مجلة الرسالة/العدد 284/تحية الشتاء
→ من مآسي الحياة | مجلة الرسالة - العدد 284 تحية الشتاء [[مؤلف:|]] |
رجال التربية والتعليم ← |
بتاريخ: 12 - 12 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
الحرية والأمان هما قصارى أمل الإنسان
وكون الإنسان آمناً في سربه حراً في عمله ورأيه هو المطلب الذي لا يتخطاه إلا وهو ظالم نفسه وظالم غيره، إلا أن تكون سيادة على الآخرين برضى منهم وشهادة له بالاستحقاق، وتلك غاية لا يطمح إليها كل إنسان
وللحرية من الطبيعة موسم، هو الصيف
وللأمان من الطبيعة موسم، هو الشتاء
فبركة الصيف هي الطلاقة، وبركة الشتاء هي الطمأنينة، وهذا إذا صلحت الأحوال. . . فأما إذا فسدت فلا بركة في صيف ولا شتاء
إذا لاح الصيف خرج الناس إلى المنازه، وكرهوا الحدود والقيود، فلا سقوف ولا أسوار، ولا غطاء ولا دثار، وإنما الحرية كأنما الإنسان نفس من الهواء، لا يريد إلا نفساً من الهواء
وإذا لاح الشتاء فالرياح تزمجر، والسماء تمطر، ومن فوقنا حجاب ومن ورائنا حجاب، ولا سرور إلا أن تسكن إلى الدفء الوثير بين الجدران
وهكذا تتمثل في الطبيعة غاية مطالب الإنسان: الحرية والأمان والناس يزعمون أن البركة كلها في الربيع، وأنه موسم الزهر والفاكهة، ومشهد الحب والجمال، ومعرض المدينة والريف. فهل بقيت للشتاء بقية بعد هذه المحاسن والخيرات، وبعد يقظة النفس ويقظة الدنيا؟
والناس لا ينصفون، أو لعلهم ينصفون وينسون. فبعد الربيع يبقى الشعور بالربيع، ومن أوفى نصيباً من هذا الشعور؟ أهل الربيع أو أهل الشتاء؟ الذين يجدون الربيع سهلاً غير مرقوب، أو الذين يجدونه عسيراً بعد ارتقاب واشتياق؟
ما عرف الربيع أناس كالذين اختبروا قسوة الشتاء، فالشمس ضيف ثقيل في بلاد الصيف القائظ، وطلعة جميلة في بلاد الشتاء القارس؛ والزهرة فتاة مبتذلة من فتيات الطريق عند من يشهدونها في كل يوم وفي كل مكان، وهي عروس خفرة و (رسولة) مبشرة عند من يشهدونها آونة بعد آونة، ومقبلة مع الخير والحرية ومحاسن الأرض والسماء
أهكذا وحسب؟
كلا. بل للشتاء أثر في تقويم الجمال غير هذا الأثر في تعريفنا بقيمة الربيع
للشتاء أثر في أمم الشمال نلمسه فيما رزقته من حصافة وخيال، فهو الذي علمها الشعر والفن، وهو الذي علمها العمل والصناعة، وهو الذي علم أقوامها أن يطلبوا شيئاً فوق الأمان والحرية، ونعني به سيادتهم على الأمم التي جاءتها حرية الطبيعة بغير عناء
تخيل رجل الشمال المثلج والريح تعصف، والبرق يخطف، والرعد يقصف، والسماء لا شمس فيها ولا قمر، والأرض لا زهر فيها ولا ثمر، والنفس لا ترى لها مدى تمتد فيه إلا أن تثوب إلى سريرتها وتتغلغل في طويتها، وتخلق الصور وتناجي الأحلام وتأنس بالخواطر والأشجان
وتخيل هذا الرجل منفرداً في كوخ منفرد، ولا بد من انفراد في ساعة من الساعات وفي أمد من الآماد
ألا ترى أنه خليق أن يعمر عالم السريرة بخلائق الخيال، وأحلام الشوق والجمال؟
ثم تخيل قوم هذا الرجل سنة بعد سنة وجيلا بعد جيل، وكل سنة تضيف إلى قدرتهم على كفاح الشتاء قدرة جديدة، وإلى حيلتهم في دفاع البرد حيلة مفيدة، وإلى عزيمتهم في درء السيول والأمطار عزيمة رشيدة. فكيف تراهم يكونون بعد مائة شتاء وبعد ألف عام، وبعد ما لا عداد له من أجيال وسلالات؟
ثم تعلم أن الأعصاب هي خزانة الأخلاق الموروثة والقوة النفسية المذخورة، فماذا تكون الأعصاب التي تفتلت على هذا الجلد وهذا الجليد؟ وماذا تكون الطاقة فيها على استيعاب الشعور واختزان الأحاسيس وتصوير الأخيلة والأشكال؟
ففي الشتاء تربية للخيال، وتربية لوعي السريرة، وتربية للأعصاب وتربية للأخلاق، وفي كل أولئك استزادة من نصيب الشعور، ونصيب الفهم، ونصيب العزيمة، ونصيب الخلق والإبداع
ومن ثم يأخذ القوم من الربيع فوق ما يعطيه أهله المعرضين عنه الجاهلين بقدره، الناظرين إليه عن عرض كأنه زينة نظر في ساعة صفو أو ليلة سمر، فلا أعماق له وراء ذلك ولا أسرار
على أن الشتاء قد يفرط في قوته وقسوته حتى لتبطل فيه كل حيلة الإنسان فلا يبقى له غير حيلة الحيوان: جلد دب مسلوخ، وإيواء إلى كوخ، كأنه كهف، أو كهف كأنه كوخ، وهكذا شتاء القبائل الحافين بقطب الشمال
وإن الصيف ليفرط في طلاقته حتى تنقلب إلى مطاردة كأنها الملاحقة بالسياط الكاوية، فتبطل فيه كل حيلة الإنسان، ولا يبقى له غير حيلة الحيوان: بركة ماء، أو ظلال غابة غبياء، وكذلك صيف خط الاستواء
ولا بركة في هذا ولا في ذاك، وإنما البركة فيما لم يجاوز الحدين من هذين الموسمين
وبعد فنحن نذكر بركات البرد والحر، فهلا ذكرنا أناساً لا يجدون البركة في أوان، ولا في مكان؟
يقول حكيمنا:
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير معرى أو أمير مدوج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة ... ويحوم قوتا واحد وهو أحوج
هذا الواحد أولى بذكر الألوف، لأنه واحد تجتمع منه ألوف، ولن ينساه في مستهل الشتاء إلا مخلوق يستحق النسيان، بل يستحق الذكر بالمسبة إن كانت قوانين أبناء آدم لا تذكره بالزجر والعقاب
ما تمنيت لمصر عملا من أعمال الأمم التي هدمت الديمقراطية إلا إعانة الشتاء التي يخرج كبراء الألمان لجمعها من الخاصة والعامة في الطرقات والأسواق: ذلك عمل مجيد نحن به أولى، ونحن إليه أحوج، ونحن عليه أقدر، فيما يبدو لنا من تفاوت بين رخاء بلادنا وضنك البلاد الأخرى
فإذا ألهمنا أن نعين المحتاجين منا إلى معونة الشتاء فقد حق لنا أن نسبغ على شتائنا صفة الأمان الشامل، وأن يشتمل علينا جميعاً راضين آمنين. . . ونرجو أن نلهم هذه المبرة فما فيها مشقة على قادرين ولا أشباه قادرين
وكل شيء تقال فيه كلمة ثناء، حتى الشتاء
عباس محمود العقاد