مجلة الرسالة/العدد 287/سبيل الصحافة
→ الرسالة في عامها السابع | مجلة الرسالة - العدد 287 سبيل الصحافة [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 02 - 01 - 1939 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
فرغت من عملي، فوضعت القلم، ونهضت عن الكتب ورحت أتمشى، فلقيني زميل فسألني:
(كيف ترى الخبر الفلاني؟)
قلت: (عظيم. وقد جعلته موضوع مقالي اليوم)
قال: (أنا جئت به)
قلت: (أهنئك. فمن أعطاكه؟)
قال: (قد والله سرقته!)
فضحكت وقلت: (اللص الشريف!)
وهممت بالانصراف عنه، بعد أن أثنيت عليه بالذي هو أهله. فقال: (بودي أن أعرف رأي الوزير فيما صنعتُ. وما أظن إلا أنه مغيظ محنق)
فقلت: (إن الخبر للنشر على كل حال، والخلاف بينك وبين الوزير على موعد النشر، وليس هذا الخلاف بالذي يثير الغضب)
وأقبل في هذه اللحظة زميل آخر فألقيت إليه خلاصة الحديث وقلت:
إن الجريمة ليست في ارتكابها، بل في افتضاحها. ونحن اليوم نحرم السرقة، وتقول قوانينها إنها محظورة، وإن عقابها كيت وكيت، ولكن (ليكرغ) في إسبارطة القديمة كان يذهب مذهباً آخر فيقول بأن لك أن تسرق على ألا ينكشف أمرك، فإذا انكشف كان عقابك صارماً. والنتيجة واحدة، فان السارق الذي يستطيع أن يستر فعلته لا يصيبه شيء، وما يعاقب إلا الذي يعجز عن إخفاء ما صنع، ويثبت عليه ارتكاب الفعل
ووجه آخر للمسألة: زميلنا هذا قد سرق شيئاً - لم يسرق خبزاً ليأكل، ولا مالاً لينفق على نفسه وعلى عياله، أو ليوسع رزقه، ولكنه مع ذلك سرق شيئاً في سبيل رزقه، فإن رزقه يتطلب منه أن يوافي الجريدة بطائفة صالحة من الأخبار التي تعني القراء، وصاحب الجريدة لا يكلفه السرقة، ولو فعل لكان هذا منه شططاً غير مقبول، وأمراً لا يطاع، ولكن الزميل مع ذلك رأى أن قيامه بواجبه يبيح له استقاء الأخبار بهذه الطريقة العوجاء، وهو - كما تعلم - سنيٌّ متدين، غير أن كونه سنيَّاً ومتديناً لم يمنعه أن يقدم على سرقة صريحة لا سبيل إلى المكابرة فيها، من أجل الرزق. ولو أنه كان قد سرق رغيفاً أو بيضة لكان جزاؤه ما يبينه قانون العقوبات. وعذر الذي يسرق الرغيف ليسكت (معدة ثعلبها لاحسٌ، وتارة أرنبها ضاغبُ) كما يقول ابن الرومي في قصيدته المشهورة لابن الحاجب، أوضح ممن يسرق ولا جوع به ولا خلة، وإنما يريد أن يستديم الرضى من صاحبُ عمله. ولو جئت بسارق الرغيف، وسارق المذكرة من الوزير أو أعوانه وسقتهما إلى القضاء، لكان المحقق أن يحكم على سارق الرغيف، وأن يبرئ سارق المذكرة. وقد يرى القاضي أن الفاقة (ظرف مخفف) - كما يقول رجال القانون - ولكن لن يكون عنده (ظرفاً مبرئاً)
