مجلة الرسالة/العدد 285/رسالة من باريس
→ في اللغة | مجلة الرسالة - العدد 285 رسالة من باريس [[مؤلف:|]] |
أتوق ← |
بتاريخ: 19 - 12 - 1938 |
بعض الدكاترة الفخريين
الذين منحوا الدكتوراه الفخرية في فرنسا هذا العام
للباحث الأديب مصطفى زيور
- 2 -
إذا أضفنا إلى هذه المحاولات لتركيب المواد الزلالية وبالتالي المادة الحية من المواد اللاعضوية البسيطة، إذا أضفنا إلى ذلك نتائج بحوث الكيميائي الكبير (لوب) التي أثبتت بطريقة لا تحتمل الشك العلمي أن المواد الزلالية لا تختلف في قوانين تفاعلاتها الكيميائية عن قوانين تفاعلات المواد اللاعضوية، وبعبارة أخرى أن المادة الزلالية لا تنفرد بكيمياء خاصة، فإنه يبدو لنا أن هؤلاء العلماء المنكبين على دراسة المادة الحية يتخذون فرضاً لعلمهم وبحوثهم أن هذه المادة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المواد الأخرى. وليس في ذلك غرابة فإن أي تقدير من جانبهم يختلف عن ذلك كأن تعتبر المادة الحية خاضعة لسلطان ميتافيزيقي يجعل موقفهم متناقضاً، لان البحث التجريبي لا يمكن أن يتناول إلا ما يقبل التجريب وبالتالي ما يخضع لقانون طبيعي
ولكن المسألة التي استرعت اهتمام سورنس بنوع خاص هي من غير شك مسألة (مبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة) في سائل بعينه، وأهمية ذلك بالنسبة للمظاهر الحية. ويجدر بي قبل أن أبين خطر هذه البحوث أن أقدم لها بكلمة قصيرة أبين فيها ما الذي يعنونه بمبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة أو جهد الهيدروجين المكهرب
لاحظ فراداي، ذلك العبقري الإنجليزي أحد مؤسسي المغناطيسية الكهربائية في أوائل القرن التاسع عشر، أننا إذا أحدثنا فرقاً في الجهد الكهربائي بين قطبين منغمسين في محلول ملح ما فإننا نرى تياراً كهربائياً يمر يصحبه انحلال الملح إلى أجزاء تحمل شحنة كهربائية بعضها موجب يوجهها إلى السير نحو القطب السالب، وبعضها سالب يوجهها نحو القطب الموجب، وهكذا يتكون لدينا تيار من هذه الأجزاء ناقل للشحنات الكهربائية أي لكمية الكهرباء. هذه الأجزاء المكهربة هي التي يسمونها منذ فراداي باللفظة اليونانية (أيون) أ سائرة ومتجهة. على أن (أرينبوس) بيَّن فيما بعد أن انحلال الجسم الذائب في سائل ما إلى أيون لا يحدث تحت تأثير مرور تيار كهربائي. بل إن هذا الانحلال يحدث لمجرد ذوبان الجسم في السائل؛ ذلك لأن ذرة كل جسم تتكون من نواة ذات شحنة موجبة يحيط بها كهيربات ذات شحنات سالبة يدعونها (إلكترون) تعادل الشحنة الموجبة فتصبح الذرة متعادلة لا هي موجبة ولا هي سالبة؛ فإذا ما أذيب جسم في سائل يضطرب هذا التعادل بأن تفقد الذرة كهيربا سالباً فتصبح موجبة أو تكسب كهيرباً سالباً فتصبح سالبة.
