مجلة الرسالة/العدد 285/الحقائق العليا في الحياة
→ صور من الحياة في بغداد | مجلة الرسالة - العدد 285 الحقائق العليا في الحياة [[مؤلف:|]] |
أمر؟!! ← |
بتاريخ: 19 - 12 - 1938 |
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان
بقية الحديث في مصير الإنسانية
إن مصير الإنسانية ليس بالأمر الذي يمر عليه القلم بدون إلحاح في تركيزه في العقول وتبيين آثاره في الحياة وفي النفس. إنه الحياة كلها في رأي الدين، والعدم كله في رأي الإلحاد. وشتان بين الحياة كل الحياة، والعدم كل العدم فيما وراءهما من آثار! شتان بين أن يعتقد الإنسان أنه جنين في بطن الدنيا سيولد منها ولادة ثانية، وبين أن يعتقد أنه سيخرج منها سقْطاً مَسْبُوتاً هالكاً إلى غير رجعة! إنها مسألة عظمى في قيمة الإنسان وفي سكينته واطمئنانه إلى مركزه في الحياة.
إن الإنسان العادي غير الصوفي لا يحتمل أن يتلقى القول بأنه مخلوق للحياة هنا فقط، دون أن يثور على الحياة أو يقنط قنوطاً قاتلاً لحيويته.
لقد وصل القول عند بعض الفلسفات إلى اعتبار الإنسان مظهر الإلهية أو شرارة من روحها! فكيف إذاً ينطمس هذا المظهر، أو تنطفئ تلك الشرارة؟
ثم لنرجع إلى ما يثبته العقل للخالق من حكمة وعدل تقتضيهما ضرورة الكمال الإلهي الذي لا يستطيع العقل أن يستغني عنه كصفة ثابتة للإله، فنتساءل: هل في الدنيا مع آلامها وشرورها عدل مطلق؟ يجيب المؤمن والملحد عن ذلك جواباً واحداً: كلا! ثم يفترقان، فيذهب المؤمن إلى أن كمال العدل المطلق وراء هذه الحياة، في تلك الحياة المثالية التي فيها كل خيالات الكمال وأطياف السعادة التي طافت بأحلام كل الناس وسكنت رؤوس الفلاسفة والحكماء، أوجدها في نفس الإنسان إلهام عميق خفي لتتم الصورة العقلية للكمال الإلهي. وفي هذه المقدمات وفي نتائجها المستمدة من منطق الطبع ومنطق التجريد راحة النفس المؤمنة وسكونها وطمأنينتها.
أما النفس الملحدة فماذا عساها أن تصنع غير طيران خواطرها في فراغ لا قرار له؟ إنه لا تملك أن تسقط على قرار حتى تتحطم فتستريح! ومِلاكُ ما تنتهي إليه إن حياتها كحياة تلك الحشرات والديدان التي (تعيش) على الروث والعفونة في الظلمات ثم تموت عليها وتدفن فيها! ولْتَحْيَ بعد ذلك السموات أو فلتسقط! ولتكن هذه العوالم الزاخرة بالعلوم والجمال والعجب العجاب لتراها فقط أشباح تلك الحشرات الصغيرة والكبيرة من بُعْدٍ فتقتل غيظاً كل يوم ألف مرة ثم تذهب إلى غيبوبتها الكبرى مع الجمادات كما كانت! والحياة إذاً بلا قصد أو غاية، والرؤوس الإنسانية إذاً تفرز التفكير كما تفرز الكبد الصفراء، أو كما يفرز ذيل العقرب السم!
سلام لك أيتها النفوس المعذبة مما أنت فيه وإنه لعذاب غليظ!
إن الإلهام الذي فيك من الخالق يناديك: أنت المقصودة بالخلق في الأرض. . . أنت خالدة. . .
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين. لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولكم الويل مما تصفون)
ثم مادام كل ما في الفلسفة فروضاً لا تدخل في قليل أو كثير إلى العلم اليقيني، فما بالنا نترك الإيمان بوجود مصير رفيع للإنسانية على أنه فرض فلسفي؟ إنه أصح الفروض وأصلحها للحياة الدنيا وادعاها إلى الإصلاح المستمر المخلص.
وهنا دليل ينبع ويستنبطه العقل من بين ما أقول: ذلك أن أقرب الفروض إلى الحق في الدنيا هو ما يدعو إلى صلاحية النفس للحياة وإصلاحها لها، وما يحل به أكبر مقدار ممكن من المشكلات، وما صح تطبيقه على وجه الشمول بين الناس في كل مكان وزمان. ذلك مبدأ تسلم به الفلسفة والعلم ومذاهب الأخلاق.
ومصير الإنسانية إلى حياة أخرى أسمى من هذه الحياة هو ذلك الفرض الذي ينطبق عليه ذلك التعريف السابق، هو لا غيره.
