مجلة الرسالة/العدد 287/لم الفرار إلى هنالك؟
→ من برجنا العاجي | مجلة الرسالة - العدد 287 لم الفرار إلى هنالك؟ [[مؤلف:|]] |
أغرب ما رأيت في حياتي ← |
بتاريخ: 02 - 01 - 1939 |
للدكتور بشر فارس
لست بسليم أية سلامة حتى إني أُعرض عن الاستشفاء، ولكني لا أرحل صيف كل سنةٍ إلى أوربة رغبة في معالجة كبد أو مراقبة قلب. ولست ممن يهوى الحر والسَّموم، ولكني لا أرحل طرباً إلى (النسيم العليل) (متى يموت هذا التعبير وأخواته، يا أيها الناس؟!). ولست من يحب أن يقال فيه: (هذا رجل يعود من أوربة)
ولكني أرحل إليها. . . بل أَفر إليها.
مما وممن؟
أتصافيني فأصارحك؟
أفر من مصر ثم مني. . . ومنك.
أفر من مصر لأنَّ لها من نفسي موضعاً عزيزاً. ألم يتفق لك (أعانك الله على مصاحبة النساء!) أن تمل صحبة المرأة التي تخصها بوثبات ودك، وترعاها بلفتات طرفك، وتحيطها بنبضات قلبك (ولعله باقٍ على خفقانه)؟ نهاية الحب بغض أو عراك. ولا بدَّ من القطيعة لصيانة الشوق؛ والشوق نشاط، والنشاط حياة
بيني وبين مصر مغاضبة. أريدها أن تقدم رِجلاً عازمة إذا مضت قُدُماً وهي تأبى إلا أن ترتاب في قدر الخطوة التي جرؤت عليها، كأن الموضع الذي تخطته فردوس (مِلتن). وكثيراً ما تنتقم من الرِجل التي تقدمت بالاستواء في وقفتها أو (معاذ الله!) بالإدبار: نُصب ماثل في عرض الطريق والخلق من خلفه يتأملون وأَعينهم يُدَغْدِغها النعاس!
لا نزال نحن المصريين نركب قطاراً يذهب بنا ويجئ من موضع منظور إلى آخر معلوم، فتارة يمهل في محطة قائمة في أول (الخط) وأخرى في محطة في آخره أو منتصفه. وأما الذي يلي الموضعين شمالاً وجنوباً فغير واقع بعد في دليل (السكة الحديدية).
هذا الصداع الذي بين التوثب والتقبض يفتح باباً عريضاً لأسباب المناقضة والتمزق، وألوان المناوأة والتشيع، ثم يروِّج البضاعة الخفيفة على صنوفها ويُدخل الغرور في أنفس أصحابها. فتضيع الموازين وتفتر العزائم الصادقة ويزيغ حكم الجمهور.
وحبي الثقافة مثل على ذلك.
الثقافة هنالك (إلا في البلدان التي يسوسها حاكم بأمره متحمس) واحدة، لأن برنامج التعليم مجرىً على منهاج واحد. فلا فرق بين قس وزنديق من حيث القابلية الذهنية، أعني من حيث إدراك الأمور. أما تأويل الأمور وحكاية رفضها وقبولها فمما يرجع إلى وجهة النظر وميل النفس. ثم لا فرق بين صانع لم يأخذ من العلم إلا طرفاً، وكاتب كشفت له الثقافة عن أدق أسرارها، سوى أن هذا ذهب في التحصيل أبعد من ذاك.
ثقافة معينة أسبابها، واضحة معالمها، تتسع الحين بعد الحين باتساع مجال العلم، ثم مرسومة على قدّ أذهان أهلها.
ومن نتائج هذه الثقافة أن الفكر يظفر بحرية لا تعرف القيد وأن القلم يجري على هواه. فإذا أصاب المنشئ عيباً عالن به، وإذا رأى رأياً بثه غير هياب. فلا تراه يداور في الكتابة أو يتنصل مما كتب. وإذا انتهى العالم ببحثه إلى حقيقة تصرع القضايا المألوفة جهر بها مطمئن الجانب. وإذا بدا لناقد أن يقول قولاً في كتاب أو عمل متصل بشئون التهذيب دونه من دون أن يرقب الرضى أو يخشى السخط.