فإذا أذبنا حامضا في سائل ما، وليكن حامض الكلوريدريك المكون جزآه من ذرة من الكلور وذرة من الهيدروجين فإن بعض هذا الحامض ينحل إلى ذرات كلور ذات شحنة سالبة، وذرات هيدروجين ذات شحنة موجبة. ولكن ذرات الهيدروجين المكهربة هي التي تعين الحموضة، فكلما كانت قابلية الحامض إلى الانحلال كبيرة، وبالتالي عدد أيون الهيدروجين المنتشرة في السائل كبير، كانت درجة الحموضة كبيرة، بصرف النظر عن كمية القلوي الذي يمكن أن يعادلها ذلك الحامض، والتي تعين قوته الحامضية الكاملة. وكذلك الحال في جسم قلوي مثل الصودا الكاوية المكون جزآها من ذرة صوديوم متحدة مع مركب يدعونه هيدروكسيل يتألف من ذرة هيدروجين وذرة أوكسجين، فإذا أذيبت الصودا الكاوية في سائل فإن جزءاً منها ينحل إلى ذرات صوديوم تحمل شحنة موجبة، والى عدد من الهيدروكسيل المذكور يحمل شحنة سالبة. وكما أن عدد ذرات الهيدروجين المكهربة هو الذي يعين درجة الحموضة الحالية، فإن عدد الهيدروكسيل المنتشر هو الذي يعين درجة القلوية الحالية
ولكن ظاهرة الانحلال هذه تحدث حتى بالنسبة للماء النقي؛ فنحن نعلم أن جزئي الماء يتكون من ذرة أوكسجين يرمز لها بالحرف (أ)، (أي الحرف الأول من أوكسجين) وذرتين هيدروجين يرمز لكل منهما في العربية بذلك الرمز العجيب (يد)، (الحرفان الثاني والثالث من هيدروجين). وهنا أحب أن يسمح لي القارئ أن أترك موضوعنا لحظة لكي أعلق على هذا الرمز الغريب، فلست أشك أن المترجم المصري عندما أراد ترجمة الرمز الدولي بدء النهضة العلمية الحديثة في مصر منذ نحو ربع قرن، ظن أن الكلمة هي إيدروجين بإبدال الهاء همزة كما يحصل في النطق الفرنسي، ويدل على ذلك ما جري عليه الكيميائيون في مصر من كتابة هذا العنصر على هذا النحو الأخير أي إيدروجين. ولما كان الحرف (أ) سبق أن اختاره المترجم المصري رمزاً للعنصر أوكسجين فلم يكن بد من اختيار الحرفين الثاني والثالث من إيدروجين بجعلهما رمزاً لهذا العنصر. ولكن الواقع أن الكلمة هي هيدروجين بصرف النظر عن نطقها في بعض اللغات. والواجب إذاً أن يتخذ الحرف (هـ) الذي يقابل رمزاً لهذا العنصر إذا كان لا بد لنا من الاستمرار فيما درجنا عليه منذ نحو ربع قرن من نقل الرموز الدولية إلى رموز عربية. فماذا يرى عالمنا الكبير الدكتور أحمد زكي؟
رأينا أن جزيئات الماء التي تتكون من ذرة من الأوكسجين وذرتين من الهيدروجين ومن ثم يرمزون لها يد 2 أينحل بعضها إلى ذرات هيدروجين موجبة يرمز لها هكذا يد + وهيدروكسيل سالبة يرمز لها هكذا أيد -؛ ولكنه من الواضح أن أيون الهيدروجين الذي يحمل شحنة موجبة لابد أن يتحد من جديد مع أيون الهيدروكسيل الذي يحمل شحنة سالبة فتتكون جزيئات مائية من جديد، بينما تنحل جزيئات مائية أخرى إلى أيون هيدروجين وهيدروكسيل، وهكذا حتى تصبح سرعة التفاعل في الناحيتين متعادلة، فينتج لدينا حالة استقرار في مبلغ تركيز الأيونات يمكن التعبير عنها بأن حاصل ضرب عدد الأيونات مقسوم على عدد الجزيئات الغير منحلة ينتج عدداً ثابتاً:
(يد +) (أيد -)=ث (عدد ثابت يدل على حالة الانحلال وبالتالي يدل في حالة حمض أو قاعدة على قوة الحمض
(يد 2 أ)
أو القاعدة).
ولكن في حالة الماء فإن الجزيئات الغير منحلة قليلة التغير
وبالتالي فإن حاصل ضرب (يد +) (أيد -) يكون ثابتاً، وتقدر
قيمته في لتر من الماء بكسر اعتيادي مقامه الوحدة يتبعها
أربعة عشر صفراً 11014 فإذا تصورنا الماء في حالة
التعادل التام أي أن أيون الهيدروجين يساوي عدد أيون الهيدروكسيل فإن الرقم الذي يدل على تركيز أيون
الهيدروجين يكون في هذه الحالة 1107
ولتسهيل الإشارة إلى الحموضة الحالية أي لمبلغ تركيز اليون يد + أو جهد الهيدروجين اقترح سورنسن أن يعبر عنه بمقلوب اللوغاريتم العشري أي بعدد الأصفار الذي يتبع الوحدة في مقام الكسر الاعتيادي الدال على مبلغ التركيز أي بالعدد 7 في حالة التعادل، وأن يرمز له بالحروف الدولية ما يمكن ترجمته بالحروف العربية ج يد حيث أن الحرف الأول من جهد (وليس القوة كما أشار بذلك البعض لأن لفظة القوة ترجمة فلسفية قديمة وتدل عند المشتغلين بالعلم في مصر على محدث العمل). كما كان لسورنسن الفضل في استنباط طريقة لقياس درجة الحموضة هذه بواسطة تفاعلات ملونة
أهمية مبلغ تركيز ذرات الهيدروجين المكهربة أو جهد
الهيدروجين ج يد في المظاهر الحية
قد لا يكون من المبالغة أن نقرر أنه ما من ظاهرة من ظواهر الحياة لا تخضع لهذا العامل الأساسي: مقدار الحموضة الحالية أي جـ يد؛ فقد تبين أن الكائنات الحية حتى الدنيئة منها مثل الجراثيم لا يمكن أن تعيش إلا في وسط له درجة حموضة معينة خاصة بكل نوع من أنواع الكائنات لا يجب أن تتغير وإلا فقدت الحياة. ويكفي أن أشير إلى أن درجة الحموضة في دم الإنسان ثابتة ثباتاً يسترعي النظر حقاً، وتعمل على هذا الثبات وظائف لها من الدقة والانتظام ما يدل على خطورة مقدار الحموضة الحالية في بقاء الحياة. وتبدو هذه الخطورة بوضوح إذا علمنا أن تلك الصدمات العنيفة المصحوبة بهبوط شديد في ضغط الدم والحرارة وضربات القلب بحيث يصبح الموت قاب قوسين أو أدنى، والتي تحدث من إدخال بعض المواد الغريبة في الدم أو نتيجة لبعض الأمراض، هذه الصدمات يصحبها تغير في درجة الحموضة المذكورة.