وقد عودتنا الحياة المدنية أنها لا تحترم ولا تبقى إلا ما يتفق مع حفظ قوانينها ويضمن اطراد تقدمها. فمتى خلينا الدنيا من هذا الفرض أمام الإنسان فهنالك تكون الحالفة: حالفة العمران. وإذا كانت معرفة مثل الزهاوي أن الإنسان لا يأتي إلى هذه الدنيا مرتين قد حملته على أن يطلق لنفسه العنان في اقتراف اللذات ويدعو إلى ذلك فيقول:
لا تقف في وجه لذا ... تك مكتوف اليدين
أنت لا تأتي إلى دني ... اك هذى مرتين
فما بالنا لو عرف الناس أنهم لا يأتون إلى دنياهم ولا يذهبون إلى مصير آخر؟ إنهم يفعلون كل جريمة للذة وانتهاز فرصة الوجود الواحد في هذه الحياة التي ليست حينذاك إلا وليمة أدبها لنا القدر لنتلذذ ونتشهى فيها كما قال الأول:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
وحق لهم أن يفعلوا ذلك!
ينبغي أن تعلم وتتذكر دائماً أن (إرادة الحياة) إنما تحفل غاية الاحتفال بعقليات أكثرية الإنسانية لا بعقليات هؤلاء الفلاسفة المسرفين، وقطيع الإنسانية يسير بإلهام مركب كما تسير قطعان الحيوانات الأخرى بالهام بسيط، وإذا كانت قطعان الحيوان لا تحتاج في حياتها إلى فلسفة لأنها تسير بنظام أشبه بالنظام الآلي فإن الإنسانية تحتاج في سيرها في الحياة إلى الفلسفة ولكن من غير إسراف. فلا يفرضن حكيم أو فيلسوف شذت فيه شعلة الخيال والذكاء وقوة الافتراض عقله وطريقة إدراكه للأشياء على جميع عقليات الإنسانية المرهونة بالبسائط والسجينة في أقفاص فولاذية من الضرورات الجسدية. وقد دلت الإنسانية بتاريخها العتيد أنها لا تستجيب لخيال الفلاسفة المسرفين إلى درجة الهذيان أحياناً. ومن مصيبة بعض الفلسفات أنها تتخذ الشك ديناً؛ والشك حسن على أنه باب إلى اليقين عند من في عقولهم محطات ورباطات تقفهم عند البديهي، لا على أنه حالة استقرار فإنه حينئذ يُجِنُّ ويشقى ويشرد العقل الإنساني وينفيه من حياة الإلهام البسيط والمركب، وكل شيء في الحياة لغز وأُحْجِية من ذرة المادة وصورها وتكوينها وطاقتها وقواها إلى الروح وأسرارها وخفاياها. كل شيء يحمل كل عقل بصير يقظ على أن يقف أمامه دائراً بأسئلة عنه لا عدد لها، وقد نقلنا في مقال (النار المقدسة) المنشور في عدد سابق من الرسالة عن (ملكن) العالم الكهربائي الكبير قوله: (خبروني ما هي المادة؟ أخبركم ما هي الروح. . .) وقد خابت الفلسفة اليونانية في أن تخرج ديناً عاماً يتبعه جميع اليونان، دع عنك أكثر الناس. وكانت كل مدرسة من مدارسها لا تظفر إلا بعدد محدود من التلاميذ لا يلبثون أن يتفرقوا بعد موت أستاذهم أو في حياته، من غير أن تقدم إحدى تلك المدارس إلى الناس وازعاً يقوم مقام وازع الوثنية التي كانت تضج بها معابدهم. ولا يزال (العقليون) خائبين في إيجاد ذلك الوازع الأدبي الذي يحكم الجماعة من الداخل كما تحكمها القوانين من الخارج. ذلك لأن الإنسانية ممدودة بالإلهام الذي يربطها بما وراء الطبيعة. ولن تستغني عن وازعه بما تقدمه لها العقول؛ إذ هي من جهة حائرة في أي العقول تتبع، ومن جهة أخرى هي لا تؤمن بما تصنعه هي، ولا تعتمد عليه في رغبتها ورهبتها. وما تقدمه إليها العقول مصنوع مخلوق أمامها فهو أرضى ضعيف غير ممدود بما وراء الطبيعة، فلا يعزى ولا يخيف ولا يرغب.
وهذا هو ما يسلمنا إلى الحديث عن (النبوة والرسالة) ووجوبهما. والعمدة فيهما على معرفة (الوحي) وقد خرج الحديث عن الوحي من منطقة الفلسفة إلى منطقة العلم بالبحوث العلمية الأخيرة في النفس الإنسانية وقواها وأسرارها. وهي بحوث مبنية على التجارب التي هي أداة (العلم) بمعناه الاصطلاحي الآن.
الرستمية
عبد المنعم خلاف