الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 286/إلى شباب القصصيين

مجلة الرسالة/العدد 286/إلى شباب القصصيين

مجلة الرسالة - العدد 286
إلى شباب القصصيين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 12 - 1938


كيف احترفت القصة

قصة المستر كومبتون ماكينزي

للأستاذ أحمد فتحي

من المحقق أنني تبيَّت ميولي الأدبية وأنا لا أزال في دراستي الجامعية، إذ كنت أصدر مجلة خاصة في أكسفورد كانت تظهر لي فيها بعض الأشعار، كما أنني كتبت في عام 1900 أقصوصة صغيرة تافهة، ثم أتبعتها بأخرى بعد عامين. وكان أهلي على قلة تفاؤلهم يتوقعون لي شيئا من الحظ في احتراف الأدب، وتجلى ذلك في أن أبي قد اتفق معي على أن يظل خمسة أعوام يوظف لي مائة وخمسين جنيهاً في السنة. غير أن الاتفاق أوشك أن ينقض حين أقدمت على الزواج؛ فرأى أبي أن هذا الزواج أمر خارج على حدود الاتفاق. ولكنني عالجت الموضوع من ناحية أخرى، إذ جهدت غاية الجهد حتى كتبت مسرحية كاملة في أسبوعين فقط سميتها (ذو الرداء الداكن) وقدمتها إلى أبي وقام بإخراجها على المسرح الملكي في (إدنبره) في فبراير 1907 واحتجزها مدى خمسة أعوام أكبر الظن أنها مثلت خلالها مرات ومرات. وبعد ذلك انصرفت إلى الريف حيث دفعت إلى المطبعة بمجموعة من شعري قام بنشرها (بلاكويل). وفي خريف ذلك العام مضيت إلى حيث لأقضي الشتاء عند صديق قديم كان حينذاك قَسَّا في (كورنوول)، آملاً أن أوفق في وضع مسرحيات جديدة. . .

ولعل سروري بظهور هذه المجموعة الشعرية قد ترك أثره في نفسي، إذ فضلت الاشتغال بوضع الكتب على كتابة القصص للمسرح. ويخيل إلي أن الكتاب المبتدئين يؤثرون مشاهدة قصصهم تمثل وراء ستار المسرح على أن يظلوا يقلبون صفحات كتبهم بعد طبعها؛ بيد أني آثرت تأليف الكتب على أي حال. ولعل مبعث ذلك إنما هو عدم رضاي عن قيام الممثلين بأدوارهم، إذ كنت شديد الثقة بأنني أستطيع أن أقوم بتمثيل الأدوار خيراً مما يصنعون جميعاً! والعجيب أن هذا الاعتقاد نفسه قد عزف بي عن احتراف التمثيل! والحق أنني كنت أضيق بطريقة أداء الممثلين لأدوارهم، فقد كنت أتبين أن الشخصيات التي وضعتها في مسرحيتي لم تكن تخرج على المسرح ولها الخواص والمميزات التي كنت حريصاً عليها حين وضعت أشخاص مسرحيتي قبل التمثيل.

واتفق بعد ذلك أن نضجت في ذهني فكرة قصتي الأولى (الزواج السري). وظلت صورة بطلتها تتمثل لي مع كل صباح؛ حتى كان نوفمبر سنة 1907، إذ جلست إلى منضدتي أسجل بقلم الرصاص فصول هذه القصة التي تولى نشرها (مارتن سيكر) في صيف عام 1910

مضيت في كتابة هذه القصة ببطء شديد. ولم تكن لي مرانة قصصية تذكر، غير أني مضيت في تسجيل فصولها على غرار الأساليب المعروفة في القرن الثامن عشر، وكذلك كانت هذه الفصول تدور حول حياة أشخاص عاشوا في ذلك القرن نفسه. وإني لأذكر أنني فرغت من كتابتها في عام 1909، ثم آثرت أن أبعث بها الى صديقي (جون موراي) الذي كانت لأبيه دار للنشر. على أني كنت ضعيف الأمل في أنه مستطيع أن يحمل والده على قبول نشر قصتي. ولم ألبث بعد إرسالها إليه سوى أسبوعين، كتب إليّ بعدهما يقول إن ممن يقرأون لهم اثنين نصحا لهم بعدم نشر هذه القصة، وإنه لا يستطيع أن يصنع من أجلي شيئاً!! وقد عجبت لذلك كثيراً. . .

وبعد ذلك تلقى أبي من صديقه (هنري جيمس) كتاباً يقول فيه إنه بعث بقصتي إلى الناشر (هانيمان) وطلب إليه أن يعيرها عناية خاصة. وقد كان أبي حينذاك ينظر إلى كتابتي القصصية على أنها ليست فقط مضيعة لوقتي، بل هي فوق ذلك مضيعة لنقوده أيضاً!