وتعليل ذلك أن الثقافة هناك منفصلة من الدين ومنزهة عن السياسة. الثقافة مدارها العقل، أما الدين فأمر إيمان، وأما السياسة فمسألة هوى. وكلما بطشت السياسة بالثقافة ألجمتها؛ وكلما مشى إليها الدين حوّلها إلى مجراه وأرساها عند شطئه.
ومن نتائج هذه الثقافة أن برنامج التعليم يقصد إلى تهذيب ملكة التفكير لا إلى حشو خلايا الذهن. فالمتأدب هنالك يطلب القراءة المفيدة لا القراءة المسلية؛ والمنجذب إلى المسرح حقاً يرغب في المسرحيات التي تقوم عنده مقام غذاء لا تلك التي تهز أعصابه كأنها صورة من الصور المتحركة؛ والدائب على قراءة النقد ينتظر حكماً معتدلاً يبذل له شيئاً من الأمر حتى يستوي له رأي لا إطراءً مفرطاً أو ذماً مقيماً؛ وطالب العلم إنما يأخذ أساليب التحصيل والاجتهاد رجاء أن يكب على البحث فيما يأتي من الزمان وهو جد عارف أن (مائدة الثقافة لا تقبل طفيلياً).
ومن خصائص هذه الثقافة أن كل فرد من أهل الأدب يعرف ما له وما عليه. فلا ترى المطلع يهيم على الإنشاء والنقد، ولا القصصي يقبل على كتابة الرسائل الفلسفية، ولا الصحافي يتعرض لنقد المسارح ومعارض الصور، ولا الدعي يغير على مؤلفات غيره فينتحلها أو يسلخها أو يمسخها؛ ثم لا ترى الناقد المعتز بصناعته الوفي لها يُهمل الكتب الخارجية من المطابع لأن أصحابها من المحدثين، أو لأنهم غير متعصبين له، أو لأنهم أتوا بشيء لم يتوقعه.
ومن خصائص هذه الثقافة أنها تنشئ مُثلاً عليا، فالشاعر - مثلاً - يُكرم قريحته أن تفيض بما قاله غيره سواء من باب السطو أو من باب التقليد؛ ثم إنه - إلا في النادر النادر - يعف عن النظم لرغبة أو رهبة؛ ثم إنه يحاول ما استطاع أن يميز شعره من شعر أصحابه، ولا يبلغ ذلك إلا إذا استخرج من وليجة نفسه كنوزها فلا تهويل ولا جلجلة!
تلك أمثال من صدق الثقافة هنالك. وإنما صدقها يرجع إلى وحدتها واستقرارها وسهر أصحاب الأمر عليها. ومن الأمثلة على سهر القوم عليها أن الجوائز والمكافآت الموقوفة عليها إنما تجري على طريقة مرضية. وقصة ذلك أنها مبذولة للمنشئين الحق ولا سيما المحدثين منهم على أن يؤلفوا كتباً لها شأنها لا لموظفين بينهم وبين الأدب المحض شقاق على الغالب، ولا لأصدقاء وأعوان، وأنها بين أيدي حكام لهم - على الأقل! - دراية بما يفصلون فيه.
وإليك مثلاً آخر: إن شؤون الثقافة العامة لا تُقضى بين جدران وزارة المعارف وفي بهو الجامعة فقط (كأنما الفطنة حصرت في عقول فئة من الموظفين، والعلم جُمع في صدور نفر من الأساتذة). إن حق الأدباء والمنشئين وأصحاب المجلات الرفيعة في معالجة شؤون الثقافة العامة ليس دون حق أولئك الأساتذة والموظفين.
بقي أن القوم يضعون صاحب الشأن في موضعه، ويستثمرون ما يجب استثماره، ثم ينبذون من يتوسل بغير الكفاية ويستهزئون بورم الألقاب وطنين الأسماء.
تلك صبغة الثقافة هنالك. وليس معنى هذا أنها صافية كل الصفاء، فالخلق هنالك بشر. إلا أن مبادئها سليمة ومجدية.
بشر فارس