وهنا يجب أن أشير إلى ما يدعونه نقطة التساوي الكهربائي في الزلاليات حتى يتم لنا هذا العرض السريع لمسألة الحموضة وأهميتها البيولوجية سبق أن ذكرت أن المواد الزلالية تتركب من أحماض أمينية تحتوي جنباً إلى جنب على وظيفة حمضية ووظيفة قلوية؛ وعلى ذلك من السهل أن نفهم أن المواد الزلالية تنحل فتترك ذرات هيدروجين موجبة من جهة كما يحدث في الأحماض، وهيدروكسيل سالبة من جهة أخرى كما يحدث في القلويات.
فإذا ما كانت درجة الحموضة الحالية ج يد في الوسط الموجودة فيه هذه المواد الزلالية كبيرة فإن هذه المواد تسلك كما لو كانت قلوية فقط فلا تنحل إلا إلى أيونات هيدروكسيل (أو على الأقل فإن النتيجة العملية هي كذلك)، وبالعكس فيما لو كانت درجة حموضة الوسط قليلة أي قلوية؛ وبين هذين الطرفين توجد نقطة في درجة الحموضة تنحل عندها الزلاليات إلى مقدار متساو من أيون الهيدروجين وأيون الهيدروكسيل، فيحدث نوع من التساوي الكهربائي يمكن أن نرمز له هكذا ج يد س (س=الحرف الأول من الفعل الماضي أصل الاشتقاق ساوي)
والآن من السهل أن نفهم أهمية نقطة التساوي هذه إذا تذكرنا أن العامل الرئيسي في ثبات المحلولات الغروية هو وجود شحنة كهربائية تمنع الجزيئات من التهالك، ولما كانت هذه الشحنات الكهربائية تنحط إلى مقدار ضعيف عند نقطة التساوي ونتيجة لهذا التساوي، فيمكننا أن نتنبأ بقلة ثبات المحلولات الغروية وبالتالي المادة الحية وميلها إلى الانهيار عند هذه النقطة. وهذا ما يحدث بالفعل ويوضح لنا أهمية درجة الحموضة ج يد والخطر الذي ينتج من تغيرها على مظاهر الحياة.
وأخيراً فإن الفضل يرجع إلى سورنسن في بيان أهمية درجة الحموضة بالنسبة للتفاعلات الخميرية، فقد بين كيف أن الخمائر - وهي تلك المواد الخاصة بالكائنات الحية تساعدها على تحقيق التفاعلات الكيميائية - لا تقوم بعملها إلا في درجة حموضة معينة خاصة بكل خميرة؛ فنحن نعلم مثلاً أن خمائر المعدة لا تقوم بعملها في الهضم إلا في درجة حموضة معينة مرتفعة بالنسبة لدرجة الحموضة اللازمة لخمائر الأمعاء.
وفي النهاية لست أحب أن أترك القارئ يفهم أن جميع المسائل التي ذكرتها ومحصولنا العلمي فيها يرجع إلى أبحاث سورنسن وحده، فإني أكون إذن تعديت الأمانة التاريخية؛ ولكنه لم يكن في استطاعتي أن أبين قيمة أبحاثه دون أن أذكر بجانبها الأبحاث التي أثارها، ثم الأبحاث التي سبقته حتى نقدر مجهود هذا الكيميائي الكبير. وبعد كل شيء فإني لم أقصد إلى تحقيق تاريخي فليس هنا مقام ذلك، ولكني قصدت إلى اتخاذ بحوث هذا العالم مناسبة للإشارة إلى بعض التيارات العلمية السائدة.
للكلام بقية
مصطفى زيور