كان (هنري جيمس) رجلاً طيب القلب إلى أبعد حد. غير أنه لم يكن ذا ولع بأن يقرأ قصة من طراز القرن الثامن عشر؛ وقد بدا ذلك جلياً في خطابه ذاك. وإني لأقرر في هذا الصدد أنني أستطيع أن أعد على أصابع اليد الواحدة أولئك الناشرين الذين يحكمون على ما ينشرونه بمحض آرائهم الخاصة. ولعل ذلك من أشنع العيوب التي يمكن اجتلاؤها في ميدان النشر

وأكبر الظن أن القصة لم تصل إلى يدي (هانيمان) إذ بعث بها (هنري جيمس) إليه. فقد عاد بها البريد إليّ بعد ثلاثة أيام مع أن (هانيمان) كان وقتها مسافراً في مكان بعيد، كما علمت بعد ذلك. وقد أرسلت بها مرة أخرى إلى ناشر آخر لم يوافق على طبعها إلا إذا قمت بنفقات الطباعة! فقصدت إلى ناشر غيره رفض أيضاً، ثم إلى ناشر ثالث حجزها بضعة شهور قبل أن يرفضها هو أيضاً. وهكذا تعدد عرضي إياها على الناشرين، كما تعدد إصرارهم على الرفض. وكان أبسط نتائج هذه الحالة أنني يئست من مستقبلي ككاتب قصصي، فعدت أحاول أن أعالج المسرحية من جديد، فكتبت قصة تمثيلية جديدة وقدمتها إلى والدي ولكنه رفض إخراجها! فعزف بي ذلك عن كل رغبة في احتراف القلم؛ وبدا لي أن من الأوفق أن أجرب حظي في الاشتغال بتربية الأزهار واستنباتها، وقد أصبت في هذا العمل حظاً من التوفيق فأصررت على ألا أخط بقلمي حرفاً واحداً من قصة جديدة؛ إلا إذا طبعت قصتي الأولى (الزواج السري) ورأيتها منشورة في كتاب يجثم على مائدتي!!.

وحدث بعد ذلك أن أنذرني أبي بأنه قد بر بوعده وأمضى خمس سنين وهو يعطيني مائة وخمسين جنيهاً في العام - غير أنه لا ينوي استئناف تأدية هذا المال معاونة لي على استنبات الأزهار أو كتابة القصص! وهكذا وجدتني مرغماً على احتراف التمثيل مثله. وكان هو في ذلك الحين قد أرصد قدراً من المال لإخراج مسرحية جديدة للكاتب العظيم (هول كين) في سنة 1910 وكان في هذه المسرحية الجديدة دور يلائمني، ولم تكن أمامي عقبة سوى موافقة المؤلف (هول كين) نفسه لأقوم بأداء هذا الدور في نظير أجر أسبوعي قدره عشرة جنيهات

وأخرجت المسرحية، ولعبت دوري فيها؛ وظللنا نخرجها أسبوعاً واحداً. غير أنها جلبت عليّ بعض الحظ. فإن بعض أصدقائي الفنانين قد أخبرني بأن الموسيقي (بليسييه) كان يبحث عن شاعر يضع لفرقته بعض الأناشيد، غير أني لم ألبث أن مرضت بالتهاب في الحلق، ولكن مرضي لم يحل دون قيامي بنظم ما يريده من شعر غنائي ومن حوار موسيقي. وهكذا وجدت لدى الرجل عملاً موافقاً لمدة عام واحد كتبت خلاله قصتي الثانية الشهيرة (كارنيفال)

وفي تلك الأثناء أخبرني بعض الأصدقاء بأن (مارتن سيكر) يلح في طلب قصتي الأولى (الزواج السري)، التي كان قد قرأها قبل أن يحترف النشر وأنه يحب أن يجعلها أحد كتابين يريد أن يبدأ بطبعهما حياته العلمية كناشر. فتواعدنا على اللقاء في مشرب للشاي. وفي هذا اللقاء اتفقنا على كل ما يعنيني ويعنيه من أمر النشر، بعد أن غيرت اسم القصة فصار (الزواج السري) بعد أن كان اسمها إلى ذلك الحين (موارد الستار)، وقد سر المستر (سيكر) بهذا التغيير أيما سرور

كنت أختلس الفراغ بين مشاغلي لأقوم بمراجعة (بروفات) الكتاب حال طبعه، إذ كنت أعمل مع الموسيقي (بليسييه) كما قدمت، ولن يكن عملي معه يقتصر على تأليف الأغاني بل كان يتعداه إلى كثير من المهام الفنية المتصلة بطبيعة عمله. بل إني لم أكن أفرغ لمراجعة هذه (البروفات) إلا وقد نال مني الجهد وكدت أسقط من الإعياء، وقد سبب ذلك وقوع كثير من الأخطاء المطبعية المضحكة في الطبعة الأولى من الكتاب.

ولم يكن الناس يعتبرون (يناير) من شهور موسم النشر، ولكن بدا لي أن ظهور كتاب جديد لمؤلف مغمور في مثل هذا الوقت الخارج عن موسم النشر قد يكون تنبيهاً خاصاً إلى ظهوره. وقد أسفرت التجربة عن صحة حدسي. وكانت الصحف كريمة في استقبال كتابي غاية الكرم. وأفاد الكتاب من هذا كثيراً، إذ بيع منه خمسة آلاف نسخة قيمة كل منها ستة شلنات، وكان هذا العدد يعتبر ضخماً في ذلك العهد.

وينبغي أن أذكر هنا أنني أشرت على الناشر بأن يبذل غاية الجهد في سبيل الإعلان عن الكتاب في كل مكان. وقد أثر الإعلان كما كنت أرجو، إذ استلفت أنظار القراء إلى كتابي الأول.

كومبتون ماكينزي