظني هو ببراعته وقدرته، وإني لأقر بذلك في غبطة وسرور. وإنما وفق الزين إلى هذا الحد، لأنه - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - قد عاشر الشاعر وصادقه سنين طويلة، فسمع منه، وحقق الطريقة القديمة القويمة في الرواية عنه والمشافهة له، فمكنه ذلك من إيضاح ما غمض، ومعرفته الصحيحة بجوّ القصائد وأسبابها وبواعثها. ثم كان من مخالطته للشاعر ووقوفه على دقائق نفسه وما يوائمها وما لا يوائمها، ما ألهمه الصواب في الشرح، والتوفيق في الترجيح، إذا تعددت المسالك وكثرت الاحتمالات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأمر كما يقولون: لا يفهم الشاعر إلا شاعر، والزين شاعر من طراز صبري ومن مدرسته كما يعبرون، فكان بهذا خير من يفهم صاحبه وقريعه، وخير من يرعى شعره هذه الرعاية الحميدة، ويشرحه هذا الشرح الدقيق الموفق.
قد تقول: وماذا يكون في شرح شعر صبري من العناء، وشعره ليس بغريب اللفظ، ولا بعيد المعنى كما هو شعر حبيب وأبي الطيب والمعري وأضرابهم، بل الرجل ظاهر في ألفاظه، واضح في معانيه، ففي مكنة كل إنسان أن يتولى بسطه، وأن يؤدي شرحه. والواقع أن العناء ليس في الشرح والبسط، وإنما العناء في النهج الذي نهجه الزين. ذلك لأن شعر صبري دقيق اللفظ، مستفيض المعنى، كثير الإشارات، بعيد المرامي، فكان لابد في شرحه من طول اللفظ واتساع التعبير حتى يمكن أن يستوفي ما فيه، ولكن الزين وقف عند قولهم (البلاغة الإيجاز) فهو يؤدي ما في البيت من معنى كبير بلفظ موجز مونق، قد لا يتجاوز به ألفاظ البيت في كثير من الأحيان، ومن هنا كان العناء الذي لا يضطلع بعبئه إلا الزين، لأنه كما قلنا يفهم صبري حق الفهم، ولأنه قد حذق ذلك بالتدريب والمران.
والديوان مصدر بمقدمات: الأولى للدكتور طه حسين وقد ضمنها رأيه في شعر صبري ومميزاته؛ والثانية للأستاذ أحمد أمين وصف فيها (شعوره بشعر الشاعر وتذوقه لأدبه)؛ والثالثة للأستاذ أنطون الجميل عن (العوامل الشعرية في نظم إسماعيل صبري)؛ والرابعة للأستاذ الزين نفسه، وقد تكلم فيها عن أخلاق الشاعر ووطنيته وشاعريته وما اتبعه في تصحيح ديوانه. وإنما جمع الأستاذ بين كل هذه المقدمات لأنه - كما يقول - أراد أن يجمع للقارئ بين الاستفادة من شعره، وتلك الدراسة الواسعة المستوعبة لكثير من نواحيه. وأنا شخصيّاً لا يهمني كثيراً ما كتبه أولئك الأساتذة عن صبري الشاعر، فإن شعر الرجل خير من يفصح عنه ويدل عليه، وإن ميزات الرجل في شعره لواضحة جلية لا يختلف في تقديرها أحد، كما لم يختلف في تقديرها الأساتذة الفضلاء، ولكني لا شك معجب بما كتبه الزين عن صبري الرجل، وما ذكره من أخلاقه ووطنيته، ويا حبذا لو مدّ القول في ذلك فرسم لنا صورة كاملة لشخصية صبري تقوم إلى جانب شاعريته الكاملة، فإن فهم شخصية الشاعر أساس لفهم شاعريته، وعلى هذا تقوم الدراسات الحديثة، والمناهج الرشيدة عند علماء النقد.
وأما بعد، فإذا كان شعر صبري آية الجمال في تصوير الجمال، فإن ديوانه قد خرج للناس آية الكمال في تقدير الكمال، فهو كالروض الأنف جمع أطيب الزهر، وتم له جمال الموقع وبهاء التنسيق، وما أحسبه يقل في تنسيقه وترتيبه عن ديوان حافظ الذي تولته وزارة المعارف، ولا عن ديوان شوقي الذي خرج برعايته، بل إني لأراه يفوقهما روعة ودقة. وإنه لجهد مشكور ذلك الذي أداه الأستاذ الزين في خدمة هذا الديوان، ولو قدر لصبري أن يرى ديوانه لاغتبط بهذا الصنيع، ولشكر لصديقه وفاءه، وحمد له عناءه، وإنه لمشكور من الأدباء في جميع الأمصار، محمود من أبناء العربية في سائر الأقطار.
محمد فهمي عبد اللطيف.