وسارق المذكرة يستطيع وهو آمن أن يباهي بعمله، وأن يتخذ من قدرته على مثله شهادة مزكية له، ووسيلة للرفع من شأنه. وكل صاحب جريدة يسمع بجريمته يتمنى لو أن أخانا المجرم كان يعمل له، بل يتمنى لو كان كل من يعمل في جريدته على مثاله. ولكن سارق الرغيف بماذا يباهي؟ أبفقره؟ أم بعجزه عن الكسب؟ أم بما وصمه به القانون؟ أم بما نزل به من السجن؟ وكل صاحب عمل يزهد فيه ويخاف منه وينفي أن يكون عنده مثله؛ وقد يدركه عليه العطف، ولكنه لا يطمئن إليه. وإنه ليعلم انه ما أغراه بالسرقة إلا الجوع وقلة الحيلة وانقطاع الوسيلة؛ وإنه ما كان ليفعل ما فعل لولا ذاك؛ ولكن الشكوك مع ذلك تظل تساوره وتقاوم شعور العطف وتغالب رحمة القلب، بل منطلق العقل
وأحسب أن الصحافة مدرسة لتعليم هذا الضرب من السرقة ولست أعرف صحفيَّاً واحداً أتيحت له فرصة سرقة وأحجم عنها أو تردد. وما أبرئ نفسي ولا أنا أستثنيها. هذا وليس عملي في الصحافة - ولا كان قط - أن أستقي الأخبار، ولكن كل عمل في الصحافة رهن بالأخبار، فصلته به أوثق مما يبدو للمرء، وإن خيلت غير ذلك. وإنك لترى الصحفي (حنبليًّاً) في كل شيء إلا حين يحتاج إلى الوقوف على خبر، وإذا بالذمة تتسع، وإذا كل شيء جائز في سبيل الوصول إلى هذا المستور أو المكتوم؛ ثم لا أسف ولا ندم ولا توبة. وأكبر الظن أن تسقط الأخبار في الطباع، وأن الإنسان فضولي بفطرته. فإذا كان هذا هكذا فإن الصحافة لا تصنع أكثر من تنظيم الأمر وتوجيهه وجهة المصلحة العامة لخير الجماعة. والصحافة من ثمرات الحضارة، فهي تصنع كالحضارة - أعني أنها تعمد إلى الغرائز والفطر الساذجة فتصقلها وتهذبها وتنظمها وتجريها في مجار معينة، فيصلح أمر الجماعة ويستقيم حالها، مثال ذلك أن الرجل كان يخطف المرأة التي تروقه أو يسبيها، ثم يحتازها ما دام راغباً فيها ويحارب دونها؛ وهو الآن يتزوجها، ولا يحتاج إلى الخطف أو الحرب دونها، وإن كان ربما احتاج أن يعاني متاعب المنافسة من الخاطبيها، أو الراغبين فيها غيره ومثاله أيضاً أن الأثرة والأنانية قد اتخذا مظهر الوطنية أو القومية، ولم تذهب الأثرة ولم يبرأ منها الفرد، ولكن المدنية استطاعت أن تنتفع بروحها في الفرد وتسخرها لخير الجماعة
كذلك تفعل الصحافة. حين تستغل فضول الإنسان فتتولى جمع ما يعنيه وتنشره على الناس. وقد خرج الأمر عن أصله، حتى لصار يبدو كأنه منقطع الصلة به. ومن الذي يجرؤ أن يقول: إن الصحافة لا هم لها إلا إرضاء فضول الإنسان بعد أن أصبحت تسمى (السلطة الرابعة؟). ومن ذا الذي يذمها من أجل أنها تصل إلى أخبارها بما يسع رجالها من حيل، ويدخل في طوقهم من وسائل وإن كان بينها السرقة. بل شراء الذمم بكل ما تشتري به من طيب وذميم - أي بالخداع، والملق، والمدح، والصداقة، وتبادل المنافع، لا بالمال وحده كما قد يتوهم البغض، فإن الرشوة الصريحة وسيلة يندر الالتجاء إليها. . .
وهكذا جعلت الصحافة من السرقة عملاً محموداً، ومن مرتكبها لصًّاً شريفاً! ولا عجب فإن خدمة الأمة تكلف أبنائها تعاطي ما يعده العرف رذائل وآثاماً، وتحمد منهم ذلك، وتجزيهم عليه أحسن الجزاء
إبراهيم عبد القادر المازني